الشيخ محمد سعيد دحدوح رحمه الله

ولد في مدينة حلب [1918-1978م]، وحفظ القرآن الكريم عن والده الشيخ محمد بشير دحدوح رحمه الله منذ نعومة أظفاره.

درس في مدارس حلب، وتخرّج في الخسروية.

وأذكر ممن كان معه على مقاعد الدراسة،الشيخ عبد الله سراج الدين..

والشيخ محمد المسلَّاتي..

والشيخ أحمد درويش..

والشيخ عبد الستَّار السيّد...وغيرهم....

كان رحمه الله نشيطاً جداً،سريع الحفظ والبديهة، يحب المطالعة والمعرفة، والتزود بالعلم، يساعد والده في المسجد في تعليمه القرآن وحفظه.

عُيِّن إماماً وخطيباً في مساجد حلب.

كان مُحباً للاطلاع على الكتب، شَغوفاً للمطالعة والبحث عن المعرفة والحقيقة، والتأكد من المعلومات والحوادث التاريخية، كثير البحث والتحرِّي عن الحقائق والوقائع.

عُيِّن موظفاً في مكتبة الأوقاف، وداوم فيها حتى توفاه الله حوالي 34-33 عام ، فوجد غايته فيها، ومبتغاه.

حيث كان هناك الكتب.. والمؤلفات..

فعاش فيها يقرأفي نوادر الكتب والمخطوطات، ويطّلع على مافيها.

كان الناس يأتون إلى هذه المكتبة لينهلوا من بُحور علمها.

فَكان الشيخ محمد سعيد من كثرتِ علمه.. وحِفظه.. واطلاعه على تلك البحور العلمية المعرفية...يجد لكل سائل عن مسألته من غير الرجوع الى الكتب حيث ما أن يسأله أحدٌ عن مسألة...إلا ويقول له مسألتك في الكتاب الفلاني من غير البحث عنه .

وكان كلما سمع برجل أو أستاذ ..طُبِع كتاب له..إلا وحاول أن يقتني ذاك الكتاب ويدرسه ويكتب عنه.. ويبدي رأيه فيه..إعجاباً أو غير ذلك.

وبحكم وجوده بالمكتبة...كانت له مراسلات مع أفراد من أهل العلم والمعرفة..والباحثين في بعض البلدان..حيث يراسلونه ويسألونه عن حادثة..أو مسألة..أو واقعة في التاريخ..

أو كتاب يبحثون عنه ، فكان يجيبهم إلى مبتغاهم.. إيجاباً أو نهياً..

ويبحث معهم مشاكلهم..حكماً فقهيًّا أو غير ذلك.. ويتحرَّى بذلك الصواب والصحيح.

كان محباً جداً للمعرفة والمطالعة والبحث... حتى أصبح موسوعة تاريخية.. فقهية.. لغوية.. جغرافية.. ثقافية..مواكباً لأحداث عصره....

يطّلع على كتبهم ومجلاتهم..و وقائعهم وأحداثهم.

كان جُلّ همه، ودأبه، المطالعة والمعرفة..

يبحث عن المصدر ..ويطلب الدليل عن الحادثة أو المسألة.

لذلك كان على خلافٍ مع بعض علماء عصره.. لأنه لا يوافقهم في رأيهم.. ولا يرضى عن بعض تصرفاتهم.

وخلال حياته أصبح عنده مكتبة خاصة به ، في مسجد النوحية..

بلغ عدد أسماء الكتب فيها أكثر من ٧٠٠٠ كتاب.

كان محبًّا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام.. وهذه الصفة ظاهرة على محياه..ولا تخفى على أحد.

فَكل من عرفه...يعرف فيه هذه الصفة والخاصة.

كان يحضر مجالس الأذكار .. وكنا نحن نحضر معه أيضاً..خاصة في جامع أبي ذر، عند الشيخ عبد الباسط الحمصي ابن الشيخ محمد أبو النصر..في كل مساء خميس.

وأيضاً في زاوية آل الأحمر كيالي في باب الحديد.

وفي زاوية آل بطيخ في قرلق... وغيرهم.

كان رحمه الله صوفياً..ورعاً..عفيفاً..صاحب نفسٍ أبية... رغم أنه عاش فقيراً جداً..يحسبه الناس من الأغنياء.

وكان أكثر معاشه يذهب لشراء الكتب.

كان إماماً وخطيباً..وقد أدركناه نحن تلاميذه ومريديه{35}عاماً..وكان في خطبته على المنبر طوال هذه السنين يقول : ( وارض اللهم عن ساداتنا وأئمة ديننا ذوي القدر العلي..والفخر الجلي..سيدنا أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن عميِّ نبينا خير الناس المطَهَّرين من الدنس والأرجاس سيدنا الحمزة..وسيدنا العبّاس، ورضي الله عن سيديّ أهل الجنة وريحانتيّ رسول الله،سيدنا الحسن أبي محمد، وسيدنا الحسين أبي عبد الله، ورضي الله عن أمهما فاطمة الزهراء البتول، وعن جدتهما خديجة الكبرى، وعن أم المؤمنين عائشة،وعن باقي الأزواج والأهل والقرابة والأصحاب).

في التاسع عشر من رمضان المبارك 1397 وقد أنهينا صلاة العشاء والتراويح معه..وخرجنا عائدين إلى منازلنا..ونحن في الطريق كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله..وأمام صيدلية الوالي التي في شارع أقيول....

صدمته سيارة رعناء...وشاهدته ارتفع قدر مترين عن الأرض...حيث وقع رأسه على الرصيف... وأغمي عليه...

ثم حمل إلى مشفى الرازي حيث أصيب بارتجاجٍ في رأسه.. وقال الأطباء يجب إبقاؤه حيث وجوده في تلك المشفى..إذ أنه سيوافي منيته إن خرج.

وبعد ستة أيام من تلك الحادثة

في السابع والعشرين من رمضان 1397 الموافق 10 من إيلول 1977..قال الأطباء إنه انتهى..لا سبيل له للعلاج..

فحملناه إلى المنزل..وفي طريقنا وافته المنية رحمه الله.

وفي اليوم التالي غُسِّل وكُفِّن..في جموع غفيرة من العلماء والشيوخ والفضلاء والفقراء....وصلَّى عليه الشيخ عبد الباسط أبو النصر في جامع أسامة بن زيد في أقيول..

ثم حمل إلى مرقده الأخير في مقبرة جبل العضام..حيث دفن إلى مقربةٍ من قبر أبيه رحمهما الله.

العبد الفقير إلى ربه :

ابن أخته: محمد بشير بيره جكلي الحلبي الحسيني

تعليقي حول نسبة الشيخ إلى التشيع المذموم

أمَّا رأيي الخاص في الشيخ محمد سعيد دحدوح الذي استنتجته خلال ملازمتي له هو الآتي :

لقد أخبرني أخي المرحوم القاضي مصطفى بير ه جكلي أنَّ خالنا العلامة الشيخ محمد سعيد دحدوح في فترة دراسته في الخسروية كان يتحدث كثيراً مع زملائه عن الأحداث التي جرت بين الإمام علي كرّم الله وجهه بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين بني أميَّة..فمن رأيه الشيخ محمد سعيد دحدوح أن بني أميَّة قد بغوا على الإمام علي.

وكان شديدَ الحب للإمام علي، حيث كان يورد الأدلة والأقوال التي يؤيّد بها رأيه :

( ستقتلك الفئة الباغية ياعمّار ).

وغيرها ممَّا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان دائماً وأبداً يتحدث ويذكر أقوال النبي صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في فضائل الإمام علي، ومدحه له:

( غداً سأعطي الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ).

( وما أحبك إلا مؤمن..وما أبغضك إلا منافق )

وفي حجة الوداع بعد أداء الفريضة،

أمسك الرسول صل الله عليه وسلم يد الإمام علي رافعاً لها قائلاً :

( من كنت مولاه ف عليٌّ مولاه؛ اللهم والي من والاه وعادي من عاداه ).

(أنت ياعلي بمنزلة هارون من موسى؛ إلا لا نبي بعدي).

وكما تعلمون أن الشباب حماس وقوة وجرأة واندفاع؛ فكانوا يثيرون هذه الأفكار بشدة وعصبية وعنف؛ وكان الشيخ رحمه الله إذا عارضه أحد وقال له: إنك متشيّع يتمثل بقول الإمام الرفاعي : ( ولستُ أبالي من زماني برييةٍ ؛ إذا كنتُ عند الله غيرُ مُريبِ ).

فكان الشيخ محمد سعيد دحدوح دائم التحدث عن عليٍّ وبلائه في الإسلام، وكان ملِمًّا بالتفاصيل عن حياة الإمام علي وسيرته؛ صغيرها وكبيرها.

وهكذا كان رحمه الله تعالى في شبابه وعنفوانه ؛ وفي مجالسه كثيراً ما يذكر الإمام علي في حديثه؛ وبين أحبابه.

