هذه قصة صلتي بالأستاذ الشيخ الإمام عبد الفتاح أبي غدة (4)

رابعاً: في السعودية:

رشحتني شريعة دمشق عام 1969 أستاذاً معاراً للتدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لمدة أربع سنين.

ولظروف معينة كان الشيخ عبد الفتاح قد سبقني إليها قبل سنين.. فأقفرت منه حلب، وسادها جوٌّ قاتم من الجهل بالدين، وانحسار المد العلمي الذي كان يعلوه الشيخ، واجترأ الجهلة وأنصاف المتعلمين على الفتوى بعلم وبغير علم، وتسابق الجميع إلى الحطام المادي، بأيِّ ثمن، فلا العلم موفور، ولا التقوى ملحوظة، ولا الغلبة إلا للمتاجرين بالدين من المنافقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كنا في السعودية في كليتين متجاورتين: أنا في العربية، والشيخ في الشريعة، فربما التقينا في العيادة الطبية، أو في الطريق إلى الكلية، أو في إدارة الجامعة، أو في السفارة السورية...

أنا أدرِّس نصوصاً في الحديث الشريف دراسة بيانية (لغوية فنية)، وهو يدرس الفقه... ويشاع عنه تلمذته للإمام الكوثري، الخصم اللدود للشيخ ابن تيمية، فناله بذلك بلاء كبير... 

وكان قد أعدَّ درساً في بيته -الذي كان يسكنه وقتئذ قرب (سوق الغنم) وبعد ميدان (دخنة)، وكنت أسكن في الدور الأول، من بناية (غرم الله) المشرفة على الميدان... - يلقيه على بضعة عشر من السوريين من أهل العلم والفقه والالتزام، في ليلة خاصَّة من ليالي الأسبوع، فيهم الدكتور بابللي وأخوه، وآخرون، لا أذكرهم؛ لأني ما حضرت إلا مرة واحدة، إذ كلهم من الجماعة، ولم أستطع المتابعة، بل لم أشأها، خيفة أن يظنَّ أني منهم، وأنا معار إلى السعودية، وأسافر كل صيف إلى سورية، فأشفقت من الحضور والمتابعة لهذا الملحظ.

ولمَّا طلب مني بعض الزملاء درساً في الأصول، لم أستنكف، فقرأت لهم في كتاب (التقرير والتحبير) للكمال بن الهمام، كان يحضره الشيخ أبو الفتح البيانوني، والشيخ فاضل المنجد، وزهير الخالد... وآخرون، فأشرت إلى الشيخ عبد الفتاح -وهو ذكي -بسبب عدم حضوري درسه واقتنع به.

ومرض الشيخ في السعودية، ودخل المستشفى، فزرته مرتين أو ثلاثاً، ورقيته، وكنت أزوره بعد زيارة أولادي الثلاث: عبد القادر، وأحمد البراء، ونفيسة غراء، إذ أصيبوا بالتهابات في المسالك البولية، واحتاجوا إلى لبث أسابيع ثلاث في مستشفى الأمير طلال مع أمِّهم، في حمية شديدة.

وشُفي الشيخ، وعاد إلى عمله في الكلية، فسعيت مهنئاً بشفائه حامداً المولى -جل وعز -على تفضله بالإبلال والسلامة، واستوصيته -فيما أذكر- بقسط من الراحة لنفسه، واقلال لقاءات الإخوان والأحباب.

واستمرت حالنا في السعودية على ذلك: أنا في كلية اللغة العربية، وهو في الشريعة، لا لقاءات بيننا في البيوت، وأرى الشيخ -يومياً تقريباً - وهو يمشي إلى كليته، وأراه بميدان دخنه وأنا أشرف عليه من شقَّتي المطلَّة على الميدان المذكور.

ومضت مدة إعارتي إلى السعودية، وهي أربع سنين، فلمَّا هممت بالعودة المحتمة، سعيت إلى الشيخ في داره التي وصفتها مودِّعاً حسب الأصول.

كان عنده الأخ العالم التقي، الأديب الذوَّاقة: الشيخ أبو الفتح البيانوني. وقلت له فيما قلت: هذه آخر لقاءاتنا هنا، إني على جناح سفر إلى سورية عائداً إلى عملي في الشريعة في جامعة دمشق، فأحببتُ أن أودِّعك، وأقول لك هذه الكلمات: 

يا شيخ عبد الفتاح! أنتم أيها الإخوان ما عملتم شيئاً للإسلام، وما أظن أنكم ستعملون له شيئاً، سوى هذه الاجتماعات الروتينيَّة، والاتجاه العام ليس معكم، بل هو ضدكم، لهذا أرى -يا شيخ عبد الفتاح وتقبلها نصيحة من أخيك- أن تعلن رسمياً انسحابك من جماعة الإخوان، وأن تعود إلى بلدك -حلب- وتتعاون مع الشيخ عبد الله سراج الدين في خدمة العلم في مدرسة الشعبانيَّة، تزُقُّ العلم الذي عندك، في أفئدة هذه الفئة الواعية الداعية من الطلاب، أمثال: المعَّاز والعوَّامة وزهير الناصر... أنت ما خُلقت للسياسة وإنما خُلقت للعلم: كما خُلق شيخك الكوثري له؛ ولعله لا يرضى عن سياستك هذه..

لا تؤاخذني، هذا واجب الأخوة الدينية: التناصح؛ بل: الدين النصيحة.

لم ينبس الشيخ بكلمة، فعلمتُ أنَّ كلامي لم يتجاوز مسمعه، فودَّعته وانصرفت.

كان هذا آخر لقاء مع الشيخ في السعودية، كان في صيف عام 1973م.

رجعت إلى عملي في كلية الشريعة، واستأنفتُ التدريس، وشغلت نفسي بكتابة مذكرات للطلاب، وبحوث لترقيتي إلى درجة (أستاذ)، فقدَّمت بحثاً في الأصول، بعنوان: (صلة علم الأصول باللغة العربية)، سبق أن نشر في مجلة اللغة العربية في الرياض، في السنة الثانية والعدد الثاني من المجلة، وهذا من حسنات إعارتي إلى السعودية.

وشُكِّلت بعد لأيٍ لجنة برئاسة الشيخ الإمام أبي زهرة، لكن تعسَّفات العميد، ومحاولاته التسويف والتعطيل والتأجيل، نجحت، فمات الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى، واضطر مجلس الكلية إلى استبدال الشيخ أبو زهرة بالشيخ القرنشاوي، وكان يعمل في الجامعة الأردنيَّة، فاتخذت اللجنة بعد إرجاءات طويلة قراراً بترقيتي إلى درجة (أستاذ) في الفقه والأصول عام 1974م.

انقطعت عن الشيخ، وانقطعت عني أخباره...

ومُنيتُ في دمشق – ابتلاء – بعميد، أقْسَمَ أن لا يدَعني في الشريعة ... فكانت حياتي الجامعيَّة، بعد العودة من السعودية، كلها مقالب وشراك واتهامات واصطدامات: كان يساعدني في مواقفي الأخ العلامة الفقيه الدكتور أحمد الكردي.

وانتهت هذه الحياة الحافلة بالمخاصمات والمواجهات، بصدور مرسوم بنقلي إلى وزارة الصحة (مدرس في ملاك وزارة الصحة) فامتثلت إذ لم يكن لي بدٌّ ولا سند ولا حزب.

كان الوزير يعرفني، أيام كان مديرًا للجامعة، وأنا وكيل الكلية، أمثلها في مجلس الجامعة بعد وفاة العميد، الدكتور العش، فتلطَّف معي، وقال: أنت لست حزبياً، أنت مشكلتك مع العميد، فوضعني في شقَّة محدثة في شارع المهدي بن بركة، ملحقة بالجامعة العربية، للاختصاصات الطبية... لبثت فيها وحدي شهوراً، ولما تغيرت الوزارة نقلت إلى مكتبة وزارة الصحة في دمشق، لا عمل لي فيها سوى النظر في كتب الفقه والأصول، تحت المراقبة.

كتبت مصطلح (إتلاف) للموسوعة الفقهية الكويتية:

واستقدمتني (كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية) في بيروت للتدريس بها أربع ساعات في الأسبوع فقط، فكانت لي بلسماً للجراح، وتعويضاً ماديًّا مجزئاً عما خسرت بنقلي إلى الصحة...

ولبثت أكثر من سنة، أغادر الصحة ضحى الثلاثاء، وأعود إلى دمشق بعد عشاء الأربعاء. أدرس أربع ساعات في الكلية بمكافأة، وساعتين في الجامع محتسباً.

ولا أدري كيف علمت جامعة الكويت وجامعة الإمام في الرياض، بوضعي فاستمزجتاني في العمل لديهما، فاستخرت الله تعالى فاختار لي الكويت.

وأرسلت الجامعة إلى دمشق لمقابلتي مرات في السفارة الكويتية: كلاًّ من الدكتور خالد المذكور والدكتور مبارك النويبت للتحرِّي عني، والتأكد من نزاهتي وصلاحيتي للتدريس؛ فعقدت معهما عقد العمل (في كلية الحقوق والشريعة) كما كانت قبل انفصال الشريعة عن الحقوق، وذلك في صيف عام 1980 م وما زلت فيها إلى الآن، وقد جاوزت السبعين، فمدَّدت لي الجامعة استثناءً ثلاث سنين تباعاً.

ولا أخبار ولا مراسلات خلال عملي في جامعة الكويت مع الشيخ الإمام، إلا التحيَّات مع المسافرين بين الكويت والسعودية، وبعض المؤلفات نتبادلها فيما بيننا.

ولما قدم إلى الكويت قبل عامين في دعوة خاصة لحضور المؤتمر الإسلامي، سعيت إليه لتحيته فلم أره، فتركت له بطاقتي وآخر كتاب نشر لي وهو: "الزواج وموجباته في الشريعة والقانون"، كتبته لطلابي في الجامعة.

فحضر الشيخ في اليوم الثاني لزيارتي في جامع الشويخ (الذي أمكث فيه كل يوم جمعة، من الفجر إلى العشاء، أدرس فيه لطلاب العلم: النحو، والصرف، والأدب، والفقه الحنفي، والمالكي، والحديث الشريف، والحلية لأبي نعيم) زارني بعد صلاة الجمعة، وقدَّم لي طائفة من كتبه الأخيرة اللطيفة: 

1 – من أدب الإسلام.

2 – كلمات في كشف أباطيل واتهامات.

3 – تعليقاته على كتاب تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة للشيخ أحمد شاكر.

4 – وعنايته بكتاب مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث للشيح محمد عبد الرشيد النعماني.

وودَّعني عائداً إلى السعودية وتعانقنا مغرورقة أعيننا بالدموع، يسأل كلٌّ منا الدعاء لأخيه بظهر الغيب...

فرأيته في النوم، وأراه كثيراً، وهذه الرؤيا الأخيرة، كأنه يزورني في بيتي في مصر في أم الغلام -أيام الدراسة كما ذكرت -يعرض عليَّ أن يسكن معي في غرفتي التي كنا نسكنها سوية، فقلت: هل تتَّسع؟ قال: تتَّسع..

وبعد هذه الرؤيا بأقل من شهر نعي إليَّ رحمه الله تعالى، وتناقلت الصحف وأهل العلم نبأ وفاته.

رحم الله الشيخ عبد الفتاح، كان عالماً، وكان إماماً، كان ثقة في علمه، وكان ذوَّاقة في مقتطفاته ممَّا يقرأ، وناصحاً فيما ينشر، وكان داعية واعياً، سمحَ الطباع، واسعَ الاطلاع، رضيَّ النفس، قدَّم للأمة كنوزاً من المعارف، وعشرات من النتاج العلمي الأصيل، ولولا ما شغله به أهل السياسة لقدَّم المئات، وكان من المؤلفين المكثرين...

رضي الله عنه وأسكنه فسيح الجنان، وغرف الجنان مع الصدِّيقين والشُّهداء، ونفعنا بعلمه الغزير، وأدبه الجم، إلى يوم اللقاء.

قابلها وصححها وأعدها للنشر : مجد مكي

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين