البروفسور المؤرخ عمر عبد السلام تدمري حفظه الله تعالى

في حفل تكريمه من قبل جامعة الجنان بمناسبة بلوغه الثمانين

بسم الله الرحمن الرحيم

شرف كبير لي أن أختار للكلام في تكريم أستاذنا الكبير العلامة المؤرخ الدكتور عمر تدمري، الطرابلسي، الحنفي، الذي أتشرف بالانتساب إلى مدرسته في علم التاريخ. 

غير الانتساب إلى الأكابر شيء .. والكلام عنهم شيء آخر

فعندما يكون الكلام عن مؤرخ موسوعي، كرمته محافل العلم والتاريخ المرموقة في كل مكان .. ومنحَته الأوسمة والقلائد. حينها تقف كلماتي عاجزة عن تُوَفيَتِه حقَّه. لذلك آثرت (البحبشة) في أوراق عمره المبارك أنتقي منها بعضا من قناديله التي لا يعرفها الكثيرون، مستعينا بصديق من عائلته المباركة.

التوفيق الإلهي

في رحاب الجامع المنصوري الكبير، درة تاج آثار طرابلس المملوكية، والذي أهداه السلطان المنصور قلاوون لطرابلس الشام عنوانا لعزتها وانتصارها على الغزاة، كانت نشأة أستاذنا، حيث الاعتزاز بقيم الإيمان والمحبة والأثرة، والشغفِ بتلاوات القرآن الكريم وزيارة الأثر الشريف. 

ومنذ نعومة أظفاره تميز بجمال صوت، وإتقان أداءٍ في تلاوة القرآن الكريم، جعلته محط أنظار العلماء، فشجعوه على التلاوة الندية المجودة، حتى بات البديل البدهي لشيخنا شيخ القراء صلاح الدين كبارة رحمه الله تعالى إن تَغَيَّبَ عن مجلس قراءةٍ ما في مسجدٍ أو في مناسبة، في طرابلس أم في بيروت، كما أن تميزه بتلاوته أهَّلَه (سنة ١٩٥٩) للعمل في الإذاعة اللبنانية قارئا للقرآن الكريم. 

وفي أحد أيام الجُمَع كان في زيارة صديق له في البقاع، ودنا وقت صلاة الجمعة، فوقف على قارعة الطريق مقتنصا (تاكسي) للذهاب باكرا إلى مسجد، فإذا بسيارة فارهة تقف أمامه، ويترجل منها شخص يخاطبه بلهفة مخبرا إياه بأن الله تعالى أرسله في هذه اللحظة منقذا .. ولم يكن هذا الشخص سوى المذيع في إذاعة لبنان الأستاذ شفيق جدايل رحمه الله تعالى، الذي هام على وجهه باحثا عن بديل للشيخ صلاح الدين كبارة وقد أعاقته الطريق عن الوصول قبيل صلاة الجمعة للقراءة بمناسبة مهمة جدا هي افتتاح أول خطبة وصلاة جمعة في جامع الحنابلة التاريخي في بعلبك الذي أعيد ترميمه. 

وهكذا كان أستاذنا في المكان المناسب وفي التوقيت المناسب. وهذه ميزته، أنه في كل حياته كان في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، إنه التوفيق الإلهي الذي سهل له طريق التاريخ، وألان له سبله ومعارفه كما ألان لسيدنا داود الحديد، فكان هذا الكم الكبير والمميز من التحقيقات لكتب التاريخ الموثوقة التي رممت جسر الهوية التاريخية للأمة، وسدت الفجوات التي خلفتها غزوات الأمم الطامعة أو الحاقدة، من مثل الفرنجة الذين أحرقوا دار العلم في طرابلس، أو التتار الذين أعدموا مكتبات بغداد العامرة.

لقد كانت بركةُ القرآن الكريم ترافقه في كل مراحل حياته، وكان التوفيق الإلهي حليفَه في كل أعماله، فكان ترجمةً عملية لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (اِعملوا فكل ميسر لما خُلق له). 

