الشيخ عبد الحكيم الأفغاني

1251ـ1326هـ

1835ـ1908م

حياته

ولد الشيخ عبد الحكيم الأفغاني في قندهار ـ من بلاد الأفغان ـ سنة 1250 ـ ويقال سنة 1251 ـ وبارح بلاده وهو في شرح الشباب ارتياداً للعلم في بلاد الهند وغيرها، وجاور مدة في الحرمين الشريفين وبيت المقدس، ثم نزل دمشق واتخذ مدرسة دار الحديث الأشرفية مقامه زهاء ربع جيل، حتى توفاه الله بها في اليوم الثامن من شوال سنة 1326.

خَلْقه وخُلُقه

كان طويل القامة، قمحي اللون، أسود العينين، واسع الجبهة، كثيف اللحية، عصبي المزاج، وقور الطلعة، عظيم الهيبة، لا يعرف سوى الجد في جميع أموره، لم يتزوّج قط، لا رغبة عن السنة، فالزواج ليس له نفس الحكم دائماً، وإنما يختلف حكمه باختلاف الناس وتفاوت أحوالهم فيكون فرضاً، وواجباً، ومستحباً، ومكروهاً، وحراماً، فيتعيَّن حين يعصم عن حرام، ويحرم متى أفضى إلى حرام، ويسنُّ في الحالة الغالبة، لأغلب الناس، لا لهم جميعاً، فقد تركه كثير ممن لا يشكّ في دينهم وعلمهم وورعهم وحرصهم على التمسُّك بالسنّة، كالتابعي الكبير الزاهد الصالح عامر بن عبد القيس، والفضيل بن عياض، والإمام النووي، وابن تيمية، وجمال الدين الأفغاني، والشيخ طاهر الجزائري، وكثير غيرهم.. تركوه، لأنه الأفضل في حقهم وما أحاط بهم من أحوالهم كما أن الأفضل لسائر الناس الزواج إذا قاموا بحقوقه، فالشيخ عبد الحكيم لم يتزوج، لكونه من أرباب التجرُّد للعلم والنُّسك، حتى أنهكت قواه كثرة العبادة فاحدودب ظهره قبيل وفاته بمدَّة وجيزة.

لم يُشهد في عصره مثيله في الورع والزهد والتقشف والعبادة فضلاً عن فضله وعلمه. وكان يريد تلاميذته على أن يفهموا ما يقرره تمام الفهم، فإذا استعاد كلامه التلميذ مستفهماً أو مستثبتاً يجيبه بسعة صدر وقبول، وإذا ألقى عليه إشكالاً أو اعتراضاً في محله يتلقاه بكل ارتياح واغتباط، وإذا كان السؤال خارجاً عن الصَّدد تحمر وجنتاه ويغضب غضباً شديداً لأنه عصبي المزاج، ثم يتراجع إلى دائرة الحلم رويداً رويداً، وينصح للسائل برفق أن يقلع عن مثل هذه الأسئلة الفارغة.

سيرته

كان قليل الطعام والمنام والكلام، صارفاً أغلب أوقاته في المنافع من تعليم وتقرير ومطالعة وتحبير، وعبادة وتلاوة قرآن، بترتيب وتوزيع ونظام.

ونسخ بيده عدّة مصاحف شريفة، ووقفها في سبيل الله تعالى، إذ أنه كان من أرباب الإجادة في الخط.

وكان يُضحِّي كل سنة وكثيراً ما يتصدق في السر...

تواضعه وإخلاصه

كان على جانب كبير من التأدب مع العلماء واحترامهم فلا يجلس بحضرتهم إلا على ركبتيه مع هرمه وشيخوخته، كما أنه كان كثير التواضع للفقراء والمساكين، غير أنه يتميز من الغيظ إذا طلبوا إليه كتابة تميمة ونحوها من التعاويذ فقد كان مناوئاً للبدع التي لم ترد في الشريعة المطهرة وإن كان أهل وقته يعتبرونها من القربات.

طلب إليه تلاميذه أن يدرسوا عليه شيئاً من الحديث. فقال لهم : ليس معي إجازة بقراءة الحديث، ولما أصروا عليه ذهب إلى الشيخ بكري العطار، وقال له : طُلب مني أن أُدرِّس الحديث وليس معي إجازة بذلك، فإن أجزتموني حدَّثت وإلا لا، فحدَّثه الشيخ حديث الأولية: «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وكتب له إجازة.

