العالم الرباني الشيخ إبراهيم الغلاييني (2)


1300- 1377 هجرية
1882- 1958 ميلادية


البيئة السياسية والفكرية التي نشأ فيها صاحب الترجمة
أما البيئة السياسية فقد شهد النصف الأول من القرن العشرين –وكان عمر الشيخ سبع عشرة عاماً في بداية ذلك القرن – أحداثاً جساماً كان لها الأثر الفعَّال على ما شهدته سورية والمنطقة العربية على وجه الخصوص من تغيرات فكرية واجتماعية وسياسية.
فقد قام: ( بلفور) وزير خارجية بريطانيا آنذاك بإعطاء وعد لليهود لإقامة دولة لهم في فلسطين عام 1917 م ،وقبل هذا كانت بريطانيا تبذل الوعود المعسولة للشريف حسين بإقامة مملكة عربية برئاسته، ولكنها كانت تحيك في الخفاء مؤامرة دنيئة مع فرنسا لتقسيم الأقطار العربية فيما عرف باتفاقية سايكس –بيكو وذلك عام 1916م.
وبناء على هذه الاتفاقية احتلت فرنسا سورية عام 1920 ولم تخرج منها حتى عام 1946م وتم إلغاء الخلافة العثمانية رسمياً على يد مصطفى كمال عام 1924 م ، وبهذا تمهد الطريق أمام بريطانيا لتنفيذ وعد وزير خارجيتها بلفور.
وبحلول عام 1948 م حصلت النكبة الكبرى باغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية، وبتمهيد ومباركة ودعم دولة الانتداب بريطانيا.
لقد كانت هذه أحداثاً جساماً ألقت بكاهلها على المسلمين عموماً وبخاصة أهل العلم والفكر والمعاصرين لتلك الفترة، إذا لم يقتصر أثرها على التغيرات السياسية فحسب بل كان الخطر الأنكى هو التأثير الفكري الذي رافقها ونتج عنها، والذي كان بمثابة اختبار حقيقي لعقيدة الأمة وثوابتها الفكرية.
أما بالنسبة للبيئة الفكرية فقد كان العلماء في الفترة التي عاش فيها الشيخ يقارعون على جبهتين رئيستين الأولى: الوقوف في وجه التيارات الإلحادية والعلمانية، وقد جاءت نتيجة الغزو الفكري المنظم الذي دبره أعداء الأمة المسلمة منذ انتهاء الحروب الصليبية التي فشلت في مد سيطرتها على العالم الإسلامي، ومن ثم عززت بقيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 م. والتي أسهمت في بلبلة المعتقدات الدينية إلى حد كبير.
والجبهة الثانية تمثلت في الوقوف في وجه المستعمر الفرنسي الذي احتل سوريه بعد انهيار الخلافة العثمانية زاعماً أنه إنما جاء لنشر المدنية الحديثة وإعمار البلاد.
لقد كان العلماء روح الأمة الصامد أمام هذه التيارات والتحديات، فدمشق كانت عاصمة الدولة الأموية المسلمة في فجر الإسلام، ومنها انطلقت جيوش الفتح الإسلامي حتى وصلت في عصرها إلى الصين شرقاً وإلى حدود فرنسا غرباً، ولذا فلم يكن من المصادفات أن تبدأ جميع المظاهرات ضد المستعمر الفرنسي من الجامع الأموي تتقدمها ثلة من العلماء، كما لم يكن عجباً أن يسجل التاريخ أن الشرارة الأولى التي انطلقت منها الثورة السورية الكبرى عام 1925 م كانت على يد المحدِّث الأكبر الشيخ: (بدر الدين الحسني) وصحبه من علماء دمشق الأجلاًّء من أمثال الشيخ علي الدقر والشيخ هشام الخطيب رحمهم الله، فقد بدأت الثورة مباشرة بعد عودتهم من جولة في المدن السورية الكبرى حيث بيّنوا أحكام الجهاد في الإسلام ودعوا المواطنين للثورة ضد المستعمر الفرنسي المحتل(1).
لقد اتّبع الشيخ إبراهيم الغلاييني نهج شيخه الشيخ بدر الدين الحسني كما سوف نرى فقارع على الجبهتين معا: الوقوف في وجه الإلحاد والانحلال من قيم الإسلام وأحكامه، ومجابهة الاستعمار ومكائده، وكتب له التوفيق في كلتيهما والحمد لله.
لقد عثرت على وثيقة تاريخية هامة تثبت اهتمام العلماء في تلك الفترة بقضايا أمتهم وهمومها، وهي البيان الصادر عن مؤتمر العلماء الأول المنعقد في دمشق عام 1937م.
