ذكرياتي مع سيدي الشيخ محمد نذير الحامد (7)

اللوحة السابعة والأخيرة

لقد تناولت فيما مضى صورًا من تعامله مع الطلاّب، والآن سأذكر صورتين من ذلك.

الأولى : كنّا في حصّة تلاوة جاء دور طالب فشرع يقرأ فلمّا وصل إلى قوله تعالى :

(( ...وإنّ منكم لمن ليبطّئن )) قرأها قراءة خاطئة، فصحّحها له الأستاذ، فقرأها لكن بدون تجويد. فقدّم الأستاذ له نموذج القراءة المجوّدة الصحيحة، فسكت الطالب لحظة لأنّ الضحك قد غلبه، فأعاد الأستاذ القراءة النموذجية ليمنحه فرصة السيطرة على نفسه. لكن ذلك لم يفد. فشرع في القراءة، لكن غلبه الضحك فأفسد القراءة.

وكرَّر ذلك ثلاث مرّات، كان يزداد عجزا عن كبت الضحك كلّما كرّر.

فما عاتبه ولا وبّخه واكتفى بإظهار حزنه لما يرى، ثمّ حوّل الدور للذي يليه، فلمّا انتهت الحصّة بكى الطالب حزنا على ما صدر منه، وقال لنا: والله لا أدري ما أصابني! ولا أدري كيف سأقابل الأستاذ، ولا كيف سأعتذر منه.

الصورة الثانية: بينما كان يجري اختبارا شفويا لنا وصل الدور إلى طالب، فطرح عليه سؤالا، فقال الطالب: لن أجيب.

ضحك الأستاذ، وحاول تبسيط السؤال، لكن الطالب قاطعه، وقال: فهمت السؤال وأعرف الإجابة، لكنّي لن أجيب فضع لي الصفر .

فتعجّب الأستاذ من سلوكه، ونصحَه بتغييره بمنتهى اللطف. لكنّه أصرّ، فقال له الأستاذ عبارة خالدة:

((يا بنيّ، إذا رأيت نفسك على جانب من الغباء مثلا أو التخلّف العقلي فلا تحزن ولا تيأس، فالمستقبل الواعد لكم وليس للعقلاء)) لكنّه أصرّ فوضع له الصفر.

لعلّ القارئ يتعجّب لهذه الحالة. رسب هذا الطالب في ذلك العام لأنّه سلك هكذا مع معظم المعلّمين، وهو يتمتّع بذكاء جيد، لكنّه تأثّر في تلك الحقبة بخال له دجّال، زعم أنّه المهدي المنتظر، وأنّ الله عمّا قريب سيرسله، وجاء بضلالات لا مجال لاستيفائها.

منها: أنّ المؤمن الحقّ هو الذي يكتفي بمعرفته بنفسه.

فصاحبنا صدّق ضلالات خاله، وقال: يكفيني أنّي أعلم أنّني جيد في هذه المادّة، فلا حاجة لي بدرجة المعلّم.

وبهذه الأفكار الضالّة استباح خاله ترك العبادات كلّها، لأنّه كما يزعم يعلم عمق إيمانه.

لكن الله قبض روحه فجأة، ومات ميتة (ميرزا غلام أحمد تماما) فعاد صديقنا إلى رشده بعد أن رسب ظلما وعدوانا، وأضاع سنة من عمره.

وهذه العبارة التي قالها له الأستاذ هي أقسى عبارة سمعناها منه، وفرحنا بها فصرنا نستخدمها كثيرًا.

دخل الصفّ ذات يوم والطلاّب قد زيّنوه وعلّقوا فيه صور الرؤساء آنئذ مع صورة لمن مات منهم بمناسبة الاتِّحاد الثلاثي السخيف وهم يصدّقون هذه الفرية، فمال إليّ وهمس قوله: اللهمّ إنّا نبرأ إليك ممَّا يفعل هؤلاء.

***

شكوت إليه ندمي من فلتات لساني، وقلت: إذا طقّت الكبسونة في رأسي انطلقت الرصاصات من فمي، وعندما أحاسب نفسي أندم على كثير من المواقف - كما سبق أن ذكرت واحدا منها-

وشجعني قوم على ذلك وقال أحدهم : إذا سمعت الأذن ما لا تطيق، تكلّم اللسان بما لا يليق. يؤيدني، لكنني غير راض عن نفسي. فأكّد لي الأستاذ الشيخ نذير ضرورة ضبط اللسان، فقلت له: سمعت أنّ سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد وضع حصاة في فمه. فوضع الأستاذ كلتا يديه على خصره بسرعة وقال: اي؟!! ظهر عليه الاستنكار الشديد مع الابتسامة، تابعت وقلت: فلما طقت الكبسونة. قال: اي؟!! قلت: حذفت الحصاة بعيدا وانطلق لساني بما أراد. فقال لي: ولك الحصوة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه مو إلَكْ.

قلت له: إي والله، هذا الذي ما أدركته من قبل.

لقد عرف النتيجة قبل تصريحي بها.

فكّرت ماذا بعد نهاية العام الدراسي؟؟؟

يجب عليّ أن أتواصل معه.

هل يقبلني زائرا له في بيته؟

ومازلت أنتهز الفرص حتى وافت، فسألته، فرحّب، فأخذت عنوان بيته وتوالت الزيارات بعد ذلك، إذ لم نحظ به مدرسا في العام التالي، وزيارته في بيته والاستفادة من شريف علمه جنّة من جنان الدنيا لا يعلمها إلّا من دخلها.

التقيت خلالها بالأخ الحبيب والشاعر الأديب الذي طالما أحببناه قبل التعرّف على شخصه الكريم إنّه الأستاذ يحيى الحاج يحيى أوّل أصهاره.

كما التقيت بالأستاذ الفاضل - عديل الشيخ - الأستاذ إبراهيم عاصي، وفضيلة العلاّمة الشيخ علاء الدين علايا رحم الله الجميع وألحقنا بالصالحين من عباده.

وعندما ألغي عقد الشيخ في المدينة المنورة بعد هجرتها إليها ومجاورته فيها، اتصلت بصديق حميم يعمل صائغا في المدينة، يعلم منزلة الشيخ منّي، وأخبرته أنّ الشيخ قد ألغوا عقده، وأنا أعلم رغبته في البقاء في المدينة، ورجوته أن يأتيني بأخبار الشيخ في حدود استطاعته.

ولم يمض طويل وقت حتّى اتصل بي صديقي وقال: شكرا لك على هذه اللفتة الكريمة، لقد فتحت عيني على كنز كنت عنه غافلا.

الشيخ معتكف في الروضة الشريفة في حال عبادة مستمرّة، يبكي بكاء صامتا، لولا شدّة مراقبتي له لما انتبهت إليه.

بكيت مرغما وقلت له: جزاك الله خيرا، والله لن يسفّر … وإذ بتلميذه النجيب ينقضّ كالصقر من نجران إلى المدينة ليسأل عن صحّة الخبر، ثم ينقل الشيخ على كفالته لإنجاز ذلك الكتاب العظيم في تفسير القرآن الكريم.

بهذه الحادثة أتمُّ لوحتي السابعة والأخيرة عاجزا عن إيفاء فضيلة الشيخ حقّه لكنّ هذا جهد المقلّ.

اللهم اجزه عنّا وعن المسلمين ما أنت أهله .

اللهم ألحقنا بالصالحين، وانفعنا بحبّهم آمين .

اللوحة السادسة هنا