العلامة الشيخ حسين موسى الشيخ موسى رحمه الله تعالى

 

نشأته رحمه الله:

ولد – الوالد- العلامة الشيخ حسين موسى الشيخ الموسى سنة ١٩٣١م في مدينة خان شيخون، ونشأ وعاش طفولته فيها حيث كان جدي الشيخ موسى آنذاك إماما وخطيبا فيها، وكان قد أنشأ فيها معهد شرعيا يدرّس فيه طلاب العلم، ويقوم مع زوجته على رعايتهم وتدبير شؤونهم.

وقد برزت إشارات تميّز الوالد وعلامات نبوغه في دراسة المرحلة الأولى/ الابتدائية / فقد كان متفوقا على جميع أقرانه وزملائه.

وهذا بشهادة من يُشهد له هو أيضًا بالسبق والتفوّق، وهو الأستاذ الكبير خير الدين الصيادي رحمه الله، وهو ابن أخت المترجَم له، فمن كلماته عنه: 

- كان خالي أكثرنا ذكاءً وفطنةً.

- كانت فيه صفات القائد وهو ما زال يافعًا.

- كان سريع الحفظ، قوي الذاكرة، يحفظ الصفحة من الكتاب في مدة يحتاج مثلنا إلى أضعافها حتى نحفظها.

وقد اختار طريق العلم الشرعي بعد ذلك بالتلمذة على يد والده الشيخ موسى رحمه الله.

وكانت أول خطبة له في الهبيط بعمر ١٢ عامًا، وكان لها أثر كبير في نفسه، كان يحدثنا بها دائما، يريد بذلك الترغيب والتشجيع، وكيف كان دور مختار الهبيط مهمًا في رفع معنوياته، حين رحًب به وقد عرف أنه ابن الشيخ موسى، ومن العجيب أنه – حتى آخر حياته- يسرد تلك الخطبة غيبًا وحرفيًا.

وقد حفظ المتون المشهورة في علوم العقيدة والحديث والفقه والعربية والفرائض في سن مبكرة - وقد ذكرت شيئًا يسيرًا يدلّ على ما منّ الله به عليه من سعة العلم، وقوّة الحفظ، في الجزء الذي يتناول الجانب العلمي من سيرته.

وكان في مستهل عمره يقرئ غيره، ويعين والده في تلقين الطلاب، ويسافر أحيانًا ومعه أستاذنا خير الدين الصيادي، إلى حيث كان عمي الشيخ محمد الموسى أبو كلال إمامًا في جبل الزاوية، فيساعدانه في التعليم وتلقين القرآن والسنة والمتون للناس هناك، وكان عمره وقتها ١٤ عاما فقط.

وفي عمر ١٥ سنة تقريبا صار يرسله والده إلى القرى ليتنقل بينها إمامًا وخطيبًا ومقرئًا متطوعًا، وليسد الفراغ الذي يحدث أحيانًا فيها مثل قرية الزلاقيات وغيرها. 

وفي بدايات الخمسينات -وهي أيام شدة وضيق- فُتحت أمامه فرصة للتوظيف، فتقدم كسائر أقرانه من المتعلمين لمسابقة، يخضع فيها المتقدّم منهم لامتحان يؤهله لوظيفة / مدرس عام/ في حلب، فنجح وتم قبوله، لكنّ والده همس في أذنه قائلًا: 

يا ولدي حلب ليست بحاجتك! حلب فيها الكثير من طلبة العلم والعلماء، فإذا ذهبت ... فلمن ستترك هذه القرى!؟ يا بنيّ سيأتي يوم ويطلبك الناس، بل سيتنافسون عليك!

فوقعت هذه الكلمات في الحال موقعها في قلبه، وآثر البقاء في خدمة منطقته وقراها.

هذا خلا ما كان يوصيه جدّي من وصايا تضيء له دربه، وتؤهل شخصه، وهي من وصايا أسلافنا الأئمة:

(المال آفة العلم) 

(يا بني إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معا فعليك بالعلم)

وكان يقول بعد ذلك :

انظر يا بنيّ، كيف نهرب من الدنيا وهي تأتي إلى أقدامنا!

واستقر رحمه الله في بلدة كفرزيتا إمامًا وخطيبًا لمدة ١٥ عامًا، أي من عام ١٩٥١ حتى ١٩٦٥م، خلفًا للشيخ أحمد الحصري رحمه الله والذي كان يعتبره والدي قدوةً له وأخًا كبيرًا.

وقد أحبّه أهل تلك البلدة الطيّبة وما جاورها حبًّا عظيمًا، وفيها تزوج ووُلد له فيها خمسة من الأولاد.

ثم جاءت وفاة والده الشيخ موسى رحمه الله، وعلى إثرها طلبه أهل بلده/حلفايا/- ليكون إمامهم وخطيبهم- وبإلحاح شديد، كاد أن يصل لدرجة الشجار بين أهل البلدتين! لولا تدخل أهل الحكمة وقتها من الطرفين.

وبهذا تحققت فراسة والده وتوقعاته.

ثمّ ليكمل أربعين عامًا بقيت من حياته رحمه الله تعالى إمامًا وخطيبًا في بلدته حلفايا.

غير أن الوالد حفظ ودّ أهل هذه البلدة حتى آخر حياته، فظلّ يزور كفرزيتا وينعم برؤية أهلها في كل أسبوع تقريبًا، وكنا نشاهد سروره وبهجته بلقائهم وهم يبادلونه حبًّا بحبّ ووفاءً بوفاء.

قدومه -رحمه الله تعالى- إلى حلفايا عام ١٩٦٥م:

ونهدي هذا الجزء من سيرة سيدي الوالد رحمه الله تعالى، إلى كل من يحب البناء والإعمار ويعشق الإنجاز، ثم يبحث عن قدوة معاصر.

حلفايا هي بلده الأصلي، وأهلها أهل فطرة سليمة وشهامة عظيمة، ولذلك كانوا له نعم العون على الإصلاح والبناء كما سيأتي. 

جلس إليه الناس يتعاقدون معه على الإمامة والخطابة، وهمّ الوالد وهمّته أبعد من ذلك! 

فاشترط وقبل الناس. 

أهم هذا الشروط: 

١ -الخطبة واحدة في الجامع الكبير مهما تعددت المساجد!

-أول هدف هو وحدة المسلمين-

وفعلا بلغت المساجد في حلفايا 16 مسجدًا، ولكنّ الخطبة ظلّت واحدة في الجامع الكبير حتى بعد بضع سنوات من وفاته، وأظن أن هذا الأمر نادر حصوله أو ربما متعذر تحقيقه في شتى البلاد.

٢ -قد! أغيب ١٤ يوما وأحضر يوما!

لأنه يسافر في الإصلاح والدعوة وبناء المساجد في بلدات أخرى، فهو ليس شيخ منبر ومحراب فحسب!

٣ -لا أغسل الأموات -كما هو حال معظم أئمة المساجد-، ولتكن هذه وظيفة أحد أهل الصلاح، وذلك حتى يتفرغ هو لما هو أهم.

وكان أول ما بدأ به رحمه الله هو توسعة المسجد الكبير / الشمالي/ ليتسع للناس.

نهيه عن المنكرات والعادات المخالفة للشرع:

ولمّا لم يكن رحمه الله شيخ منبر ومحراب فحسب، ثنّى ذلك بالنصح والنهي عن المنكرات والعادات الجائرة.

حيث قُرر في ذلك الوقت قانون الإصلاح الزراعي -وأنّ الأرض لمن يعمل بها! - وشاع الظلم وأكل مال الحرام في كثير من البلدان، فانبرى لينهى الناس في منطقته عن ذلك في الخطب والدروس والمجالس العامّة والخاصّة، واستجاب معظم الناس للحق وأحجموا، ولما عرف أنه بقي عدد من أهل البلدة لم توقظهم الخطب ولا المواعظ من غفلتهم، ذهب إليهم في بيوتهم يزورهم وينصحهم، وكان لا يأكل من طعامهم، ويظلّ يرجوهم أن لا يلوثوا دماءهم ودماء أبنائهم بالسحت، حتى عادوا ولله الحمد إلى رشدهم وصوابهم.

وافتتحت السينما في محردة، فقام بين الناس محذّرًا وموجهًا لشباب ذلك الوقت.

ويحدثنا اليوم أيضًا رجال كانوا آنذاك فتيانًا يذهبون سرًا، فيتسللون بين الكروم إلى بلدة محردة، متجنّبين الطريق الرئيسي مخافة أن يراهم والدي رحمه الله تعالى. 

كما شكّل لجنة من الشباب الملتزمين، لمنع الشباب الآخرين من التسلل ليلا للذهاب إلى تلك السينما.

كما قام بمنع الاختلاط الذي كان سائدا في عادات الناس، خاصة في أعراسهم.

وحلفايا كسائر القرى التي كانت تُحرم الإناث فيها غالبًا من الميراث، وساد هذا الظلم والإثم على معظم الناس، لكن بفضل الله ثم بمواعظه وصدقه انقلبت الكفة، ليكونوا بعد ذلك من أكثر الناس أداءً لحقوق بناتهم وأخواتهم، ومع ذلك ظلّ ناهيًا عن هذا المنكر حتى آخر حياته.

وما زال بعض الناس يستغربون من تكرار خطبه -مع سعة علمه- تلك التي تتحدث عن أكل مال الحرام /الربا -الميراث – الغش-/ أو كثرة الحديث عن قطيعة الرحم والمجاهرة في المعاصي. 

وعن ضرورة إعمار المساجد بالصلوات وعدم هجرانها.

يمكن القول: ذلكم لأنه رحمه الله تعالى كان داعية ولم يكن إذاعيًا، لم يكن رحمه الله تعالى قاصرًا عن أن يخوض غمار الخطب الرنانة التي تشنف الأسماع وتلفت أعناق المستمعين إليه ويبهرهم بها، فيأتي لهم من أعماق الكتب عجائبها، ومن القصص نوادرها، ومن الفصاحة غرائبها، وينسج بأبدع الكلمات وأفصح أنواع البيان سحرًا يلقيه على السامعين فيشدّهم إليه ويدهشهم بإمكاناته!

لكن هيهات منه الأنا والعجب، أو حب الشهرة وإرضاء الخلق على حساب الدين! 

وما أكثر اليوم نجوم الفضائيات، والجوالات، التي لا تضيء للناس إلا ما أضاءت شاشاتها، ولا تتجاوز دعوة دعاتها مسامع متابعيها، فلا أثر يذكر، ولا ذكر يؤثر.

مشروع الحافلة:

جدير بالذكر أنه رحمه الله جمع الناس -في بداية قدومه إلى حلفايا- على مشروع له من الأهمية العلمية والاقتصادية مكان عظيم.

فلقد كان الناس شبه منقطعين عن المدينة لإتمام الدراسة، أو لقصد التجارة، بسبب ندرة الواسطة التي تقلّهم إليها آنذاك.

فجمع الناس، وأكرر قولي بأنهم كانوا نعم العون والسند له، فلولا تقبلهم، وخصوبة تربة قلوبهم لزرع الخير، لما أورقت أشجار ولا أينعت ثمار. 

فجمعوا مبلغا من المال واشترى صلة الوصل مع المدينة/ حافلة كبيرة /وكانت معروفة باسم (بوسطة).

فكان لها دورها النافع وأثرها البالغ على الطلاب والتجار والمرضى وسائر أهل البلدة. 

بناء المساجد: 

وكان رحمه الله يزور القرى الأخرى، فإذا لم ير فيها مسجدًا، جمعهم في بيت مختارهم أو كبيرهم وأذّن وأقام بهم الصلاة، وألقى عليهم درسًا يستحث به الهمم على بناء بيوت الله وأهميتها في الإسلام، ثم يضع على الأقل اللبنة الأولى فيه إنفاقًا، وكان يحمل بوصلة لمعرفة القبلة، فيختار بمشورتهم موضع المسجد ويضع مخططه معهم ويحدد لهم القبلة بنفسه.

وإذا رأي فيهم منكرًا أو عادةً سيئة، أرشدهم ونصحهم بحكمة بالغة وأسلوب بليغ، ولا يملّ حتى يعودوا إلى رشدهم، وأكثر ما كان يوصيهم به بأن يرسلوا أولادهم إلى تعلم العلم الشرعي، ليعودوا إليهم بعد ذلك أئمة ومنارات للهدى بإذن الله.

ولذلك لوحظت مع قدومه وخلال سنوات قليلة نهضة دينية وعلمية، يشهد بها كل من عاصر تلك الحقبة.

أرض الوقف:

ثم أراد رحمه الله تعالى أن يجعل لبيوت الله في القرية أرض وقفٍ يكون ريعها لصالحها.

فاختار أرضًا مشاعًا وبدأ باستصلاحها، وقام معه الناس قومة استمرت لسنوات، آزروه خلالها بكل إمكاناتهم، بجراراتهم وقلاباتهم وجرافاتهم وسواعدهم وتبرعاتهم.

ولعلها من أجمل المشاهد التي يمكن للقارئ أن يتخيّلها / عشرات الجرارات مع قلّاباتها، وعدد من الجرافات /تركسات/ والشاحنات القلابة، كل ذلك يملأ عيني الناظر بجمال التعاون وعظمة الأخوّة في هذا الدين العظيم، ويطمئن القلب إلى قوة الجسد الواحد والبنيان المرصوص، وكيف يشد بعضهم أزر بعض، ثم تنظر لترى مئات الناس يتحلّقون حول منطقة العمل كأنه احتفال عظيم، والابتسامة تعلو محيّاهم والهمم في السماء، وكلمات التشجيع من هنا وهناك تملأ الأرجاء، الكل يشارك وأصدق إن قلت إن رائحة ذلك التراب / تراب الوقف/ كأنها الطيب، تنعش القلب وتسكن الروح، ثم تجد شمسه رحمه الله تنير ذلك الحفل بهمتها وبهجتها وهو يوجههم ويشاركهم الغبار، ويبادرهم بالطعام والشراب، وبالشكر والدعوات.

استغرق ذلك العمل عدة سنوات، إلى أن استُصلح حوالي ٥٠٠ دونم كانت قبل ذلك بورًا وصخورًا. 

حتى صارت أشجار الزيتون تؤتي أكلها بإذن ربها والفضل لله ثم لهمة الوالد وأهل البلدة الطيبين.

وختم رحمه الله تعالى حياته بصرحين عظيمين:

أولهما: بناء مسجد حلفايا الكبير:

وهو أكبر مسجد في محافظة حماة وقتها، ويتسع مع المسجد القديم الملتصق به لأكثر من ٧٠٠٠ مصلٍّ.

وسأقف قليلًا لأبيّن شيئًا من صدق التوكل على الله في قلبه، وتوفيق الله تعالى له.

في عام٨٨ أو ٨٩ وفي إحدى زيارات والدي للسعودية، وكان برفقة أخي أسامة، قُدّم في أحد مساجد جدة ليكون خطيبًا بالناس.

وكان بين الحضور أحد أثرياء السعودية المشهورين، وهو ممن شيدوا مساجد كثيرة بنفقتهم الخاصة /الشيخ حسن عباس شربتلي رحمه الله تعالى/ 

أعجب هذا الرجل بالوالد وبخطبته، وكان رجلًا مسنًّا، فطلب رؤية الوالد فجاء وسلّم عليه.

وبعد التعرّف عرض عليه بأن يبقى في جدة ويقيم فيها، ويختار أيّ مسجد يريده ويكون فيه إمامًا وخطيبًا!

فشكره الوالد، وقال له: أنا في سورية، قال: نرسل لك فيزا وتأتي بعائلتك ونؤمّن لك ما تريده وما تطلبه، فكرر والدي شكره واعتذاره وأنه لا يستطيع ترك بلده، فقال له: إذن هذه أرقامي الخاصة وطلب التواصل معه، عندما يتغير رأيه، أو إذا عرضت له حاجة. 

بعد سنة تقريبًا قرّر الوالد بناء مسجد حلفايا الكبير، في وقت كان الضيق والحاجة يخيمان على الناس، يصبحان ويمسيان معهم.

لم يلق -رحمه الله- تشجيعًا، بل حاول بعضهم ثنيه عن البناء الجديد إلى توسيع المسجد الموجود فقط.

لكن الوالد كان مطمئنًا وكأنّ لسان حاله يقول: (للبيت رب يبنيه).

هنا اقترح أخي أسامة أن يكلم الرجل الخيّر (الشربتلي)، لعله يتبرع بشيء، لكن الوالد رفض وقال: " لا بد أن هذا المحسن من هو بحاجته فلا نصرفه عنهم، وسيسخر الله من يعيننا في مشروعنا"، وبدأ العمل بداية عظيمة، وهمة عالية وتوفيق كبير من الله عز وجلّ.

فقد اجتمع المئات من أهل البلدة شيوخًا وشبابًا وصبيانًا إلى جانب الورشات المتطوعة، والناس تنقل وترمي الحجارة والورشات تصب الاسمنت معها، في مشهد لا يمكن وصفه مهما تكلمت (فليس الخبر كالمعاينة). 

بقي أن نأتي عند آخر الحديث عن هذا المشروع العظيم، على ذكر الرجل التقي الخفي السخي.

زار والدي مرة أخرى السعودية رافضا أن يمد يده لغير الله، فعرفه أخي على رجل من أهل الصلاح هو العم (الشقاع) رحمه الله تعالى. 