وقد شارك الشيخ إبراهيم فيه ممثلاَ عن وادي العجم ( وهو الاسم الذي كان يطلق على منطقة قطنا) لأنه كان آنذاك مفتياً له.
لقد فند العلماء المؤتمرون مزاعم المستعمرين الذين اتخذوا من ذريعة حماية الأقليات الدينية تكئة لاستعمارهم، وحثوا على الوقوف في وجه دسائسه ودعوا المسلمين إلى النهوض من كبوتهم، والتخلص من عوامل الضعف، كما تطرقوا للحديث عن قضية فلسطين في تلك الفترة التي لم تكن فلسطين قد اغتصبت بعد. ولكن مؤشرات الخيانة من بريطانيا لم تكن خافية عن هؤلاء العلماء الأجلاّء الذين كانوا ولا يزالون يعيشون قضايا أمتهم(2)
الولادة والنشأة
ولد الشيخ إبراهيم بن محمد خير بن إبراهيم بن محمد الأصيل المشهور بالغلاييني في مدينة دمشق عام 1300 هـ الموافق 1883م من أسرة ملتزمة بالدين، وكان جده الأعلى (والد جده) واسمه: (محمد) حلبي الموطن، وقد رحل إلى استنبول فأقام فيها مدة، ثم أتى بتجارة إلى دمشق فاستقر فيها.
كانت ولادته في حي العقيبة في دمشق في حارة تعرف ( بتحت المئذنة ) وهي سكنى والده، ثم انتقلت العائلة إلى حي السمانة المجاور لجامع السمرقندي الملقب بجامع التينة، وهناك نشأ الشيخ.
كان والده محمد خير تاجراً يبيع المنسوجات ( وبخاصة الشراشف) بسوق الخياطين، وكان إلى جانب هذا حريصاً على حضور دروس العلم مما دفعه ليكون مؤذناً لمسجد اشتهر باسم: (جامع السرايا) لقربه من قصر العدل.
أخذ الشيخ عن والده حب أهل العلم ودروسهم، فكان شغوفاً بها منذ نعومة أظفاره، وظهر تدينه في فترة مبكرة جداً عندما كان يساعد والده في محله التجاري بدمشق، فقد لاحظ والده عليه غض البصر حين حضور النساء للمحل للشراء، وكان لا يرغب بالبيع لهن وهو لا يزال غض الإهاب، فقال له والده: يبدو يا بني أنك لست من أهل الدنيا، ولذلك وجهه لطلب العلم منذ نعومة أظفاره وشجعه على ذلك وكان في الخامسة عشرة من عمره.
طلبه للعلم وشيوخه الذين تلقى عنهم:
تلقى الشيخ تعليمه الابتدائي في المدرسة السفرجلانية، وكانت وقتها من أشهر المدارس في دمشق وتقع في سوق الخياطين، وفيها تلقى مبادىء العلوم الشرعية والعربية وبعض المواد العلمية كالحساب والهندسة. وكان الشيخ عيد السفرجلاني رحمه الله من أشهر أساتذتها. (3)
كانت دمشق في أواخر القرن التاسع عشر تزخر بعلماء أجلاء كُثر، وكانوا يعقدون حلقاتهم في مساجد دمشق العامرة بطلاب العلم، وفي مقدمتها الجامع الأموي الذي حظي بعالم فذ ندر وجود مثيل له هو المحدث الأكبر: ( الشيخ بدر الدين الحسني ) رحمه الله والذي برع في فن الحديث رواية ودراية، وكان ثبتاً حافظاً يروي الحديث بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ظهر قلب، وكان هذا العالم الجليل من أهم شيوخ الشيخ إبراهيم، فقد تلقى عنه فن الحديث وعلومه لسنوات عدة، وهذا ما يفسر لنا كثرة استشهاده بالحديث النبوي في خطبه ودروسه ومواعظه كما سوف نرى.
نهج الشيخ طريقة أهل العلم في الطلب، فأخذ العلوم الشرعية والعربية عن أكابر أهل العلم في عصره، فأخذ الفقه الحنفي عن مفتي الديار الشامية الشيخ عطا الله الكسم (1260-1357هـ) لمدة ست سنوات، كان بصحبته في هذا الطلب الشيخ عبد الوهاب الحافظ الملقب دبس وزيت. كما أخذ علوم العربية عن الشيخ محمود العطار من قرية كفرسوسة من ضواحي دمشق. وممن أخذ عنهم علوم العربية أيضاً الشيخ عبد القادر الاسكندراني في العقيبة من أحياء دمشق. وقد حصل الشيخ على إجازات مكتوبة من هؤلاء الشيوخ الأفاضل(4).
أما علم السلوك فأخذه عن الشيخ المربي: عيسى بن طلحة الكردي الشافعي (1247-1331) وكان له قصب السبق في هذا المجال، فقد تلقى عنه الطريقة النقشبندية، وأجازه فيها، ولازمه لفترة كافية، وقال له في نهاية المطاف: (الآن يا إبراهيم صرت شيخاً كاملاً ومكملاً ) (5).
لقد كان للشيخ عيسى رحمه الله طاقة روحية نافذة، وقدرة عجيبة في تربية مريديه والتأثير فيهم، وقد بدت ملازمة الشيخ له في أواسط العشرينات من عمره مما ترك أثراً كبيراً في نفسه وسلوكه لازمة طيلة حياته، وقد اتبع الشيخ عيسى طرقاً عدة لتوجيه مريديه كان لها الأثر الفعال في سلوك تلامذته. (6)
كما تلقى عن الشيخ: سليم المسوتي صاحب المناقب المشهودة في علم السلوك أيضاً.
ومن العلماء الذين تلقى عنهم أيضاً الشيخ عبد الرحمن البرهاني الحنفي(7). والشيخ سليم النطفجي وهو والد زوجته أيضاً.
جهود الشيخ الدعوية في دمشق:
بدأ الشيخ نشاطه الدعوي في جامع السمرقندي بدمشق فقد تولى إمامته، وإقامة
الدروس فيه ، فكان يلقي درساً يومياً بعد صلاة العشاء، كما كان يعقد الختم النقشبندي(8) ليلاً كل يومي اثنين وخميس، وكان من أشهر تلاميذه في تلك الفترة الشيخ والداعية المعروف محمد بدر الدين عابدين رحمه الله(9).
الشيخ في قطنا:
قطنا بلدة هادئة تقع على جانب السفح الشرقي لجبل الشيخ إلى الجنوب الغربي من دمشق، وتبعد عنها مسافة 24 كم، ويقطن فيها إلى جانب المسلمين نسبة من النصارى قد تصل إلى ثلث أهلها في تلك الفترة.
امتهن معظم أهلها الزراعة في تلك الفترة، ولكن حالتهم الاقتصادية كانت ضعيفة، وكان المسلمون يقترضون من غير المسلمين عند الحاجة - وأحياناً بالفائدة - وكانوا كذلك يلجؤون إلى زعمائهم – على قلة- لفض بعض النزاعات التي قد تنشب بينهم، وقد بدأت هذه البلدة مرحلة جديدة من تاريخها بعد انتقال الشيخ إبراهيم إليها.
ظهرت بوجود الشيخ في قطنا كإمام وخطيب لجامعها الوحيد آنذاك: ( الجامع العمري ) الواقع في السوق الرئيسي للبلدة نهضة إسلامية شاملة، فصار هو المرجع في حل أي خلاف يقع بين المسلمين، وارتدع المسلمون الذين كانوا يقترضون بالربا من غير المسلمين، و بدأ عدد المرتادين للمسجد يزداد .
أما قصة قدومه إلى قطنا فقد بدأت من قبلَ الشيخ:( أحمد الأحمر) شيخ قطنا آنذاك، وهو في الأصل من بلدة: ( التل ) المجاورة لدمشق، حيث أصر على الشيخ إبراهيم بالانتقال إلى قطنا لاستلام إمامة مسجدها والخطابة فيه، وقد أبى صاحب الترجمة قبول هذا حتى يستشير شيخه (عيسى الكردي) في هذا الأمر، فأشار عليه بالقبول ولكن بشرط عدم قبول راتب على هذه المهمة لأنها تتعلق بإقامة شعائر تعبدية، والأصل في هذا عدم أخذ الأجرة عليها كما هو معلوم عند الفقهاء المتقدمين. أخذ الشيخ بهذه النصيحة، فرحل إلى قطنا عام 1329 هـ الموافق 1911م وكان يأخذ معه من دمشق بعض المأكولات ليبيعها في قطنا ليكسب منها قوت العيش، إلى جانب قيامه بواجبه الشرعي في الإمامة والتدريس والخطابة متطوعاً.
