الشيخ أحمد الشامي - مفتي دوما
مفتي دوما

الشيخ أحمد بن صالح الشامي

 
ولادته ونشأته:

في بلدة دوما (القريبة من دمشق) ولد الشيخ أحمد بن صالح الشامي سنة 1322 هـ /1904م. وفي مدرستها الابتدائية بدأ تلقيه للعلم... ولكن وفاة والده اضطرته إلى ترك المدرسة من الصف الثالث ، ليعمل في سبيل كسب ما يعول به نفسه ووالدته وأخاه الصغير.
عمله وتجارته:

فعمل في بيع الخبز ، وكان له من كتابة الرسائل إلى الجنود الذين ترسلهم الدولة العثمانية إلى حرب البلقان وغيرها بعض الكسب أيضاً إذ كانت الأمية متفشية، وكان الناس لا يحسنون الكتابة إلى أبنائهم فكان يقوم لهم بذلك مقابل أجر زهيد.

ثم عمل أجيراً في محل تجاري لبيع الأقمشة ... وفي هذا المحل بدت مواهبه في إدارة العمل وكسب الزبائن ، وما ذاك إلا بالأخلاق الكريمة التي تجمل بها من الصدق والأمانة ، فكسب ثقة الناس وثقة التجار الذين كان يتعامل معهم صاحب المتجر.

وقد ساعده هذا الأمر فيما بعد في افتتاح محل صغير لبيع الأقمشة ، وكانت ثقة التجار بصدقه وأمانته هي رأس المال الذي عمل به ، فقدموا له البضاعة مؤجلة الثمن ، وعن طريق هذا العمل وجد الدخل الذي يلبي نفقات أسرته الصغيرة.
حرصه على مجالس العلم:

إن انشغاله بتجارته لم يقطعه عن مجالس العلم فكان يحضر دروس الشيخ مصطفى الشطي الذي كان يشغل منصب الإفتاء في دوما يومئذ ، ودروس الشيخ محمود السيد والشيخ محمد مفيد النقشبندي المعروف بالساعاتي ... وهم علماء البلد يومئذ ، وكانت هذه الدروس في الفقه على مذهب الإمام أحمد ، وفي الفرائض وفي الأخلاق والسلوك.

ولما شبَّ أخوه عمل معه في متجره ، الأمر الذي أتاح له أن يجد فسحة من الوقت يلبي فيها رغبته في تحصيل العلم ، فكان يذهب إلى دمشق لحضور دروس العلم على علمائها يومئذ ومنهم: محدث الديار الشامية الشيخ بدر الدين الحسني ، والشيخ محمد مكي الكتاني ، والشيخ توفيق الأيوبي ، والشيخ محمد التلمساني ، والشيخ علي الدقر ، والشيخ محمد الهاشمي رحمهم الله تعالى .

ولم تكن المواصلات متوفرة يومئذ في كل الأوقات فكان المشي هو الوسيلة... فقد كان درس الشيخ بدر الدين الحسني بعد صلاة الفجر ، ومن أجل حضوره كان يقوم الشيخ بعد منتصف الليل ومعه بعض طلاب العلم ليسيروا على أقدامهم (13) ثلاثة عشر كيلاً حتى يدركوا صلاة الفجر مع الشيخ ومن ثم الاستماع إلى درسه.
الباعث على العلم:

لم تكن غاية المتعلم يومئذ الحصول على شهادة أو وظيفة ... وإنما الباعث قوله صلى الله عليه وسلم :« من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة» ولهذا كان معظم الذين يحضرون حلقات العلم من التجار ، وأصحاب المهن الأخرى ، فقد كان كثير من تجار سوق الحميدية وسوق الخياطين وغيرهما من طلاب العلم يجدهم المصلي في حلقات الدرس بعد صلاة العصر في المسجد الأموي.
مرجع أهل دوما:

واستمر الشيخ أحمد على حضور دروس العلم حتى اشتهر بذلك بين أهل بلده، وأصبح الناس يرجعون إليه في أسئلتهم عن شؤون دينهم ، وفي حلِّ نزاعاتهم وخصوماتهم... على الرغم من وجود المفتي وذلك لقرب الشيخ أحمد منهم وتواضعه الذي يزيل الحواجز بينه وبين الناس.
نشر العلم الشرعي:

كانت قضية نشر العلم الشرعي تشغل بال الشيخ لما رأى من الجهل المتفشي يومئذ بأمور الدين ، وبالاجتماع مع بعض إخوانه رأوا ضرورة إنشاء جمعية تعمل على ذلك... وكانت هذه الجمعية التي سميت «جمعية النهضة الخيرية»، وكان أول ثمارها إنشاء مدرسة لتعليم العلوم الشرعية إضافة إلى العلوم المادية ، ومدرسة أخرى ليلية في المكان نفسه لمحو الأمية وتعليم الكبار ، كان ذلك عام 1355هـ / 1936م، وكان لهذا العمل ثماره الطيبة.
نشاط جمعية النهضة الخيرية:

ولم يقتصر نشاط الجمعية على ذلك، بل كانت تصدر نشرات ـ تشبه المطويات المعروفة الآن ـ لتوعية الناس ولفت نظرهم إلى أحكام قصروا فيها فتذكرهم بها أو أمور شرعية أهملوها فتحثهم على القيام بها أو أخطاء شائعة فترشدهم إلى تصحيحها... وقد كان هذا العمل مبتكراً في ذلك الوقت ... وقد ساهم بدور جيد في توعية الناس.
تعيينه مفتياً لدوما:

وفي عام 1369هـ /1950م ، شغرت وظيفة الإفتاء في دوما فاتجهت أنظار الناس إلى الشيخ الذي كان يقوم بهذا العمل ولم يكن موظفاً وسعى إليه وجهاء البلد في أن يتقدم إلى هذه الوظيفة ، ولكنه أبى أشد الإباء ... وبعد الإلحاح الشديد علق قبوله على استشارة الشيخ محمد الهاشمي ... وكان رأي الشيخ الهاشمي أنه: لا مانع من قبولها طالما أنه لم يسع إليها...

وعاد الشيخ من دمشق بعد أخذ رأي الشيخ الهاشمي معلناً قبوله مشترطاً ألا يخطو خطوة واحدة في سبيلها ، وقبل الوجهاء هذا الشرط وقاموا بمراجعة الدوائر المختصة... وتم تعيين الشيخ في هذه الوظيفة ، وكان ذلك في عهد المفتي العام للجمهورية الشيخ محمد شكري الأسطواني رحمه الله تعالى .
كتابة الفتاوى:

لم يتغير شيء في حياة الشيخ فقد كان من قبل يقوم بمعظم العمل المناط بهذه الوظيفة... ولكنه لم يكن يعطي الفتاوى مكتوبة إنما هو سؤال وجواب ، أما الآن فإن الأسئلة المكتوبة لا بدَّ أن تكون الإجابة عليها كتابة ، وأن تكون وفقاً لمذهب الإمام أبي حنيفة النعمان ـ رحمه الله تعالى ـ .
دراسته المذهب الحنفي:

ولم يكن الشيخ على علم بمذهب الإمام أبي حنيفة، وإنما كان تفقهه على مذهب الإمام أحمد ـ رضي الله عنهم ـ فاضطر إلى دراسة الخطوط العريضة لهذا المذهب في دورة مكثفة على يد الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت ـ الذي سمي فيما بعد بالحافظ ـ وكانت المواصلات يومئذ متوفرة فكان يذهب إلى الشيخ في دمشق يومياً حتى أتم دراسة بعض الكتب المختصرة في المذهب عليه.
طريقته مع المستفتين:

وكانت طريقته مع السائل: أنه يستقبله بابتسامته المعهودة ويرحب به كزائر ، وبعد أن يستريح ويسأله عن حاله واسم أكبر أولاده حتى يخاطبه بكنيته تكريماً له ، ثم يقدم له بعض الشراب ... كان يسأل المستفتي عن أولاده ، وعن تعهده لهم بإقامة الصلاة ورعاية الأخلاق الفاضلة...

وإذا كان السؤال عن أمر الطلاق سأله عن الأسباب ، وكثيراً ما تكون أسباباً تافهة ، وهنا يكون للشيخ دوره في النصح والإرشاد وبيان حقوق الزوجة من التكريم والاحترام.

وهكذا كان المستفتي يخرج من عند الشيخ بجواب سؤاله مشفوعاً بنصيحة أو موعظة مما يفيده في أمر دنياه وآخرته ، وكثيراً ما كان السائل يأتي للمرة الأولى ثم يتردد بعد ذلك زائراً ومحباً ومتعلماً.
أسلوبه المتميز:

هذا الأسلوب المتميز، جعل الناس يقصدونه من كل أرجاء القطر فلم يعد عمله قاصراً على أهل بلده ، بل تجاوزت شهرته القطر إلى الأقطار المجاورة.
أخلاقه وصفاته رحمه الله تعالى :

وكان لا يغلق بابه ، فكان يستقبل الناس في كل الأوقات الأمر الذي أتعبه وأثَّر على صحته فيما بعد.

كان ـ رحمه الله تعالى ـ ذا تواضع جم ، تواضع منشؤه الفطرة ، ولم يكن مُكْتَسباً فجاء بعيداً عن التصنع والتكلف ، وهذا ما جعله قريباً من الناس جميعهم: صغيرهم وكبيرهم، غنيهم ، وفقيرهم...

كانت حياته حافلة بالعمل على إصلاح المجتمع، وذلك من خلال سلوك عملي كان الفعل فيه أنفذ من الكلمة... وكانت الكلمة فاعلة لأنها تخرج مشبعة بروح الإخلاص ، فكان بيته عامراً بدروس العلم في الفقه والفرائض والأخلاق والسلوك.

ومن الأمور التي يحسن ذكرها : أنه وجهت إليه سهام النقد من قبل بعض العلماء بسبب أخذه بمذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد واعتباره طلقة واحدة..

والذي دفعه إلى ذلك الأخذ بالخط العام للإسلام في التيسير ، وحفاظاً على عدم تفكيك الأسر بسبب الطلاق طالما وجد في اجتهاد هذا الإمام الجليل مخرجاً....
وفاته وجنازته:

توفي الشيخ بعد مرض عضال في شهر صفر من عام 1414 هـ ، وأغلقت يومها الأسواق أبوابها ، فقد خرجت البلد عن بكرة أبيها في جنازة الشيخ، وكان يوماً من أيام الصيف فتبرع كثير من الناس ممن كانت بيوتهم في طريق الجنازة بإعداد الماء البارد وتقديمه للناس... فقد كان الجميع أهلاً للشيخ، وكان الفقيد فقيد كل بيت...

رحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.