نعم لقد خلق أستاذنا للتاريخ وكتبه، فهيأ الله له سبل الحصول على مخطوطاته، وغالبها نادر جدا، وكان نشرها سببا في تصحيح كثير من المفاهيم التاريخية، بل وسببا في اكتشافات أثرية مهمة جدا، من مثل الفريق الذي تزود منه بمعلومات عن اختباء مجموعة من الفرنجة الصليبيين في كهفٍ في أعالي جرود بشري في القرن السابع هجري، الرابع عشر ميلادي، وكانت المعلومات عن هذا الكهف الذي تبلغ حرارته الصفر على طول السنة، وردت في مخطوطة نادرة لمؤرخ الدولة المملوكية، الأديب، الكاتب، المبدع، أبي الفضل، محيي الدين ابن عبد الظاهر، السعدي، المتوفى سنة 692ه/ 1292م، وهذه المخطوطة هي «تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور» وهو المنصور قلوون محرر طرابلس من الفرنجة في سنة 688ه / 1289م. وباني جامعها الكبير.

وبالفعل حمل الفريق معداته، وتسلق الجبل صعدوا إلى ذلك الكهف، فكانت المفاجأة أنهم وجدوا فيه ثماني مومياءات كاملة، بألبستها العسكرية وأسلحتها الكاملة، كما عثروا على كم من المخطوطات غالبها بالخط العربي، وهذه المكتشفات الآن في المتحف الوطني. 

إلى أخبار كثيرة كان لتحقيق المخطوطات النادرة التي تولاها أستاذنا العلامة المؤرخ الدكتور عمر تدمري حفظه الله تعالى الفضل في تصحيح خطأ، أو تصويب معلومة، أو اكتشاف جديد. *

حقيقة إن علم التاريخ، وطرابلس، ولبنان، يدينون له بالكثير، فإنه يندر اليوم أن يوجد رجل قدَّم للعلم وللمكتبة التاريخية ما قدمه الدكتور عمر تدمري، ويكفي أن نذكر أن موسوعة علماء لبنان بلغت ١٣ مجلدا، وتاريخ الإسلام للحافظ الذهبي بلغ مع ذيوله ٥٤ مجلدا... ولو جمعت المجلدات التي أصدرها لبلغت المئات بدون أدنى مبالغة. هذا غير الأبحاث التي قدمها في مؤتمرات عديدة.. والتي بلغت حوالي (40) بحثا، و(200) دراسة في الدوريات العربية.

* وإن كنا اليوم نحتفل ببلوغه الثمانين، فإنه يمكن لأستاذنا أن يردد مع الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي: 

سِنِيِّ بروحي لا بِعَدِّ سنيني=فلأسخرنَّ غدا من التسعين

عُمُري إلى (التسعين) يركُض مسرعًا=والروح ثابتة على العشرين

نعم إن الروح العلمية عند أستاذنا ما زالت متقدة وثابة، وما زال حتى اليوم يتحفنا بنوادر المخطوطات تحقيقا وتعليقا، بهمة عالية لا تعرف الكلل. فجزاه الله تعالى عن التاريخ وأهله، وعن طرابلس وأهلها، خير الجزاء. والشكر لجامعة الجنان على هذه اللفتة الكريمة، فتكريم أستاذنا هو تكريم لطرابلس بكل ما تمثله من قيم وتاريخ، ومن أولى من جامعة الجنان بهذه المكرمة؟

أستاذنا الكبير، كما تفتخرون بانتسابكم إلى طرابلس الشام وإلى مدرسة الإمام أبي حنيفة النعمان، فتوقعون بالطرابلسي الحنفي، كذلك أفخر بانتسابي إلى مدرستكم في التاريخ. 

جزاكم الله تعالى عن التاريخ وطلبته خير الجزاء.