ومضت الأعوام الدراسية ؛ وتخرّج الجميع من المدرسة الخسروية؛ وأصبحوا شيوخاً وأساتذة؛ وكأني أراهم حملوا هذه الفكرة عن الشيخ رحمه الله ؛ لأنهم ظنوه متشيِّعًا مغاليًا.

وتناقل الأبناء عن الآباء؛ والأتباع عن الشيوخ.. هذا الظن الذي ظنوه فيه؛ دون تثبّت وتحقق.

ومن خلال عمله في المكتبة الوقفية ؛ والمدة الطويلة التي قضاها فيها...

كان يَرِدُ إليه الكثير من طالبي المعرفة؛ والعلم؛ والبحث.

وكان يتردد إليه بعضٌ من ذوي العمائم السوداء والبيضاء وغيرهم

الذين يريدون الاطلاع والمعرفة والبحث.

فكان بعض الناس يراهم عنده.. يلبّي مطالبهم؛ فثبت بذلك ظنهم فيه.

لقد كانت الرافضة آنذاك تصطاد في الماء العكر؛ وكانت تعرف خير المعرفة خلافه مع بعض العلماء ؛ فاستغلوا تلك الخلافات بتثبيت ذاك الظن المنشور عند بعض الناس

فرأيناهم عند موته جاؤوا إلى العزاء..

فعزّونا به..ثم حضروا أربيعنه كذلك الأمر مع من جاء من شيوخ وعلماء حلب كالشيخ محمد أديب حسون واولاده والكثير مما لا أذكره.

فتحدثوا نثراً وشعراً ؛ مدحاً وحزناً

عن خصائص الشيخ وفضائله؛ قائلين :

( خسارةٌ للدين عن فقده؛ خسارةٌ للعلم؛ خسارةٌ للبلاد؛ خسارةٌ للإسلام والمسلمين )

وبعد موته رحمه الله..فوجئنا أن بعض الرافضة أخرجوا كتابًا بعنوان : حلب والتشيّع

وكان ممن ذكر فيه الشيخ محمد سعيد دحدوح رحمه الله.

وللأسف لم نجد من علماء حلب من يدافع عنه.

وللأسف الأكبر صدمنا ببعض أبنائه

الذين لعب الشيطان فيهم..وتمكَّن منهم..وزرع في قلوبهم حبَّ الدنيا وزينتها..وقالوا وادّعوا:

أنَّ أباهم كان متشيّعاً...ونحن على آثاره ونهجه متشيّعون فغرّتهم الدنيا.

وأقول ولا أزكّي على الله أحد :

أنَّ خالي الشيخ محمد سعيد رحمه الله

لم يعرف التشيّع الرافضي يوماً، بل هو على سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.

كان له رحمه الله بعضٌ من الأبيات الشعرية التي تنسب له:

( إني لعمرو بن معدي كربٍ ينتهي نسبي...أبي بشير النهى من آل دحدوحِ...

شيخي أبو النصر أستاذُ الطريقةِ...من له قدرٌ سَمَا على يوحِ...

إني سعيدٌ بآلِ البيت سادتنا...حسبي المُشَفَّعْ خيرْ ممدوحِ...

لَإن تغيَّب جسمي في التراب...فذاك خيالي بأياتِ الهوى يوحِ... )

وله أيضاً:

( في صورةِ الإنسانِ تذكارٌ لهُ...والمرءُ يغدو في الترابِ وحيدا...

والباقياتُ الصالحاتُ سعادةٌ...سارع لها يا طالباً تخليدا...

واجعل غرامكَ للنبي وآله...وبمدحهم كن بلبلاً غرّيدا...

أسمى السعادةِ حبُّ آلِ محمدٍ...وبحبهم غدوتُ سعيدا... ).

وكلنا نحبُّ سيدنا رسول الله محمدٍ وآله وأصحابه الأخيار الأطهار..ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

والحمد لله رب العالمين.ولا نزكَّي على الله أحداً.وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقد رثاه أحد أبنائه بقصيدة منها هذه الأبيات التي كتبت على قبره :

( مانلتَ حظَّكَ من حياةٍ فانية...لكنَّك أجلته للباقية...

وشُغِفْتَ حبَّاً بالنبي وآلهِ...وبطريقةِ النقشِ تلك السامية...

بِمُحمَّدٍ أنتَ السَّعيد؛ فَطِبْ هنا...بجوارِ ربِّكَ في الجنانِ العالية... ).