محمد نجيب خياطة رجل فقدناه

ولد فقيدنا الشيخ التقي العلامة محمد نجيب خياطة في مدينة حلب سنة 1905، وانتقل إلى رحمة الله سنة 1967.

لقد كان فقيدنا، وريث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي خلف رجالاً لا يعرفون إلا حقاً يقولونه لوجه الله لا يخشون فيه لومة لائم. لذلك حملوا لواء الدعوة الإسلامية وهم أهل علم وتقى وتأس بالرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء عناهم الله بقوله الكريم: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

وكان محمد رسولهم حبيبهم فاتخذوه أسوة حسنة لهم، ومثلاً أعلى في حياتهم فدرجوا على سنته وأشادوا بسيرته واعتصموا بزعامته صلى الله عليه وسلم.

صفاته الخَلقية:

كان فقيدنا الغالي، بديناً ذا طلعة بهية. زانه الشيب وقاراً، وكان رحمه الله يتمايل قليلاً في سيره، ويحمل عصا يتوكأ عليها. نضير الوجه، مهيباً جليلاً من رآه بديهة هابه , ومن خالطه معرفة أحبه , لما فيه من صدق لسان وصراحة وطيبة قلب , وكأن الشاعر الفرزدق كان يعنيه بقوله :

يفضي حـياءً ويفضى من مهابته فمـا يكلـم إلا حيـن يبتســم

صفاته الخُلقيه:

كلنا يتعرَّف إلى شيخنا المفضال , يعرف فيه إنساناً دائم البشر , متقرباً من الفقراء، محسناً إليهم، مجيباً لدعواتهم بعيداً عن طلب الشهرة .

شب رحمة الله على الأخلاق الفاضلة كان سمحاً لا يغضب إلا في الله إذا غضب من أحد صفح عنه بعد قليل , ويحاول الاعتذار بنفسه ولو كان الحق بجانبه . وكان رحمه الله محباً لطلب العلم ومساعداً لطلابه لا يمكن أن يرد إنساناً جاء يطلب علماً . مكرماً لهم . يقضي ساعات فراغه في تعليمهم مُضحياً في ذلك براحته، وكان رحمه الله كريماً لا يردُّ سائلاً قرضاً ولا عطاءً. عاملاً بعلمه لا يحاول الابتداع في أي شأن من شؤونه . منكباً على العلم وتعليمه . بعيدا ًعن سفاسف الحياة . لا يخوض مع الخائضين بل يقول رحمه الله كلمة الحق غير هياب ولا وجل .

علمه رحمه الله

1.في القرآن الكريم : كان رحمه الله علامة زمانه فهو شيخ القراء بلا منازع . دؤوباً في طلب العلم يستظهر متن (الطيبة ـ والشاطبية ـ والدرة)، وكان رحمه الله يتلو على طريقتها بصورة جيدة , ولم يجمع بينها ـ على ما أعلم ـ أحد في هذا الزمان، وقد تخرج عليه خلق كثير من حفظة القرآن بقرآته الشتى .

2.في الفرائض : فقه ـ رحمه الله تعالى ـ علم الفرائض وبثَّه ونشره بين العلماء وطلاب العلم تأليفاً وتعليماً. وكان هذا العلم مادته المفضلة التي بزَّ فيها العلماء . لا يبارزه عالم إلا وفاقه بكثرة دلائله وسَعَة علمه . درسه بين طلاب العلم والعلماء .وكان رحمه الله مرجعاً فيه بين فطاحل العلماء.

3.الفقه : كان رحمه الله حنفي المذهب، فيه واسع الاطلاع عليه، درسه بين طلاب العلم والعامة. وذكر أنه قرأ لطلاب العلم أجزاء ابن عابدين ـ والاختيار ـ واللباب ـ ومراقي الفلاح ـ وخاصة المدارس الشرعية والمعاهد الدينية . وكان لا يفتي إلا بعد مراجعة النص ولا يتكلم إلا حكمه .

4.الحديث الشريف : لم يكتف رحمه الله بهذه العلوم التي جعلها اختصاصاً له من علوم القراءات والفقه والفرائض بل انكبَّ آخر حياته

5.الأدب : كان رحمه الله بحاثة أديباً لا تكاد تمر سانحة إلا ذكر لها بيت من الشعر أو طرفة من الطرف الأدبية، وله في الأدب مذكرات ومخطوطات لم تطبع .

وكان له نصيب من باقي العلوم التي لم تذكر فقد درس أكثرها بجدارة ونجاح .

آثاره رحمه الله :

1. أشرف على طبع مصحف شريف، وكانت تلك الطباعة بصورة جيدة , ساعدت القارئ على سهولة التلاوة .

2. تحقيق حالة أهل الحقيقة مع الله للسيد الرفاعي رحمهما الله , طبع مراراً .

3. الدرر الحسان في تجويد القرآن , طبع مراراً ونفذ .

4. كفاية المريد في أحكام التجويد .

5. سفينة النجاة في بيان مهمات الصلاة , طبع مراراً ووزع مجاناً. وكان رائعاً في ضبط أحكامه وعباراته .

6. تنبيه ذوي الأحلام لما في يوم الجمعة من أحكام .

7. أقرب الوصول لمولد الرسول صلى الله عليه وسلم .

8. الروضة البهية شرح الرحبية , في الفرائض , طبع مراراً ودرس في المدارس الشرعية .

9. الرياض الزهية شرح السراجية في الفرائض وقد اشتهر كثيراً ودرس في المداس الشرعية .

10. مرشد الأنام إلى بيت الله الحرام .

11. وله مخطوطات ومذكرات كثيرة في العلوم المتفرقة .

مناقبه رحمه الله

1.كان رحمه الله , عفيف النفس , كريماً , انصرف كلياً لمراجعة الحديث الشريف حتى غدا متمكناً فيه .

قد دعا طلابه مراراً للخروج إلى أحد المنتزهات على أن يكون المصروف مساهمة , ثم بعد انقضاء النزهة , لا يترك أحداً يدفع قرشاً بل يأخذها على عاتقه رحمه الله .

2. ذا همة عالية في طلبه لعلم قراءات القرآن وغيرة , خرج إلى شيخه عبد القادر قويدر من ناحية عربين في غوطة دمشق , فحفظ عنده القراءات ومتني الطيبة والشاطبية في مدة أربعة أشهر مع العلم أن أحدها يستغرق حفظه العلم أكثر من سنتين , وقد دعي شيخه مرة إلى وليمة فأراد أن يصطحبه معه فأبى وقال: أنا لم آت لهذا, فرجع الشيخ من الوليمة فوجده قد أغمي عليه من الإرهاق والكتاب بيده.

3.وكان على غاية من التواضع، تخـلَّف يوماً عن حضـور الدرس فلما التقى بطلابه. قالوا له: لقد هممنا أن تأتي نجيئ إلى دارك ونذكرك بذلك، فقال : حبذا لو جئتم إن لكم علينا حقاً, حتى إن لكم أن تخرجوني من داري قسراً إن أبيت وتأخذوا بأذني إلى الدرس.

4- وكان يكثر من تلاوة القرآن الكريم، خرج مرة من حلب إلى دمشق مع صحبه فكانوا يتحدثون وهو صامت. فلما وصلوا إلى إحدى المناطق في الطريق سألوه عن سبب سكوته بإلحاح فأجاب: إنه قرأ القرآن وختمه.

5- ذا همة في نشر العلم، يخرج من داره صباحاً ولا يعود إليها حتى المساء ويقضي ذلك كله في تعليم العلم. وكان يحرص على القيام بوظائفه. حتى إذا كان عنده الضيوف في العيد وحان وقت الصلاة يقول لهم: سأذهب إلى الصلاة فإن شئتم فانتظروا فعندكم أولادي يؤانسونكم.

6- وكان محباً للفقراء. كان أحد تلامذته ومحبيه فقيراً لم ينل من الدنيا شيئاً، فهو إن قال لا يسمع. وإن شفع لا يشفع، وإن خطب لا يعطى لفقره وعجزه عن الدنيا، وكان يقطن في حي خارج البلد (الصاخور) قال له صاحبه: كيف لو أتيتك بالشيخ (نجيب)؟ فقال: وهل تستطيع؟ ومن أنا! فظنه يمازحه. وفي صباح اليوم الثاني، إذا بصديقه والشيخ يدخلان الباب بعد الاستئذان وهو يتكئ على عصاه، فطار ذلك التلميذ من الفرح، وقدَّم له الشاي والعنب. وكان الشيخ رحمه الله مسروراً.

وأذكر أن أحد الناس، وكان ميسور الحال دعاه مرة فلم يلب دعوته، مما يدل على أنه يتخلق بأخلاق السلف الصالح رحمهم الله آمين.

وظائفه رحمه الله:

1- كان رحمه الله مديراً لمدرسة الحفاظ بحلب، 2- ومدرساً في الثانوية الشرعية بحلب، 3- ومدرساً في معهد العلوم الشرعية بحلب، 4- وإماماً في جامع الثانوية الشرعية فيها.

وكان في كل ذلك مثالياً يقوم بما يجب عليه بنشاط وإتقان. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وحشره مع الصحابة والصديقين والشهداء والنبيين اللهم آمين.

ومن رثاء الأستاذ الشيخ بكري رجب له، قوله:

رزء ألم بنا وأورثنا العنا =دهراً وأشعل قلبنا إشعـالا

رزء تفاقم خطبه فينا وقد =بعث الأسى وأحلنا الأوجالا

نقلاً عن مجلة التمدن الإسلامي

الأجزاء 29-32 من المجلد34 عام 1378هـ 1967 م

نشرت الترجمة بتاريخ 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها اليوم