ومر ذكر بناء المسجد، فبادر من تلقاء نفسه، وأسرّ إليهما أنه سيتكفل ببناء المسجد وألا يخبر أحد أحدّا بذلك، فهو يريدها صدقة سر.

وسُرّ رحمه الله كثيرا بإخلاص هذا الرجل العظيم، وكيف سخّره الله لهذا الخير، وعاد ليخبر الناس في خطبته أن قد قيض الله لهذا الصرح من يبنيه، ولكنه قال أيضًا: سنبقى نجمع ونساهم بتبرعاتنا مع الداعم، حتى نتعود الخير والصدقة، ولا نُحرم من هذا الأجر.

وامتثالا لأمر الله (ولا تنسوا الفضل بينكم) وعرفانا بالجميل، لا ننسى أبدًا الدور الكبير لورشات أهل حلفايا في التخفيف من الكلفة والسرعة في الإنجاز، فجزاهم الله خيرا، ولا ننسى العم الحاج جميل الحمشو رحمه الله الذي كان اليد اليمنى له، وكذلك عمّنا الحاج حسين الصيادي رحمه الله تعالى.

ومثلهما عدد كبير يعلمهم الله، كلهم ساهموا بكل ما يستطيعون، لا يحصيهم مقالي ولا تعدهم حروفي، نسأل الله أن يكافئهم جميعا خير المكافأة وأن يجمعنا معهم في جنات النعيم.

وأما الصرح الثاني فهو مستشفى حلفايا:

وهو مستشفى خيري مجاني، ويمكن القول بأنه لم يسبق -على الأقل- في سورية أن قام عالم دين ببناء مستشفى للناس من خلال العمل الشعبي والخيري. 

وقد استغرق هذا العمل عدة سنوات أيضا من العمل التطوعي من ورشات أهل البلدة، وسخاء أيديهم، إلى أن تزامنت وفاته مع جاهزية المستشفى.. لكن شاء الله أن يتوفاه قبل افتتاحه بفترة وجيزة، ونحسب أنّ ذلك لاكتمال الأجر والمثوبة والقبول عند الله، حتى لا ينقص من أجره شيء بإذن الله.

فجزاه الله عنا وعن المسلمين خيرا كثيرا.

القضاء وإصلاح ذات البين:

من المزايا التي منّ الله بها عليه أن وضع له القبول في الأرض –ولا يختلف على ذلك اثنان- ويصدّق هذا الحديثُ الشريف (إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فقالَ: إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، قالَ: فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماءِ فيَقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، قالَ ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ) صحيح مسلم

والشواهد كثيرة، فمثلا حدثت ذات مرة حادثة قتل في قرية باب الطاقة في سهل الغاب، واستعصى على الجميع حلّها -حتى على الجهات الحكومية- وكانت أم القتيل ترفض كل حلّ إلا الانتقام لابنها، وهنا توسط الوالد، وبمجرد أن دخل بيت المرأة (أم القتيل) بادرته: هل أنت الشيخ حسين... إكراما لمجيئك قد عفوت عن قاتل ابني.

وإنما نذكر هذا الجانب العظيم من حياته، لتميّزه بهذا التخصص، بل وربما لا يدانيه فيما حققه على هذا الصعيد في بلادنا ووقتنا هذا أحد من القضاة أو الشيوخ والمصلحين، فالأرقام قياسية وهي بالآلاف إذا ما شئنا أن نعد القضايا والخصومات المتنوعة /جنايات ومعاملات وأحوال شخصية/ .

وكثير منها عجزت المحاكم عن حلّها، فلجأت إليه، وأجرى الله الخير على يديه، فحكم بشرع الله وحقن دماءً، ورد حقوقًا ونصر مظلومًا وجبر خواطرًا وستر الله به أعراضًا.

وهذه الهبة منحه الله إياها في سنٍّ مبكّرة منذ كان إمامًا شابًّا في بلدة كفرزيتا، واستمرت حتى وفاته. 

وهذا يعني أنه حكّم شرع الله لأكثر من خمسة عقود يقضي بين الناس بما آتاه الله من علوم الشريعة، وقد بورك له حين أخلص وصدق وجعلها لله لا لمال أو سلطة أو جاه، بل كان يبذل من جيبه ويعين ذوي العُسرة بما أعانه الله، فآتاه الله الحكمة التي يعرف بعض آثارها كل من جالسه وخالطه، أو حضر حلّ خصومة على يده رحمه الله.

وذاع صيته وشاع عدله حتى بلغت أطراف سورية جنوبًا وشمالًا، شرقًا وغربًا، فيقصد عدله كل من سمع عنه، كما آتاه الله همة فلم يرد قاصدًا عن أن يرافقه إلى أي بلد كان لحل مشكلته، فتجد في اليوم الواحد عنده عدة قضايا يحلّها بعون الله، ويخرج أصحابها وأطرافها من عنده مستسلمين لشرع الله راضين بحكمه. 

وكان رحمه الله تعالى يحج في كل عام، ولكن في إحدى السنوات وقبل الحج بفترة قصيرة وكان قد تجهز ودفع التكاليف كاملة بما فيها أجرة الطريق، حصلت مشكلة كبيرة في بلدتنا، وسالت الدماء، وتوعد الطرفان بعضهم بالثأر، وشياطين الإنس والجن استنفرت، فقرر الوالد في ذلك العام إلغاء الذهاب للحج، وفعلا لم يذهب للحج تلك السنة وذلك عملًا بفقه الأولويات والإخلاص الذي كان يتحلى به.

وألقى خطبة الجمعة وقتها، وإنها لتكتب بماء الذهب، لقد كانت إلهاما من الله عز وجل، وتشعر وكأنها نزلت في حينها من السماء على قلبه ولسانه، إلهاما من الله وتوفيقا له، وقد كان لها وقعٌ كبير على النفوس، وحقن الله بها الدماء.

فكان من إكرام الله له وقتها، أن أكرمه الله برؤيا وبشرى أنه في الحج.

رضي الله عنه ورحمه ورفع في درجاته.

