العالم الرباني الشيخ إبراهيم الغلاييني (6)

1300- 1377 هجرية

1882- 1958 ميلادية

نماذج من كتاباته

لم يكن الشيخ يرى نفسه أهلاً للتأليف، وكان هذا شأن أغلب علماء عصره الذين سرت بينهم المقولة المعروفة: (ما ترك الأوائل للأواخر شيئاً) وقد خسرنا الكثير بسبب هذه الفكرة.

وها أنا ذا أقدم للقارئ الكريم نماذج من كتابات الشيخ وأسلوبه في التوجيه ليتمكن من الاطلاع على هذا الأسلوب بصورة مباشرة.

ومع الأسف فإن الشيخ لم يترك لنا سوى رسالة مقتضبة وجهها لأهل القرى، وبعض الرسائل الشخصية التي أرسلها لأولاده وقد ضاع معظمها، لكني حصلت على واحدة منها كانت بحوزة عمي الشيخ سعد الدين رحمه الله، وقد طلبت من والدي حفظه الله العثور على بعض فتاويه فلم يجد منها مكتوباً إلا المسائل الفرضية، وهذه لا يفقهها إلا المختصون بهذا الفن الصعب المنال.

لذا سأذكر هنا رسالته: (القول الموجز المبين) ثم أتبعها برسالته الشخصية لابنه سعد الدين عندما كان طالباً في الأزهر الشريف:

1. رسالته (القول الموجز المبين فيما اختصره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الدين):

والآن لنقرأ هذه الرسالة التي دفعه إلى كتابتها الغيرة على دين الله لأنه علم من خلال احتكاكه بأهل القرى التابعة لقطنا انتشار عادة مخالفة للشريعة وهي نكاح الشغار(1).

كتب رحمه الله قائلاً:

الحمد لله العليم الحكيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ينبوع العلم ورافع مناره وعلى آله وصحبه الذين اقتبسوه منه اختصار النصيحة الجامعة، وعلينا معهم ورزقنا حبهم.

وبعد... فإن العلم نور مستبين والجهل عَمْيٌ وضلال مبين، وأن أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وإنه كان يدور في خلدي أن أكتب صحيفة أذكِّر بها أهل القرى واحذِّرهم فيها من عقود نكاح الشغار، وما يترتب عليها من المفاسد. وذلك لما أراجع فيه من مشاكله المحرجة الناشئة من المخالفة لهدي النبي الأعظم r، نور الهداية الحكيمة، ثم ذكرت أن هناك أمورا أعظم خطراً من ذلك. وهو جهل القرى بمهمات الدين، لذا عزمت بعد توكلي على الله سبحانه وتفويضي إليه على ذكر ما أوجزه لنا الحبيب الأعظم من جميل النصح وإجمال أمور الدين، وفساد العقود النكاحية التي يكون في غايتها ويلات على أربابها، ومثلها على الذين يرضون بهذا ويباشرون بذلك من أئمة جهلاء وخطباء متآكلين وأولياء غرّ جاهلين لا يلحظون إلا توهمهم منفعة خاصة يتخيلونها تعود عليهم بخسارات وفتن، وشهود مهمتهم أكل الحلاوي من غير روية ولا نظر في عواقب الأمور.

ولهذا وذاك أبين لإخواننا من أهل القرى على ذاك الوجه المختصر ما بيّنه سيدنا محمد r لأمته بقوله الموجز الفصل: (الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)(2).

النصيحة لله:

فالنصيحة لله سبحانه أن ننصح أنفسنا ومن استرعانا سبحانه من ولد وزوج وغيرهما من رعية أمام حقوقه سبحانه من الإكثار من ذكره أكثر من كل مذكور، وأن نحبه أكثر من كل محبوب، محبة ً تجعلنا نطيعه حق طاعته، لأن المرء لمن يحب مطيع، ولأن وجودنا ووجود الخلق كلهم بإيجاده، ومظهر وجوده وجوده.

النصيحة لكتاب الله:

والنصيحة لكتابه سبحانه أن نكثر تلاوته وأن نحفظه إن تسنى لنا ذلك. وهو أحرى بنا نصحاً لأنفسنا أمام حق حرمة هذا الكتاب العظيم.

وأن ننصح أولادنا وأزواجنا ومن تحت رعايتنا بذلك وأن نحب اللغة العربية حيث أنها لغته وفوق كل لغة. وأن نحكم أحكامه وشرعته، وأن نعتقد أن ذلك هو الحكم الرباني الذي يجب أن يتبع دون غيره من قوانين الخلق أجمع.

النصيحة لرسوله:

والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم أن نحبه عليه الصلاة والسلام وأن نحببه لأولادنا وعيالنا ومن استرعانا ربنا من رعيته فوق محبة الآباء والأمهات والرؤساء والخلق أجمعين حتى أنفسنا التي بين جنبينا، وأن نتبع سنته وهديه وسيرته خطوة فخطوة، وأن نقتدي بأحبابه الصادقين المتبعين لجنابه الأعظم صلى الله عليه وسلم وأن نكثر من الصلوات والتسليمات عليه خصوصاً في الأوقات التي سنَّها لذلك، وأن نمرن أولادنا ورعايانا على ذلك.

النصيحة لأئمة المسلمين:

والنصيحة لأئمة المسلمين، وهم العلماء العاملون والأمراء والعادلون أن نكون أزرهم وعوناً لهم في سائر الشؤون بعد ثبوت ما سلف من تلك النعوت العاملة والحالة الكاملة.

النصيحة لعامة المسلمين:

والنصيحة لعامة المسلمين أن تحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك وأن تكره له ما تكره لنفسك، وان تذر موالاة أعداء الله تعالى ولا تؤثرها على موالاة أخيك المسلم لأن أخاك أخاك وإن جفاك، وإنَّ عدوك عدوك وإن والاك، فكيف بعدو ربك ونبيك وقرآنك وسيبرك كله.

فإن أظهر لك أنه يحب شيئاً من ذلك فهو محض كذب ونفاق يضمه إلى كفره وعدائه الصميم:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] ومن حق أخيك المسلم أن تسعى بما يمكنك من مسعى وراء مايو صل له حاجة أو منفعة، ولو بنيتك الصادقة التي يعلمها الله سبحانه وتعالى من قلبك إن عجزت عن معونته بيدك أو بلسانك أو بخطواتك أو بقلمك والله الموفق لا رب غيره ولا خير إلا خيره، وهو ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق وهو حسبنا ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.

1 - نكاح الشغار هو أن يزوج الرجل موليته: بنته أو أخته، على أن ينكحه الآخر موليته، ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى، وهو باطل عند جمهور العلماء، فإن وقع فسخ النكاح عندهم سواء قبل الدخول أو بعده.انظر الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور: وهبة الزحيلي 7/116-117 (المؤلف).

2 - أخرجه مسلم في صحيحه طرف حديث رقم 55 من رواية تميم الداري رضي الله عنه 1/74