العالم الرباني الشيخ إبراهيم الغلاييني (1)

 

1300- 1377 هجرية

1882- 1958 ميلادية

مقدمة:

الحمد لله تعالى القائل: (( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ))(1) والصلاة والسلام على الرحمة المهداة سيدنا ونبينا محمد القائل فيما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه: (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )(2).

وبعد: فإن الدارس للتاريخ يلحظ أن الأمم الحية تنبت - وباستمرار- رواداً يأخذون بيدها في أيام الشدة، ويرشدونها في أيام الرخاء، ويبينون لها طرق الحق آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر. والأمة المسلمة لها قصب السبق في هذا المجال، فقد أكرمها الله بعلماء أجلاء منذ انبلج نور الأسلام فكانوا نجوما زاهرة يهتدي بهم المسلمون، ويغترفون من معينهم . وهذا فضل الله يعطيه من يشاء. ولعل هذا ما أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام فيما رواه معاوية رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ". قَالَ عُمَيْرٌ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. (3)

إن الأمة الإسلامية – مهما ضعفت – تظل من الأمم الحية لأنها صاحبة رسالة سامية خالدة. فالله سبحانه قد اجتباها لحمل رسالته فقال عز من قائل: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ))( 4).

وإذا كان الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة ببعثه نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فكان النبي والقائد والرائد، فليس معنى هذا أن تموت الأمة بوفاته وإنما يتابع المسيرة بعده ورثة الأنبياء. وهم العلماء العاملون كما رأينا في الحديث الآنف الذكر. لهذا نبهنا الله سبحانه لهذا فقال: ( وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) (5).

لقد شهد القرن العشرين – قرن الصراع مع الاستعمار وأذياله – علماء أجلاًّء من أنحاء العالم العربي والإسلامي وقفوا في وجه المستعمر، وفي وجه الإلحاد والشكوك التي بثت ضد هذا الدين، متسلحين بإيمانهم وثقتهم المطلقة بالله سبحانه. فالتفت حولهم الجماهير المسلمة، وخاضت معارك الفكر مصحوبة بمعارك التحرير، فحمت معالم الدين من أن تزول، وأخرجت المستعمر الغاصب محررة أوطانها من دنسه مدحورا والحمد لله.

من منا لا يذكر (محمد علي السنوسي ) في المغرب العربي والذي تحركت مشاعره الإيمانية الفياضة بعيد الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830م فتحرك في طول البلاد العربية وعرضها باحثاً ومتدبراً حتى أنشأ حركته المنسوبة إليه والتي دعت إلى تحرير العقل من الخرافة، والروح من الخنوع والتواكل، والأرض من أيدي المستعمر. وكل هذا باسم الإسلام وتحت رايته. وما البطل عمر المختار إلا ثمرة من ثماره.

وكذلك كان الحال بالنسبة لجماعة علماء المسلمين في الجزائر بقيادة الشيخ عبد الحمبد بن باديس والتي نظمت وقادت حركة الجهاد في الجزائر ضد المستعمر الفرنسي. وكذا الأمر بالنسبة لدور الأزهر وعلماؤه في التصدي للمستعمر البريطاني في مصر، وعلماء سورية في التصدي للمستعر الفرنسي، وكذا الحال بالنسبة لحركة الإصلاحية لعبد الرحمن الكواكبي في سورية وغيرهم كثير. (6)

إن الإصلاح الجاد الناجح لا يمكن أن يقتصر على الجانب السياسي، بل لا بد أن يكون شاملاً للجوانب الأخرى العقدية والروحية والاجتماعية والاقتصادية أيضاً، وإنًّ أعظم ما يمثل هذه الشمولية هو الإسلام نفسه بشرط أن نأخذه ونتبناه جملة لا تفاريق مبتوتة عن أصلها.

ليس من هدفي هنا أن أؤرخ للحركة الإصلاحية في عصرنا الحاضر، ولكني أعطيت نماذج قليلة لأبرهن على أنّ هذه الأمة أمة معطاءة ، فهي لا زالت بخير بفضل الله أولاً ثم بفضل ما تنجبه من علماء عاملين صادقين.

فإذا أكرم الله هذه الأمة بعلماء واعين يأخذون هذه الجوانب جميعها بعين الإعتبار ويتعاونون فيما بينهم للنهوض بالأمة، فإنها وأيم الله بداية النهضة الجادة المرتقبة:

الفجر يومض مشرقا=بشريعة المستقبل

بشريعة الإسلام=منهاج الحياة الأفضل

ولعل في إلقاء الضوء على علماء كانت لهم إسهامات في هذه الجوانب في تاريخنا المعاصرما يبث في أجيالنا روح الأمل، ويحضها على البذل والعطاء، ويعطيها نماذج ً يحتذى به في عالم الإصلاح والنهوض والعطاء.

من أجل هذا أكتب اليوم عن سيرة عالم رباني عامل أمضى حياته معلماً وناصحا ومربياً، وما هو إلاّ أنموذج طيب أخرجته أمتنا كما أخرجت الكثيرين، وستخرج في المستقبل بتوفيق من الله وعونه المزيد والمزيد. وهذا كله لم يكن ليرى النور لولا نعمة الإسلام التي حبانا الله إياها. وصدق الله إذ يقول ( وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون )(7).

فلا زلت أسمع بالسيرة العطرة لجدي الشيخ إبراهيم من أقاربي ومن العلماء ومن معارفه على مختلف مستوياتهم منذ نعومة أظفاري. ولا زالت بعض الصور المشرقة عالقة في مخيلتي عندما أكرمني الله بخدمته في منزله في فترة الصيف وأنا في التاسعة من عمري، وكنت أترقب أن يقوم أحد محبيه أو تلاميذه بكتابة شيء من هذه السيرة الكريمة لتكون مثالاً يحتذى وحافزاً لطلبة العلم ليضعوا أنفسهم بالموضع اللائق بهم، وينهضوا بحق هذا الدين الحنيف كما فعل من سبقهم من العلماء.

ولكن وبعد أن طال انتظاري ، وانتقل أولاد الشيخ ومعظم تلامذته ومعارفه إلى جوار ربهم رحمهم الله جميعا رحمة واسعة، فلم أجد بداً من التشمير عن ساعد الجد – رغم بضاعتي المزجاة- لأكتب عن سيرته حفاظا عليها من النسيان و لعلًّ الله سبحانه ينفع بهذه الترجمة من يقرؤها فربًّ مبلغ أوعى من سامع. (8)

لقد كان أملي وأمل والدي الكريم أن نعثر على فتاوى مكتوبة له لأقوم بتحقيقها علمياً، لكننا لم نعثر على شيء من ذلك سوى بعض الفتاوى المتعلقة بالإرث (توزيع التركة )، وهذه لا تفيد إلا المتخصصين في هذا الفن صعب المنال.

بدأت بجمع مادة هذا الكتيب منذ عشرين سنة بتشجيع من والدي الكريم رحمه الله، وكانت الدراسة وظروف الغربة تحول دون إنجازه، ولكني عقدت العزم مؤخراً على إتمامه وفاء بحق هذا العالم الجليل، واستنهاضاً لهممنا كي نحذو حذو الشيخ رحمه الله في سلوكنا.

اعتمدت بصورة أساسية في إعداده على ما وافاني به والدي الكريم رحمه الله، وعلى ما كتبه عمي الشيخ سعد الدين رحمه الله لي خاصة بعد إلحاحي عليه بذلك، حيث كتب خمس عشرة صحيفة عن سيرة والده بخط يده، كما عرضت بعضاً مما كتبت على عمي الكبير الشيخ محمد بدر الدين رحمه الله عند زيارته لي في الرياض، كما أفدت كثيراً مما كان يحدثني به أستاذي – تلميذ الشيخ النجيب – الدكتور محمد أديب صالح عن الشيخ الراحل. وقد أفدت أيضاً مما كتبه المؤلفون والمترجمون عن الشيخ، فجزى الله الجميع عنا خير جزاء.

إن الذي يلفت نظر الدارس لسيرة الشيخ وجود إجماع من قبل جميع من عرفوه واختلطوا به على التأثير الكبير الذي تركه الشيخ في كل من تعلم منه أو استمع إليه، فما هو السر الكامن وراء هذا ياترى ؟ سوف أترك الجواب للنهاية بعد أن يقوم القارئ بالإطلاع على سيرة الشيخ. ولكن أسارع إلى القول بأن الشيخ لم يكن يعظ ويعلم بلسانه فحسب بل كان يفعل هذا بحاله، فحاله كان أبلغ من مقاله.

وأمر آخر لفت نظري وأنا أدرس سيرته وهو اجتماع خصلتين قد تبدوان في نظر الكثيرين متناقضتين، وقد اجتمعا معاً في شخصيته وهما: النزعة الصوفية التي تعني بتزكية النفس والإقلال من العلائق لأنها تشغل عن الخالق، مع الاهتمام بأمور المسلمين الخاصة والعامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مناسبة، وفي أي فرصة تتاح. ومن قيض له رؤية صوره الفوتوغرافية يرى أن معظمها أخذت له وهو يشارك في أمر عام يهم المسلمين. (9)

والحقيقة أنه لا تناقض بينهما لأن من يزكّي نفسه، ويصل قلبه بالله سبحانه وتعالى لا يخشى في الله لومة لائم، فتراه يدور مع الحق أنَّى دار غير هيًّاب ولا وجل، بل إنني أعتقد أن من المصائب التي حلَّت بالمسلمين في العصور المتأخرة ، فصل هذين الأمرين عن بعضهما، فغدا الذين يعنون بتزكية النفس- في الغالب- بعيدين عن قضايا الأمة وآلامها . وأصبحت الغالبية ممن تعنى بقضايا الأمة لا تعنى كثيراً بأمر التزكية ، وربط القلوب بعلاًّم الغيوب.

لقد قضيت مع هذا الكتاب أياماً طيبة مباركة شملتني خلالها روحانية الشيخ وكريم سيرته، ولكن لازمتني أيضاً حسرة شديدة من جرًّاء المقارنة التي كنت أعقدها في مخيلتي بين حال أولئك الصفوة من العلماء وحالنا في هذه الأيام ! ولعل مما يخفف من هذه الحسرة أنًّ هذه سنة الله في خلقه. فالرواد قليلون كما أخبر الصادق المصدوق :( إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة )(10).

إنًّ من أهداف هذا الكتيب استنهاض الهمم، همم إخواني أهل العلم كي يحذوا حذو هذا الرعيل الذي لا يفصلنا عنه ردح من الزمن بعيد بل هو قريب قريب. ورحم الله القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني الذي لخص أخلاق العالم المعتز برسالته فقال:

ولم أبتذل في حدمة العلم مهجتي=لأخدم من لاقيت لكن لأُخدما

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة=إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أنًّ أهل العلم صانوه صانهم=ولو عظًّموه في النفوس لعُظما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا=محياه بالأطماع حتى تجهما

وما كل برق لاح يستفزني=ولا كل من لاقيت أرضاه منعما

أما خطتي في هذا الكتيب فكانت أن تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة فجاء في تسعة مباحث وملحق وفق ما يلي:

1. البيئة السياسية والفكرية التي نشأ فيها .

2. السيرة الذاتية.

3. أسانيد الشيخ في الحديث.

4. الصفات التي تحلى بها.

5. أساليب التعليم والتوجيه والفتوى عند الشيخ.

6. نماذج من كتاباته.

7. تلاميذه.

8. قطوف من أقوال بعض عارفيه.

9. وفاته.

- ملحق عن مؤتمر العلماء الأول المنعقد بدمشق عام 1938 م

هذا ما أعانني الله عليه وأرجو ممن لديه إضافة - وبخاصة ممن عرف الشيخ عن قرب- أن يوافنيني بها مشكورا على عنواني البريدي. (11)

أسأله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا من سيرة هذا العالم العامل لننسج على منوالها، وأن يجمعنا به تحت لواء سيدنا هادينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم يوم يقوم الناس لرب العالمين، إنه وليِّ ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

1 - سورة المجادلة: 11

2 - أخرجه أبو داود في سننه 3/317، وابن ماجة في سننه 1/81، والترمذي في سنن 5/49 وإسناده حسن.

3 - البخاري (3641) ومسلم (1037

4 - سورة آل عمران: 110

5 - سورة آل عمران:144

6- صحيح أن الكواكبي لم يكن عالم دين، ولكن دعوته كانت تنطلق أساساً من فهمه الواعي لحقائق الإسلام. فقد انطلق في حركته الإصلاحية من مفاهيم إسلامية محضة ، اكتسبها من احتكاكه برواد حركة الإصلاح في مصر عندما كان فيها، فهو يرجع أسباب فتور المسلمين - وهو المصطلح الذي اختاره بديلاً عن تأخر المسلمين – إلى: تأصيل الجهل، وفقدان الرابطة الدينية، وفقدان الحرية والشورى، وعدم اشتراك أهل الحلِّ والعقد في أمور الحكم. وللمزيد أنظر كتاب اليقظة الإسلامية في مواجة لإستعمار بأنور الجندي ص:172

سورة الزخرف:44

7 - نعم قام بعض المؤلفين الذين ترجموا لعلماء دمشق في القرن المنصرم بالترجمة للشيخ – جزاهم الله خيراً 8 ولكنها جاءت مختصرة ولا تفي بحقه علينا، وجلًّها لم يظهر الجوانب المتعددة لشخصيته بل ذكر ما هو شائع عنه بدون تعمق كما هو الشأن في كتب التراجم. كما قام تلميذه النجيب الدكتور محمد أديب صالح بالكتابة عنه باختصار في كتابه: هكذا يعلم الربانيون وأنا بصدد طباعة هذا الكتاب.

9 - أنظر ‘لى سبيل المثال الصور المنشورة في كتاب: القضاء الرباني بوفاة الشيخ أبو الخير الميداني. للشيخ: محمود الرنكوسي رحمهما الله

10 - أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/70 من رواية زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، والراحلة من الإبل من تكون قوية على متابعة السير في الصحراء بدون كلل.

11 - عنواني البريدي هو [email protected]