هذا بحق المسلمين... فما هو الحال مع المسيحيين؟

قبل ذلك يمكن القول: إن كثيرا من المسيحيين يحبونه رحمه الله تعالى، أحبوا فيه سماحته وحسن خُلقه، حيث كان يريهم حقيقة الإسلام وجماله في أبهى حلة وأصدق صورة.

فهل حصل في بلد من بلاد العالم أنّ مسيحيين احتكموا لشريعة الاسلام في هذا العصر؟ 

نعم كثير من المسيحيين جاؤوا مختصمين إليه رحمه الله تعالى وخرجوا راضين. 

وسمعت من فمه هذه الشهادة، إذ يقول: 

قد يحصل أن يخرج من عندي بعض من المسلمين من هو غير راضٍ!

لكن لم يحصل أبدًا أن خرج من بيتنا مسيحيّ غير راضٍ بالحكم!

أقول وهذا يُعزى إلى حكمته ومسؤوليته عن إظهار حكمة الإسلام وعدالته، ثم إلى محبتهم له وثقتهم به.

إشارة إلى علمه رحمه الله تعالى:

كانت معظم خلواته وجلواته ومجالسه لا تخلو من تحصيل العلم أو نشره، وقد قالها مرارا رحمه الله:

إذا جلست أقرأ في الكتاب لا أرغب أن يقطعني عنه أحد.

ومكتبته زاخرة بأمات الكتب وقد قرأها كلها، وتفتح مثلا كتابا مؤلفا من عدة مجلدات لتقرأ بخطه:

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وبعد: فهذه المرة الرابعة التي اتفحص بها هذا الكتاب ... الخ 

يعني قرأ بعض الكتب التي تتألف من أجزاء عدّة، ومجلدات كثيرة وكبيرة أكثر من مرة.

وكان يقضي الساعات الطوال في القراءة والبحث بل والكتابة، فقد خطّت يمناه ملخّصات ومختارات من كتب عدّة، منها:

تلخيص كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله وكان عمره آنذاك ١٩ عاما. 

ومنها تلخيص ومختارات من كتاب المجموع وهو ٢٣ مجلدا للإمام النووي رحمه الله تعالى. 

وكذا مختارات من البداية والنهاية وهو ٢٠ مجلدا للحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.

ومختارات من الأدب المفرد للإمام البخاري رحمه الله تعالى.

وجمع عددا من الأحاديث من صحيح الإمام مسلم رحمه الله.

وكذا من فيض القدير للإمام المناوي رحمه الله تعالى، وكان يوصي بقراءته.

ومختارات من كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله.

وجمع مقتطفاتٍ وفوائد من كتب أخرى. 

وقال قبيل وفاته عن مخطوطاته: حرصت على جمع ما ينتفع به طالب العلم بشكل خاص.

وكانت الفترة الذهبية له في تحصيل العلم خلال فترة مكوثه في بلدة كفرزيتا ١٥ عاما وهي سنوات القوة والشباب، أي من عمر ١٩ -٣٤ عاما.

وكان يقرأ في اليوم الواحد مئات الصفحات قراءة المتمعن المتعمق، ساعده على ذلك:

-عكوفه وحبه للعلم 

-وعزوفه عن الدنيا 

وعلى ذكر الدنيا فقد حصلت له تجربة في بداية شبابه حينما أراد أن يجعل لنفسه بابًا للرزق، فدخل في شراكة على سيارة / لاندروڤر/ (وكانوا أربعة أشخاص) والدي أحدهم، على أن تنقل ركابًا وتجلب بذلك دخلًا يسيرًا، فأحزن ذلك جدي الشيخ موسى رحمه الله وأغضبه، لأنه لا يريد له الانشغال عن العلم الشرعي وخدمة الخلق، بالعمل الدنيوي.

وما أن علم رحمه الله بذلك حتى ألغى المشروع فورًا، وزار الشيخ ظافر مراد رحمه الله تعالى، وهو شيخ حماة ومرجعها آنذاك وأخذ له هدية.

وكان والده يحب الشيخ ظافر كثيرا.

نعم لقد فعل ذلك متشفعا بتلك الزيارة إلى رضى والده، لكي يسرّي عنه ذلك الحزن والانزعاج. 

وفعلًا عندما عاد إلى والده وأخبره عن زيارته تلك، وبلّغه سلام الشيخ ظافر له، وعزوفه عن تلك الشراكة وفسخها، سرّ والده بذلك كثيرًا ورضي.

ولم يدخل رحمه الله بعد ذلك في دنيا يصيبها.

وفي الثمانينات عُرض عليه ان يستلم إدارة الإفتاء في محافظة حماة بعد وفاة الشيخ بشير مراد واستشهاده، لكنه رفض فقد كان لا يحب ايّ وظيفة حكومية، وتكرر بعدها هذا العرض مرات عدة، وتكرر منه الرفض.

وعودة إلى ما أكرمه الله به من العلم منذ ريعان شبابه وحتى آخر حياته، فقد كان يزيّن بحورَ العلم التي في صدره تواضعُه الجمّ.

/ إذ لم ير نفسه عالمًا في يوم من الأيام/

ولطالما ذكر ذلك على المنبر عندما يتكلم عن فضل العلم وأهله قائلا: أنا لست منهم، أنا أسأل الله أن يجعلني من محبيهم، ويحشر المرء مع من أحب، ويجهش بالبكاء.

نعم كانت محبته للعلم والعلماء عظيمة جدًا، يحترمهم ويجلهم ويزورهم.

وقد أحب عبارة سمعها من أحد شيوخ الشاذلية (الشيخ سعد الدين مراد-رحمه الله -) هي: 

شيخك كأبيك وغيره كأعمامك. 

كناية عن ضرورة الاحترام للجميع وعدم التعصب لشيخ أو لطريق أو لمذهب، لأن الهدف واحد، وإنْ تعددت السبل ... 

وبالمقابل فقد كان هو العالم الآلف المألوف، فقد كان محبوبا له قدره ومنزلته عند جل علماء عصره 

منهم لا على سبيل الحصر: 

الشيخ ملا رمضان البوطي، الشيخ عبد الكريم الرفاعي، الشيخ عبد الرحمن الشاغوري، الشيخ أحمد الشامي، ومشايخ آل الكتاني جميعا، وغيرهم في دمشق.

وفي حلب الشيخ عمر الملاحفجي، الشيخ طاهر خير الله، الشيخ عبد علوان، الشيخ محمد الحجار، الشيخ أديب حسون، الشيخ عبد الباسط حسون، الشيخ أبو بكري أنيس، الشيخ عبد الباسط أبو النصر 

والشيخ محمد علي المسعود وأبناءه الأفاضل من مدينة الباب. 

وفي حماة شيخه الشيخ محمود الشقفة وشيخه الشيخ عبد الرحمن السبسبي والشيخ أديب الكيلاني، والشيخ محمد الحامد، والشيخ حسن الرزوق الخطابي، وجميع شيوخ آل مراد، وكان يودهم ويودونه، ومن أقربهم له صديقه الشيخ بشير المراد رحمهم الله جميعا.

وعلماء من القامشلي والحسكة ودير الزور والبوكمال.

ومعظمهم قد زارهم وزاروه في بيته، رحم الله المنتقلين منهم وحفظ الأحياء.

وقد تميزت علاقة الوالد مع الشيخ أحمد الحصري رحمه الله شيخ معرة النعمان ومؤسس النهضة ومعهد الإمام النووي فيها، فكان الوالد يذكر فضل الشيخ أحمد عليه عند استلامه للإمامة في كفرزيتا، ومن وفاء الوالد كان يزوره مع وجهاء كفرزيتا بين الحين والآخر. 

وكان الشيخ أحمد يصطحب الوالد أحيانًا لبعض القرى، ليجمع التبرعات لصالح المعهد الشرعي الذي أسسه الشيخ أحمد آنذاك في معرة النعمان.

وكان يتجلى احترامه العملي لأهل العلم عندما يُذكر له أن شيخًا منهم قال في مسألة من المسائل: كذا وكذا... فلا يطلب دليلا على صحة كلامه وحكمه، لثقته بهم، ويقدم قولهم على قوله.

وذات مرة سأله أحد أبنائه عن أمر، فأجاب (لا يجوز). فقال له: أن الشيخ عبد الرزاق الحلبي قال (يجوز)، فإجابته رحمه الله كانت على المذهب الشافعي، واجابة الشيخ عبد الرزاق على المذهب الحنفي، ولما كان الأيسر والأسهل هو قول الأحناف، قال: خذ بقول الشيخ عبد الرزاق، بدون تردد...

رزقنا الله وإياكم أخلاق الصالحين، ونفعنا بعلومهم، وحشرنا معهم تحت لواء سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكره وعبادته:

لقد كان البيت الذي نشأ فيه رحمه الله بيتًا همه الآخرة ولا يكاد للدنيا أن يكون لها فيه نصيب.

وقد قال لي يوما أحد العلماء:

أكثر ما جذبني نحو والدكم، أن الدنيا لم تنل منه أبدا!

كانت أكثر أوراده اليومية في الصبح والمساء تهليل واستغفار وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

بل وجعل لنفسه وردا استمر 15 عاما وهو قراءة خمسة أجزاء من القرآن دبر صلاة الفجر يوميا، وكان قيامه بالليل كثير، منه المشهود وهو صلاة عشرين ركعة كل ليلة قياما وتهجدا، ومنه ما لا نعرفه ولكن الله يعلمه.

وكنا نرى حرصه على النوافل والسنن الرواتب كأنها فرائض، ويأتي بها بتمامها، لا ينقص منها شيئًا رحمه الله.

وكانت له همة عجيبة في كل ما ذكرت، ورأينا ما قالته والدتي: إذا قام للصلاة كأنما يقوم قفزًا، حتى في مرضه.

ويذكّر بها أهله في كل وقت لا يفتر عن ذلك أبدا.

ولا يترك صلاة الجماعة في المسجد إلا حينما يلصقه المرض بفراشه، وإن فاتته في المسجد لعذر صلاها في أهل بيته.

وكم كان يفرح بنا وبشباب بلدته حينما يراهم في المسجد فيشجعهم ويتحفهم بعطية وثناء كبير ترغيبا لهم، ويتعرف عليهم ويمتدح أهلهم ويربّت على أكتافهم سرورًا بهم.

وأذكر حادثة لعلها تدلل للقارئ الذي لا يعرفه معنى ولعه في الصلاة وحرصه عليها.

يقول ابنه كاتب هذه السطور:

في أحد الأيام الشديدة الألم على جسده رحمه الله تعالى قبيل وفاته بأشهر، وخلال غسيل الكلى أعطاه الطبيب حقنة مسكنة، وكنت مع أخي زين العابدين في رفقته وخدمته، لكن بقي الألم مستمرًا وبشكل غير مسبوق في أوعيته (أم دم)، فاضطر الطبيب لإيقاف الغسيل كون الألم لم يعد محتملًا، وعدنا من مدينة حماة وأنا أحمل له يده رافعًا لها لعل ذلك يخفف ضغط الدم عنها، لكن الألم لم يسكن، فوقف أخي وهو صيدلاني عند صيدلية في بلدة طيبة الإمام، وأعطاه حقنة أخرى في السيارة، ثم وصلنا إلى البيت والألم ما زال مستمرًا. 

وجاء أيضًا الطبيب المقرّب من الوالد، د. محمد الجمال حفظه الله، فأعطاه حقنة ثالثة وأضاف فيها منوّمًا. وبعد نصف ساعة من الألم صلى الصلاة في وقتها ونام رحمه الله، ثم استيقظ بعد قليل يسأل والدتي: هل صليت؟ وكرر ذلك عدة مرات! لا يسأل شيئًا ولا يطلب شيئًا سوى عن الاطمئنان عن صلاته، ويقول لها: يا فاطمة هل صليت؟ تقول نعم، لقد صلّيت، ويكرر عليها: أكيد صليت؟

سبحان الله يخشى أن يكون المرض رغم شدته وخطورته قد شغله ومنعه عن أداء الصلاة!!

