شيخنا عدنان مناجاة محب

اللهمَّ لك الحمد تعطي وتأخذ، تمنحُ وتمنع، تؤتي وتنزع، تقدِّمُ وتؤخِّر، ترفعُ وتخفض، وفي الأحوال جميعاً أنت الكريم الحكيم، نرضى بقضائك، ونُسلِّم لك تسليمَ المخلوق للخالق، وتسليمَ العبد للسيد.

أما التأبين لعبدك الذي هو في ضيافتك الآن (محمد عدنان السقا) فلن أشارك فيه؛ ذلك أني أحسب أنه لم يمت، بل انتقل من دار إلى دار، الدار التي غادرها، دارنا، هي الموت؛ لأنها دار فناء، والدار التي هو فيها الآن، هي دار الحياة؛ لأنها دار البقاء.

مشكلتنا نحن البشر الذين كرَّمهم الله تعالى بالعقل، أننا ما زلنا نخلط الأمور ونلبِّسها، لم تتحدَّد لدينا بعد المفاهيم، وإن قلنا ذلك بألسنتنا، لكن بالتنزيل على الواقع نخالف أو نناقض ما يجري على الألسنة، ونرجع القهقرى إلى المفهومات الشائعة التي لا تزال أقوى سيطرة وأكثر جاذبيَّة.

الحق أن الموت يعقب حياة (زائفة) في الدنيا، وأن الحياة الحقيقية هي – بحسب التعبير القرآني – الحيوان الجديرة بالاسم.

على أنَّ الحياة الزائفة التي نعيشها في الدنيا هي الجسر الذي نعبر عليه إلى الآخرة حيث الحياة، فمن صلح في الأولى كانت له الآخرة، وإلا لم تكن له.

وهنا لابدَّ أن نلتفت أو نلفت إلى أنَّ مفهوم الحياة في الآخرة مختلف، فالحياة في الآخرة ليست نموًّا وعيشًا كما هو الحال في الدنيا.

الحياة هناك نوعان:

حياة نعيم، أو حياة عذاب، والناس إما من أهل هذه أو تلك.

سامحوني أيها الإخوة الأكارم، إذا أثقلت أو غدوت ثقيلاً بكلامي هذا، ولم أدخل في موضوع شيخنا الراحل مباشرة.

أثقلت، لأني أريد أن أقول: إنَّ شيخنا – ولا نزكِّيه على الله، فهو أدرى به وأعلم – هو من أهل حياة النعيم في الآخرة، هو – إذن – رحل من الزيف إلى الحقيقة، ومن الانقطاع إلى الوصل، ومن الشقاء إلى النعيم.

لن أتراجع عمَّا قلت في بداية كلمتي: أنا لن أؤبِّن الشيخ، وأحكي عنه، بل عندي لهفة وشوق لأن أناجيَه، نجوى المحبِّين، لذلك لن أستخدم ضمير الغيبة، بل ضمير الخطاب، فالشيخ رحل بعرفنا، لكنه أقام بعلم الله.

يا شيخنا عدنان!

هل أذكرك – وأنت أعلم منا – بمعنى اسمك، كأنَّ الله قدَّر أن يكون اسمك عنواناً على ما أنت فيه الآن.

اسمك لم يكن باعتبار ما كان، بل باعتبار ما سيكون.

تقول معجمات اللغة: إن العدنان هو الدائم الإقامة والبقاء الذي يألف المكان فلا يبرحه، وأنت الآن وجدتَ المكان الذي أنتَ أهلٌ له، فأقم وابقَ في دار الخلود.

وهل أذكِّركم بأنَّ الجدَّ الأعلى للرسول صلى الله عليه وسلم هو (عدنان) النبي العدنان.

وهل أذكِّركم وأذكِّر نفسي؟ وأتوجَّه إليه بالخطاب، لأنه حاضر لم يغب، بأن الشيخ هو السقا الذي سقانا وسقى الكثيرين ماءً وحبًا، وقيَمًا ودينًا، وعزيمة وصدقًا، وروحانيات...

يا شيخنا عدنان!

كنت أمَّة وحدك، عَرَّاب حبٍّ لا تُبَارى، ولا تُجَارى، تدعو بالحب، وتأمر بالحب، وتُصلح بالحب، وتقود إلى الله بالحب، وتتنفَّس بالحب، في جميع أحوالك، شهيقاً وزفيراً، لذلك تألَّفت بك القلوب، واجتمعت عليك العقول.

يا شيخنا عدنان!

كنت أمَّة وحدك، داعية (استثنائياً) لا أظن أنك قد سُبقت، والله تعالى قادر على أن يعوِّضنا عنك في قابل أيامنا.

بفعالك وأقوالك معًا، بحياتك كلها، علَّمت المسلم وغير المسلم، الطاعي والعاصي، ومَنْ بينهما، أنَّ الطريق إلى الله جميل، وأنَّ الطريق إلى الله تعالى سهل ليِّن لا وعورة فيه، كل ذلك بالحبِّ الذي تشرَّبته وشرَّبته من حولك.

ياشيخنا عدنان

كنت أمة وحدك، على الرغم من أنك لم تترك- فيما أعلم – أوراقا مسطورة، فقد استبدلت بالأوراق القلوب، وشتان بين الكتابة على الورق والحفر في القلب.

على الورق قد تمحي الكلمات، وقد تنسى، وقد تستغلق، فتصبح بلا معنى. أما في القلب فإن الأمر على النقيض: فيه تنغرس الكلمات وتضرب بجذورها فتغدو نسيجه ونياطه، وفيه تسكن فلا تبرح ولا تغادر، وفيه تتفتح أكمامها فتزهر وتثمر.

يا شيخنا عدنان!

كأني بك كنت تنتظر الليالي، كل ليلة لتقول مع رابعة:

إلهي غارت النجوم، ونامت العيون، وأغلقت السلاطين أبوابهم، وخلا كل حبيب بحبيبه، وبابك مفتوح..

إلهي ما كان نصيبي من الدنيا فأعطه للكافرين، وما كان نصيبي من العقبى فأعطه عصاة المؤمنين، فلا أريد من الدنيا إلا ذكرك، ولا أريد من العقبى إلا رؤيتك...

إلهي لست في البلوى ولا أشكو من البلوى

مرادي أنت يا سُؤْلي فلا منٌّ ولا سلوى

وإن أعطيتني الدنيا وإن أعطيتني العقبى

فلا أرضى من الداريـ ن إلا رؤية المولى

يا شيخنا عدنان!

عشت دنيانا الزائفة طيِّبًا، وتعيش في الآخرة أبدًا.

بشراك -إن شاء الله - أيُّها الشيخ الرقيق القلب، العذْب اللسان، الضحوك الثَّغْر، المُسْفِر الوجه: ﴿وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ مُّسۡفِرَةٞ٣٨ ضَاحِكَةٞ مُّسۡتَبۡشِرَةٞ٣٩﴾ [عبس38-39].

انتهت مناجاتي للشيخ، ولعل الشيخ الآن – والله تعالى أعلم – يناجي حبيبَه الذي عاش فيه، وفارقنا فيه.