كما قامت زوجته بمساعدته في هذا الشأن، فكانت تجلب معها بعض المنسوجات واللوازم النسائية لتبيعها للنساء هناك. (10)
أبى كرم أهل قطنا أن يظل حال الشيخ على هذا المنوال من الكدح فصاروا يجلبون إلى داره شيئاً مما يزرعون من قمح ليعينه على معيشته عند جني المحصول. وقد ظل الشيخ على هذه الحالة لمدة تقارب الخمس سنين، ثم عرض عليه قاضي قطنا الشرعي تولي مهمة القضاء عنه ولكنه رفض(11)، ولكن لما عرض عليه منصب الإفتاء قبل به، فرفع اسمه إلى الآستانة (استانبول) فجاء تعيينه من قبل مشيخة الإسلام، وبقي في هذا المنصب إلى ما قبل وفاته بستة أشهر عام 1958م
حيث قدم الشيخ رحمه الله استقالته من منصب الفتوى لأسباب صحية، وتم تعيين ابنه الشيخ عبد الله رحمه الله مفتياً من قبل وزارة الأوقاف في حياة والده.
انتقل الشيخ إلى دمشق قبل وفاته بشهر ونصف، وقد توفي فيها في 15 شوال عام 1377 هـ الموافق 5 أيار 1958م عليه رحمة الله ورضوانه، وشيع في جنازة مهيبة مشهورة، حيث صلي عليه في الجامع الاموي وشيع مشيا على الأقدام الى مقبرة باب الصغير والتي يوجد فيها قبر سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه.

1 - ذكرت هذه المعلومات في التقرير الرسمي لمندوب المفوض السامي الفرنسي الذي نشرته جريدة الأحرار في بيروت العدد:678 والفضل ما شهدت به الأعداء. أما الحوادث التي وقعت في جبل السويداء فقد جاءت بعد ذلك، ومن العجيب أن ينسب لأهل الجبل إشعال الثورة السورة الكبرى!!( أنظر مذكرات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:ج1 ص219 الطبعة الثانية 1989) .
2 - قامت اللجنة التنفيذية المركزية للمؤتمر بطباعة البيان الصادر عن المؤتمر في مطبعة الترقي بدمشق عام 1357هـ/1938م. ونظراً لأهمية هذا المؤتمر من الناحية التاريخية فسوف أعطي ملخصاً عن هذا البيان في ملحق هذا الكتيب إن شاء الله، فلعل هذا يسهم في تغيير الانطباع السلبي السائد الذي حاول أعداء الإسلام إلصاقه بعلمائنا الأجلاء.
3 - تحدث الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مذكراته كثيراً عن هذه المدرسة التي درس فيها لسنوات عديدة.
4 - رأيت هذه الإجازات بنفسي بمكتبة والدي رحمه الله لكنها مع الأسف ضاعت بعد ذلك.
5 - نقلاً مما خصني به عمي الشيخ سعد الدين رحمه الله كتابة ص2
6 - من هذه الطرق التي كان يربي بها الشيخ عيسى مريديه عليها الخلوة، ولذا كان يأمرهم بالاعتكاف في مكان بجبل قاسيون المطل على دمشق لمدة معينة، وقد روى لي والدي حفظه الله بأن جدي قام بذلك وكان سنه آنذاك خمسة وعشرون عاماً، وكان والده يأتيه بالطعام الطازج فلا يأكله ويوزعه على الفقراء، ويكتفي بالخبز الجاف وبعض الإدام، وروي عنه قوله عن هذه التجربة: ( شعرت كأنما نفسي الأمارة بالسوء قد خرجت من بين أضلعي ) وقد قال هذا في مجلس خاص لأولاده تشجيعاً لهم، ولم يقله في مجلس عام لأنه كان يكره الحديث عن نفسه كما يكره أن يمدح في وجهه.
7 - ذكر هذا الشيخ عبد الطيف فرفور في كتابه، أعلام دمشق في القرن الرابع عشر الهجري:ج3 ص4-5
8 - وهو عبارة عن جلسة ذكر يتولى الشيخ إدارتها، وتشتمل على أذكار مأثورة وأدعية، وليس فيها وقوف أو تمايل كما تفعل بعض الطرق الصوفية الأخرى.
9 - سبرد الحديث عنه حبن الكلام عن تلاميذ الشيخ.
10 - علما بأن زوجته كانت على قدر لا بأس به من العلم الشرعي فهي ابنة الشيخ سليم النطفجي كما عرفنا، وكان لها دور هام أيضاً في توجيه النساء المسلمات في قطنا إذ كانت تعقد لهن دروساً عامة في المسجد.
11 - لعله في هذا كان يقتفي أثرالأئمة الورعين ومنهم الإمام أبي حنيفة رحمه الله لأنه جلد على تولي القضاء زمن أبي جعفر المنصور فرفض تورعاً