وقد كان رحمه الله إذا خلا مع نفسه ترى لسانه لا يفتر عن ذكر الله أو قراءة كتاب.

ولكثرة ما عوّد عليه لسانه من ذكر الله كنّا نرى في كثير من الأوقات شفتيه تتحرك بذكر الله وهو نائم.

ولم أر مثل حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وتمسكًا بسنته وآدابه.

ففي أخلاقه كان قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغضب لله ويغار غيرة عظيمة على محارم الله، ولطالما رأى من يعرفه ذلك على المنبر، وفي المجالس، وبعض الحوادث التي حصلت خلال مسيرته الدعوية، وكيف دفعه غضبه يومًا لاقتحام حفلة فيها طبل وزمر، فأوقفها وزجر الناس حتى اعتذروا إليه، ثم جلس إليهم يذكرهم بالخوف من الله والتوبة والرجوع إليه وكانوا نعم السامعين.

كان حريصًا على تطبيق السنة في تقريب الناس وتحبيبهم الى الله بالقدوة ثم الدعوة، يتابع شؤونهم ويرشدهم لما هو خير وكان ديدنه جبر الخواطر.

وأحببنا أن نلفت النظر إلى اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم بالأخلاق والسلوك والوقوف عند حدود الله ورعاية شؤون الناس وأحوالهم قبل ذكر آداب الملبس والمطعم والمشرب للأهمية والأولوية.

لكن مع كل هذا كان رحمه الله تعالى متمسكًا في أكله وشربه وملبسه وهيئته ولحيته وتهذيبها وسواكه ورعايته بيته وخدمتهم، كل ذلك على الآداب والسنن التي جاءت عن الحبيب صلى الله عليه وسلم.

لفتة سريعة إلى سماحة نفسه وسخائه:

كان رحمه الله تعالى عالما عاملا، لا مثيل له بشهادة كل من عرفه بالشعور بالمسؤولية تجاه الأمة والغيرة عليهم. والوقوف بجانب ضعيفهم ومظلومهم والانتصار له، ومع الفقير بجبر الخاطر والبذل له ولأهله، وكريما لا يخشى الفقر ومتواضعا لا يتكبر على أحد.

عابدا قواما وزاهدا صواما، لم تنل الدنيا من قلبه أبدا، مات رحمه الله ولم يقل لزوجته يوما: خذي هذا المال وضعيه في الخزانة! بل ما كان في جيبه كان لغيره من الفقراء والمحتاجين وطلبة العلم والمساجد وكثيرا ما كان ينفقه في الاصلاح بين الناس.

كان من عادته زيارة بعض الفقراء في بيوتهم، بعضهم في بلدتنا الحبيبة حلفايا وبعضهم خارج البلدة وآخرون خارج المحافظة.

في أواخر حياته كان أئمة القرى القريبة من حلفايا يجتمعون إليه في درس يومي في بيته، يقرأ أحدهم العبارة فيشرحها لهم، ومرة كان الموضوع عن السخاء، فشرحه لهم بطريقة عملية، حيث قال لأحدهم: أخرج من جيب الجبة ما فيها من مال، فوجد مبلغًا (حوالي 17000 ل س) فوزعها عليهم بالتساوي.

وحين يجتمع السخاء مع الحكمة ترى هذه المشهد:

عندما هُدِم سد زيزون وجرفت المياه القرية بأكملها (في سهل الغاب) 

بادر والدي إلى أهالي حلفايا بأن لا نقف موقف المتفرج، فجمعوا مؤونة وفرشاً ومالا، وذهب وفد حلفايا الوحيد من بين القرى، ليوزع عليهم هذه الإغاثة بالتساوي.

يقول أخي الأكبر السيد محمد أنس: فهمس بعضهم، أن هناك بعض الأشخاص أغنياء وليسوا بحاجة. فأعلمت والدي بذلك فلم يأبه للكلام ووزع للجميع وبالتساوي، فكان الرضى والسرور باديا عليهم ... 

ثم أخبرني آخر قائلا: لقد أصاب والدك بهذا الأسلوب، أنه وزع بيده، وبالتساوي، لأنه في اليوم السابق وزعت إحدى المنظمات مراعية بعض الاعتبارات، فتسبب في صراعات بينهم أصعب من حالهم وبؤسهم.

ويقول أخي أيضا: 

في كل سنة، وفي أول جمعة من رمضان، كان يأتينا (الشيخ سعيد مهنا) من سراقب (وهو رجل مسنّ وضرير ولا يكاد يسمع). 

فيأتي يوم الخميس، ويبيت عندنا ليلة الجمعة، وكان الوالد رحمه الله يستقبله بكل حفاوة وترحاب، ويكرمه، وينشد له (بصوت عالٍ كي يسمع)، ويسرّ الضيف غاية السرور.

وبعد صلاة الجمعة يجمع له الوالد بنفسه ما تيسر من الصدقات، ثم يسلمه إياها، وبعد العصر يستأجر له الوالد دراجة نارية او سيارة توصله لمفرق صوران.

وفي إحدى السنوات جاء رمضان ولم يأت الشيخ سعيد، فذهب الوالد الى سراقب، وسأل عنه حتى وصل الى بيته، فإذا به مريض مقعد، فسايره ومازحه وأفرحه وأعطاه ما تيسر، وأوصاه بأن لا يأت لحلفايا بعد هذا العام، وأن الوالد سيأتيه بنفسه كل رمضان، فاستمر الوالد على زيارته حتى توفي رحمه الله.