وكان لا يلقي درساً إلا بعد تحضيره أولاً، وقد تعترضه عند التحضير إشكالات، تُعرب عن قوة تحقيق في العلم، ثم بعد التأمل ينفتق ذهنه لحلها واكتشاف غامضها، فيكتب الإشكال وحله على هامش الكتاب. وإذا لم يكتشف غامضه يكتبه ويلقيه على نوابغ تلامذته في حلقة الدرس قائلاً: قد أشكل علينا حين المطالعة هذه العبارة، ولم نفهم مراد مولانا المؤلف. فما قولك يا فلان؟ فيجيبه التلميذ المسؤول، فإن وجد جوابه ملائما للصواب ابتهج به وكتبه فوراً، وإلا أضرب عنه، وانتقل إلى آخر... وإذا اعتاص الإشكال على الجميع يقول: ما ظهر لنا ربنا يعطينا.

وإذا أشكل عليه شيئاً من دقائق النحو أو المنطق ـ وعهده بهما بعيد إذ كان عاكفاً في أواخر مدته على مزاولة العلوم الشرعية ـ سعى إلى أحد العلماء وقد يكون أحد تلامذته لأن العلم يؤتى ولا يأتي.

كما أنه لم يكن يقبل أن تهيأ له حلقات في الجوامع لوعظ العامة، بل كان أبعد الناس عن ذلك.

إباؤه وعزّته

ذكروا أن الصدر الأعظم المشير جواد باشا، زاره حينما كان قائد الفيلق الخامس في الشام فوجده جالساً عند باب غرفته على الأرض، فلم يعبأ به ولم يقم له، سوى أن ردَّ عليه السلام فقط، فجلس المشير إلى جانبه القرفصاء وبعد دقيقتين أو أكثر انصرف، والشيخ بعد على جلسته، لكن بدت منه التفاته فوجد بجانبه صرة، لم يعلم مقدار دنانيرها الذهبية، فانبرى حافياً مسرعاً، ونادى أحد حجاب المشير وألقى الصرة من يده قائلاً : أخبر هذا أنني غني غير محتاج، وعاد إلى غرفته فدخلها وأغلق الباب، وله مع ولاة الأمور والأغنياء وقائع كثيرة من هذا القبيل.

قال الوالي مرة لأديب أفندي القباني ـ وكان من تلاميذه ـ: أحب زيارة رجل من أهل العلم والصلاح، فأخذه في عربة إلى الشيخ عبد الحكيم. ولما وصلا، قال له أديب أفندي: هذا الوالي قد جاء يزورك، فلم يقم له، وإنما هش له قليلاً وقال: أهلاً وسهلاً، وسأله الوالي الدعاء، فدعا له بضع دقائق، ثم أقبل على قراءته ومطالعته، فوضع الوالي عشر ليرات على «الرحلاية»، ثم قام ومضيا، وبَصُرَ الشيخ بالليرات بعد ذهابهما، فأخذها ولحق بهما وصاح : ما هذا يا شيخ أديب؟ فقال الوالي: يا سيدي استعن بهذا، فقال: «ما في حاجة ما في حاجة» فقال: يا سيدي وزعها، فأمر أحد طلابه فصرفها له «مجيديات» فوزعها وأخرج من جيبه «نحاسة» فاشترى بها مرق مخلل.

وبعد شهر، جاء الوالي مرة أخرى لزيارته، ودعا لهم، كالمرة الأولى، ثم وضع له عشرين ليرة، وذهبا، فلحق بهما، وقال: ما هذا ؟ فقال: يا سيدي استعن بها على العلم، فقال: ألم أقل لك لا حاجة، قال: يا سيدي وزِّعها، فغضب وقال: «شو أنا ياور عندك؟ وزعها بنفسك».

تعففه وزهده

كان يبتعد عن الأمراء والوزراء والأغنياء والسُّراة، وكان يكتفي بالقوت الضروري، ولا يجيب دعوة الناس إلى ولائمهم مطلقاً، ولا يأكل طعام أحد، ولا يتناول منه ما يسد الرمق إلا إذا غلب عليه حسن الظن بطيب كسبه.

وكان الرجل الصالح، الشيخ سعيد المارديني ـ وهو أحد أشهر تلامذته ـ يأتيه أحياناً ببعض الطعام، بالرغم من بُعْد بيته ـ يشتهيه فيه، فإذا وصل وقدمه إليه، قال له : «عجيب ما رأيت في طريقك أفقر مني؟».

تقشفه وبساطته

كان طيلة حياته، في شبابه وكهولته، يشتغل مع فَعَلة الطين، ليأكل من كدِّ يمينه، وعرق جبينه، فراراً من الأكل بالدِّين، فإذا اشتهر أمره في بلدة، هاجر منها فوراً على أقدامه إلى غيرها...

زاره الوالي مرة، في أوائل رمضان، ولما أراد الانصراف دفع إليه صُرة، فأبى وغضب، فقال له الوالي: انا أعلم أنك لا ترغب بهذا،ولكن أعلم بأنك لا تعمل في رمضان ـ وهذه كانت عادة الشيخ& nbsp; يتفرغ فيه للعلم والعبادة ـ فهذه «مؤونة» رمضان. فأجابه الشيخ: لا حاجة لي فيه، فقد هيأت أمري من قبل، وأعددت زاد رمضان، أنظر، وأشار إلى الرف، ونظر الوالي فإذا عدد من الأرغفة اليابسة وقطرميز من مرق المخلل.

جده ودأبه

كان لا يذر وقتاً من عمره يضيع سدى، بل إنه يقرأ في دار الحديث كل يوم درسين، صباحاً وبعد الظهيرة مدة كل درس ساعتين، ويطالع الدرس قبل القراءة مع التعليق عليه مقدار ساعتين أيضاً، ويصرف بقية يومه في العبادة وتلاوة القرآن الكريم والتأليف.

حدَّث من رآه مرة وقد ارق، فأضاء المصباح، وتناول كتاباً فأخذ يقرأ فيه، إلى أن أحس الميل إلى النوم، فلما لم ينم عاد إلى الكتاب، فعل ذلك عدة مرات.

وظل، أجزل الله ثوابه، مثابراً على دروسه في تعليم تلاميذه، حتى أعياه مرض الموت.

علمه وآثاره

كان ـ كما يقول أحد تلاميذه ـ بحراً زاخراً في العلوم النقلية والعقلية، ومنحه الله قسطاً وافراً من التحقيق والتدقيق، لكنه صرف الثلث الأخير من عمره في مزاولة العلوم الشرعية فقط، وكان فقيهاً حنفياً جليلاً.

يقول عنه تلميذه الشيخ سعيد الباني: هو علامة المعقول والمنقول. وكان المخلصون من علماء الشام يُجلُّونه ويقولون: من أراد أن ينظر إلى علماء السلف فلينظر إلى الشيخ عبد الحكيم.

سأله مرة أحد طلابه، حينما كان يقرأ عليه أصول الفقه، عن فائدة هذا العلم؟ فأجابه على البداهة: إن فائدته الاجتهاد. فقال: يا سيدي، ألم يقولوا بأن باب الإجتهاد مقفل؟ فأجاب بحدَّة: ومن أقفله؟ أصلح الله حالك، لكن طالب العلم في بلادكم يدَّعي الاجتهاد وهو لما يقرأ بعد نور الإيضاح.

له من الآثار كتاب :«كشف الحقائق» شرح به «كنز الدقائق» في الفقه الحنفي، وشرح الشاطبية، وحاشية على شرح البخاري، وحواش وتعليقات على الهداية، وحاشية ابن عابدين، وشرح المنار، وحاشية على تفسير النسفي.

ولم يطبع من آثاره سوى كشف الحقائق.

وفاته

توفي ـ رحمه الله تعالى ـ في الثامن من شوال سنة (1326)، ولما أُعلن نعيه، واستفاض الخبر، هرع الناس أفواجاً من كل حدب إلى دار الحديث لتشييع جنازته، وملأ الناس الطريق من الجامع الأموي إلى المقبرة، وهم يذرفون العبرات، وتقدَّم الجنازة كتائب من الجند وفصائل من الدرك والشرطة وتلامذة المدرسة الحربية ومشى وراءها العلماء والحكام وأعيان البلدة وأشرافها وسُراتها وعامة الناس، إلى أن ووري في رمسه بمقبرة باب الصغير في جوار قبري العلائي صاحب الدر المختار ومُحشيّه ابن عابدين عليه رحمة الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تم نشر هذه الترجمة بتاريخ 2009 وتم إعادة تنسيقها ونشرها اليوم