رحلة قصيرة معه رحمه الله تعالى: 

يقول ابنه كاتب هذه السطور: في عام 2003 خرجت مع أبي وأمي ببعض الخير نطلب بيتين في قريتين خارج المحافظة، يتردد اليهما كل بضعة أشهر وكان والدي وقتها مريضًا كما يعلم من يعرفه.

مع ذلك، فقد كانت همّته أقوى وأعلى من همّة الشباب.

البيت الأول لرجل مصاب بداء باركنسون عنده عدة أولاد كلهم من ذوي الاحتياجات الخاصة.

ميزة هذا الرجل عصبيته!! فكان الناس بسبب هذه الصفة ينفرون عنه لأنك وإن أعطيته لا يشكرك بل يلومك على قلة عطائك!

''وهنا يعظم الأجر ''

ذهبنا إليه وأنزلنا ما يسّر الله لنا وأعطاه الوالد مبلغًا من المال. فلم اسمع منه شكرًا، وجاء إلى والدي بعض أولاده وهم في حال يرثى لها، فكان يطيّب خاطرهم بابتسامته ودعائه.

خرجنا ووجه الوالد مليء بالامتنان، وكأنّ الرجل أشبعه شكراً وثناءً!!

البيت الثاني لامرأة أرملة وعندها 8 أولاد ولا معيل لها من الخلق، وتمنعها عفتها وحياؤها وحشمتها من السؤال.

أيضا أنزلنا ما بقي معنا وأعطاها والدي شيئًا من المال وأردنا الذهاب فطلبت منّا أن ندخل إلى الغداء، فوافق والدي فوراً.

أرادت والدتي أن نخفف ونمشي، فقال لها والدي: بل ندخل جبرًا لخاطرها -وأهل هذه البلدة أهل طيب وكرم حتى منهم الذين قدر عليهم رزقهم كرام - قالت المرأة عندنا مجدّرة من يوم أمس، فأظهر الوالد فرحه وسروره وقال لأمي: سبحان الله أنا فعلًا أشتهي المجدرة. 

جلسنا نأكل وكل الوقت والدي يقول لأمي: ما شاء الله ما أطيب هالمجدرة، ويثني على المرأة وطعامها، والمرأة لم يعد يسعها البيت من فرحتها بوالدي وطيب ثنائه.

ولما أردنا الذهاب تبعتنا المرأة بوعاء فيه زيتون، أمي بذوقها قالت: أبقيه لك ولأولادك نريدكم سالمين وبخير فحسب.

أما والدي فقد قال لأمي جبرًا لخاطر المرأة: يا فاطمة، هذا الزيتون لن تجدي مثله، بلدهم هذه مميزة في الزيتون، وأخذته ووضعته بجانب قدم الوالد ليسنده خلال الطريق.

وعند أحد المنعطفات انقلب الوعاء وانكفأت حبات قليلة من الزيتون والماء على قدم الوالد وأرض السيارة.

فوقفنا وأغلقت الوعاء جيدًا ثم أخذت جلد الأرضية لأنظفها قليلًا، وألقيت بحبات الزيتون تلك إلى التراب على جانب الطريق، ثم انتبهت إلى والدي ينحني إلى التراب بجبته وعمامته ولحيته البيضاء، ويلتقط حبات الزيتون ينظفها بيده واحدة تلو الأخرى ويأكلها، ولم يبال ماذا يقول المارة في الطريق، بل همّه ماذا تكتب الملائكة؟ 

لم يقرّعني أو يؤنبني!! بل لم يكلمني عن الأمر! نعم لم ينبس ببنت شفة، لكنّه خاطبني بالأبلغ تأثيرًا والأبقى أثرًا، بلسان الحال، بالقدوة، بالأسوة، بالأخلاق العالية، بالتواضع، بالذوق الرفيع، بالبلاغة الفعلية، واخجلتاه منك يا سيدي.

أين نحن منك يا والدي وسيدي وحبيبي

والله رحلتي هذه بألف درس.. رحمه الله رحمه الله رحمه الله ...

مرضه ووفاته رحمه الله: 

كان رحمه الله مصابًا بعدة أمراض، لكنّ أخطرها: القلب، داء السكريّ، والقصور الكلويّ.

وفي آخر عام من حياته أثقل السقم جسده وأوهن عظمه، غير أن همته لم تزدد إلا نشاطًا واجتهادًا.

وعلى سبيل المثال لا الحصر أسوق لكم هذا المشهد العظيم في مرضه، حيث ازداد قيامه وتهجده في الليل،

وحدث أن كان أخي الصغير الشيخ موسى نائمًا عند قدمي الوالد لخدمته.

فقام والدي للتهجد، فصلّى وأكثر وأطال، ثم انتبه إلى أخي وقال: هل أنت مستيقظ؟ 

قال: نعم. 

فقال رحمه الله: يا بني، انظر كيف أكرمني الله بهذا المرض، فقد فرّغني الله بسببه آخر العمر لعبادته!

سبحان الله، ما أعظم فهمه عن الله، وكيف اغتنم المرض ورآه فرصة ونعمة عظيمة امتنّ الله عليه بها.

وحرصه على الجماعة والمسجد ونشر العلم وقضاء حوائج الناس وإصلاح ذات البين كل ذلك الخير وسواه ظل مستمرا حتى "آخر أنفاسه".

نعم فقد كانت آخر لحظات حياته وهو على فراش المشفى وأثناء غسيل الكلى، في عبادة جبر الخواطر والكرم، وإيصال جمال الإسلام إلى كل من كان في القسم الذي كان فيه، -فكعادته- أرسل أخي أيمن ليشتري طعامًا لكل من في ذلك الجناح من مرضى وممرضين، مسلمين وغير مسلمين.

لكن أخي في ذلك اليوم عاد ليجد والدي قد وافته المنية خلال غيبته، وكان ذلك ظهر يوم السبت في 29 شوال 1425 ه الموافق ل11/12/2004

رحمه الله 

آنسه الله 

عوضه الله الجنة 

وجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين