معَ العلامةِ الشّيخِ د.نور الدّين عتر رحمه الله تعالى

ملامِحُ منْ أثــرِ الصّالحين

أستاذُنا المحدّث د.نور الدّين، رحمَهُ اللهُ تعالى، عالمٌ ربانيٌّ جليلٌ، جمعَ منَ الفضائلِ ما عرَفهُ القاصي والدّاني، وكانَ لهُ منَ النّفعِ = ما هو باقٍ في تاريخِ هذهِ الأمّةِ أثراً لا تنمحي محاسِنُه ومعالمُ الخيريّةِ فيهِ. 

وقدْ درّس الشيخُ في كليةِ آدابِ دمشقَ، كما درّس في الشَّريعةِ وغيرِهما، فكانَ لي به، وقد كنتُ أدرس اللغة العربيّة، تعلّقُ وحبٌّ ومتابعةٌ، وقدْ حبَاني هو، مدّ اللهُ في عمرهِ، بالحبِّ والرّعاية، وسدّدني بالتَّوجيهِ والنّصيحة، وهذا دأبُ الشَّيخِ وسنّته مع طلابِهِ، ممّن يشمُّ في مخايلِهم خيراً لهذا الدّينِ وأهلِهِ.

وقدْ تابعتُ الشيخَ على في الفترة من [2001-2003] في محاضراتهِ، في الكُلِّيتينِ، في يومينِ منَ الأسبوعِ، أحضرُ معهَ درسَ الحديثِ للسنةِ الرابعةِ صباحاً في كليّة الشّريعةِ، ثمَّ يشرّفني هوَ بمرافقتِهِ، فنتوجهُ معاً لكليةِ الآدابِ في سيّارةٍ يعرفُ مسارَها أهلُ العلمِ منْ سكان دمشقَ. 

ولم تكنْ دروسُ الشيخِ في جامعِ الشّمسيّةِ بالمهاجرين، كلّ جمعةٍ بعدَ صلاةِ المغربِ، لتفوتُني ما استطعتُ، إلا إنْ كنتُ غادرتُ دمشقَ لرؤيةِ والديَّ وأهلِي في مدينة بُصرى الشّام حرسها الله تعالى.

ثمَّ ما كانَ يخصُّ به الشيخُ بعضَ طلابِهِ منَ الدّرس الخاصّ في بيتهِ بعدَ الفراغِ منْ صلاةِ العشاءِ في جامعِ الشّمسيّةِ، وهم عددٌ لا يتجاوزُ أصابعَ اليدينِ، وهو ما تتسعُ لهُ غرفةُ الاستقبالِ المسكونةِ بالهيبةِ والجلالِ، في بيتِ الشّيخِ بالمهاجرين. 

وما زلتُ أذكرُ أكثرَ هؤلاءِ الإخوةِ منْ أهلِ العلمِ نشاطاً وسؤالاً ومحاورةً، وهو الطبيبُ د.محمد خير الشّعال، وهو من أهلِ العلمِ الذينَ جمعوا بينَ الطّبِ والعلمِ الشّرعيّ، ولهُ نشاطٌ علمِيٌّ كبيرٌ، في دمشقَ، حرسَها اللهُ تعالى. 

وفي هذهِ الصّحبةِ التي أعتزّ بها وبزمنها بعضُ لمحاتٍ منَ الضّياء ما زالتْ تعمرُني وتستحثّني، جاءتْ منْ حالِ الشيخِ ومقالهِ وتوجيهِهِ ونصائحِهِ، أنثر بعضَها ههنا، ولعلّ فيها فائدةً للقارىءٍ، ولنْ يعدِمَها.

-1-

بعدَ أنْ يفرغَ الدّكتور نور الدّين من محاضرتِه للسنّةِ الرابعة، في القاعةِ الكائنةِ تحتَ المكتبةِ المركزيّةِ في كليتي الحقوقِ والشّريعةِ = كنّا نخرجُ منْ بابِ القاعةِ، نمشي على هدوءِ مشيةِ الشيّخ، متحلّقينَ حولَهُ، مُنتحينَ وقارَ سمتِهِ، نرتعُ في لحظاتٍ هي أشبَهُ بالسّحرِ. 

لحظاتٍ هي بكورُ يومٍ دمشقيٍّ، لا تفارقُهُ سماءٌ محبّةٌ كريمةٌ، في ساحةٍ لا تغادِرها أصواتُ طيورِها، على أشجارها المعمّرةِ المهيبةِ، معَ بناءٍ على طرازٍ معماريٍّ آخذٍ آسرٍ، لا يستطيعُ امرؤٌ أن ينجوَ منْ استشعارِ ومضاتِ جمالِهِ، فأنتَ في بقعةٍ اجتمعَ عليها شرفا الزّمانِ والمكانِ، والتقت فيهِ فتنةُ الأرضِ بطهرِ العلمِ وسموّهِ. 

فأيّ ساعةٍ هذه التي أنتَ فيها؟! وأيّ مشاعرَ تلكَ التي تفيضُ عليكَ! 

ودّعَ الطلابُ شيخَهم، وركبْنا السّيّارةَ، وكانَ زحامُ شارع "سانا" قدْ اضطرَّ السّائقَ إلى الدّخولِ باتجاهِ دوار كفرسوسة، وتزاحم المطرُ ساعتَها على دمشقَ، ولا تكادُ مسّاحاتُ الزّجاجِ الأماميّ تلحقُ عملَها منْ شدّة الهطلِ القادمِ منَ السّماءِ 

في هذهِ اللحظةِ كأنّ حنيناً أصابَ الشيخَ رحمَهُ اللهُ إلى والدِتِهِ، فهذا الخير يُغري بالذّكريات، ويستجلبُ الحنين، و يولّدُ معاني الشّوقِ الدّفين، ووالدةِ الشيخِ هي أختُ سيّدنا المحدّث العلامةِ الجليل، فخر حلبَ والشّام، الشيخ عبدالله سراج الدّين رحمهُ اللهُ تعالى، فقـــالَ لي، وهو يجلسُ في المقعدِ الأمامي، وأنا في منتصفِ المقعدِ الخلفي، أرقبُهُ وأسمعُهُ، وهو يلمحني بوضوحٍ:

- أتعلمُ يا فضلُ، هاتفتُ الأهلَ في حلبَ، وحدّثتُ السيّدةَ الوالدةَ، وكانتْ حزينةً. 

-فقلتُ: عافاها اللهُ تَعَالى منْ كلِّ همٍّ، وحزَنٍ. 

- قــــالَ: " [ وأعطى الكلامَ تنغيماً فيهِ معنى الإشارةِ والتّوجيه ] لأنّها لا تختمُ القرآنَ إلا مرّةً كلَّ ثلاثةِ أيّامٍ، وهي تقتربُ منَ التسعينَ عاماً، فحزنتُ أنا بفرحي بها، أترى إلى همّةِ العجائزِ، كثيرٌ منْ شبابِ اليومِ ليسَ لهم، حتّى من همّةِ العجائزِ، نصيبٌ ". ا.هـ 

سمعتهُ، ونارٌ منَ الهمّةِ انتشرتْ منْ مَفرقِ رأسي إلى أسفلِ قدمي، حتّى انعقدَ العزمُ على عملٍ جادٍّ مستمرّ، ثمّ تراءى لي شرفُ المعنى في قول الشّريفِ الرّضي الذي كان ابن الجوزي رحمه الله يستشهدُ بهِ: 

ولكلِّ جسمٍ فــــــي النّحولِ بليّةٌ =وبلاءُ جِسمي من تفاوتِ همّتي

-2-

وبعدُ .. فقد تمرُّ على النفسِ، في حياةِ المرء، لحظاتٌ، تُنسى فيها الحياةُ، وتحنُّ فيها إلى مهبطِها العلويِّ، لحظاتٌ لا تدومُ إلا مثلَ ما تبرقُ في الجوِّ بارقةٌ، ثمَّ تختفي. 

وفــــي وهجِ هذهِ المعانِي حضرنِي ذلكَ المشهدُ لأستاذِنا العلامةِ د.نور الدّين عتر، في مَثَلِ المحبِّ، تسألُهُ صامتاً، وحينَ يجيبُكُ = يُجيبُكَ صامتاً، وما الصمتُ في الإجابةِ والسّؤال إلا كلامٌ منْ كلامِ القلبِ، يُترجمُ بالصّمتِ، ويُفهمُ بالحبِّ. 

لم تغبْ عنِ مشاعري، لحظةً، ذلكَ اليومَ الدِّمشقيَّ الباهي، صباحَ نزولنا معاً، منْ سيارةِ الأجرةِ، أمــامَ مبنى وزارةِ التّعليمِ العالي، لنقطعَ الشارعَ الممتدَّ بينَ الجماركِ القديمةِ ومشفى الأطفالِ، وكنتُ أحرصُ أنْ أكونَ على يسارِ الشيخِ، إذْ إنَّ مشيتَهُ الهادئةَ لا تتفقُ والسُّرعةَ التي تعتري رغباتِ بعضِ السّائقينَ، فتسكنُهم، منْ غيرِ مغادرةٍ، حتّى في تلكَ اللحظاتِ الغامرةِ بالجلالِ منْ صباحاتِ الشّامِ. 

مرَّ الشيخُ بسلامٍ منَ الجزءِ الأولِ، فوقفَ على الرّصيفِ الذي يتوسّطُ الطريق، وفي اللحظةِ التي رفعتْ فيها قدمي اليُمنى لألْحقَ بالشيخِ الجليلِ =كانتْ زاويةُ إحدى هذهِ السيارات الُمسرعةِ [ السّرفيسُ] = قدْ ضربَتْ طرفَ كتفي الأيسرِ، فأحسستُ بذلكَ الزلزالِ فيها، وارتفعَ صوتُ الصّدمةِ لمسامعِ الشيخِ، ولفتتْ انتباهَهُ، فوضعَ يدَهُ اليمنى على موضعِ الألمِ، وفي يدِهِ اليسرى حقيبتَهُ، ودعا: 

" اللهمَّ ربَّ النَّاسِ أَذْهِبِ البأسَ، واشفِهِ وأنتَ الشَّافِي، لا شفاءَ إلا شِفَاؤُكَ، شَفَاء لا يُغادرُ سَقماً" = فكانَ دعاؤهُ خيراً وبركةً أتلمّسُ آثارَها، في نفسِي، وبَدَني، وذاكرتي.

تجاوزْنا القسمَ الثاني منَ الطّريق، حتّى وصلْنا قبالةَ مبنى القَضاءِ، وأحسسْتُ في مشيةِ الشيخِ آثــارَ التّعبِ الذي لا يَخْفى على ذي عَينينِ، فسألتُهُ : 

- سيدي الدكتور نــــور: أحسُّ بكَ ألماً، وعلائمَ تعَبٍ؟ 

- قـــال: ومنْ أينَ جـــاءكَ هذا الإحساسُ يا شيخ فضل؟

- فقلتُ: منْ مِشيتِكَ. 

ابتسمَ الدكتور نور، وقالَ: الحقْ بي، إذنْ، أيّها الشابُّ، فابتسمتُ، ودعوتُ لَهُ، على سمعِهِ، بدوامِ القوةِ والعافيةِ. 

مرَّ أسبوعٌ كاملٌ، وأعتقدُ أنّهُ الممتدُّ بينَ يومي الاثنينِ منه، وفي نفسِ الموضعِ الذي سألْتُهُ فيهِ عنْ ألمِهِ، منَ الأسبوعِ الماضي = لاحظتُ أنَّ الشيخَ الجليلَ قدْ حثَّ خطاهُ مُسرعاً، على غيرِ ما كانَ، منه، منْ قبلِ دقيقةٍ. 

وحدّثتني النّفسُ أنَّ الشيخَ لم ينسَ الموضعَ والموضوعَ، فكانتْ منّي سعادةٌ رقيقةٌ، منْ أنّي في ذاكرةِ الشيخِ حفظهُ اللهُ تعالــى، وأنَّ ما كانَ بيننا = قدْ جاءَه في حديثٍ صامتٍ، ترجَمتْهُ قدما الشيخِ، بحيثُ تحرّكتا على عَجَلٍ، سبَقَتْهُ مشيةٌ مُبطِئَةٌ هادئةٍ، نعمْ، قدْ غمرتني النّشوةُ النّفسيةُ الفاعلةُ، وبقيتُ صامتاً. 

وصلْنا بابَ الكليةِ الكبيرِ المؤدّي إلى المدرجِ الأول، والطلابُ يحوطونَ الشيخَ منْ أمامهِ، وخلفِهِ، وعن يمينهِ، وشمالِهِ. 

وقفَ الشيخُ، واستدارَ إلى جهةِ اليسار حيثُ أنا معه، ثمّ قـــالَ: 

- فضلُ... 

- قلتُ: أمرُكَ دكتور... 

- قـــال: لمْ تسألْني هذا الصّباحَ عنْ مِشيتي، إنْ كانتْ بطيئةً، أو سريعةً؟

- فقلْتُ: سيّدي الدّكتور نور: قدْ سألتُكَ، وأنتَ أجبتَ. 

ابتسمَ الشّيخُ الجليلُ، حتّى افترّتْ ابتسامَتُهُ على محيّاهُ، وانتشرتْ، ثمّ قالَ: 

- "فتحَ اللهُ عليكَ يا شيخ فضلُ" 

آمّنتُ على الدّعاءِ منهُ بإحساسٍ صادقٍ واجفٍ، واعتراني شعورٌ فريــدٌ بالتّميّزِ، ورغبةٌ عارمةٌ في تقبيلِ يدِ الشيخِ، وقرّرتُ أنْ أفعلَها حينَ أودّعُ الشّيخَ بعدَ الفراغِ منَ المحاضرةِ 

وفَعَلْتُها...

-3-

هذهِ مطالعُ تشرينَ الأول، وقدْ أشْرقَتْ في أيّامِهِ الدّافئةِ الأولى شمسُ دمشقَ، فتنزلّتْ أشعَتُها رقراقةً رخيّةً، تطرقُ على بابِ النّافذةِ التي تطلُّ على أتوستراد المزّةِ، بهدوءٍ وحُسْنٍ، كأنّها، بوخْزِها الهادىءِ، رُذاذاتٌ منْ بَرَدٍ يبروديٍّ ناعمٍ، يأتيكَ في هيئةٍ منَ السّحرِ، فيصيبُ منكَ النّفسَ بمعنًى منَ الانطلاقِ، وطاقةٍ منَ التفاؤلِ. 

و في لحظةٍ منْ صدقِ الزّمنِ مرّ على الخاطرِ صورةُ برنامجِ السّنةِ الثّانيةِ لقسمِ اللغةِ العربيّةِ، ليذكّرَ، منْ ثمَّ، وفي وجهٍ قَلقٍ مضطربٍ، بأنّ محاضرةَ علومِ القرآنِ الكريمِ هي الأولى، وكانت السّاعةُ قدْ قاربتْ على السابعةِ والنّصفِ، هي ثلاثونَ دقيقةً فقط أملكُها، لأكونَ متسمراً أمامَ الكليّة لاستقبالِ العالمِ الذي أقرأ فيهِ كلّ الأصائلِ، والفضائل، ولفتاتِ الكمال. 

فلبسْتُ كومضٍ خاطفٍ، وهرولتُ مؤملاً الفوزَ بالوصولِ في الوقتِ المناسبِ، وكانَ ذلك لي، فقد دخلَتُ بابَ الكليّةِ قبلَه بدقيقةٍ، وانتظرتْ مجيئَهُ منْ جهةِ وزارة التّعليمِ العالي، فقدْ اعتادَ الشيخُ أنْ ينزلَ في موقِفها منْ سيارةِ الأجرةِ التي يأخذها منْ بيتهِ في المهاجرين، ويكملُ، مشياً، الأمتارَ المئةَ الباقيةَ لكليةِ الآدابِ. 

لاحتْ أنوارُ الشّيخُ أمامَ ناظري، لكنّني شعرتُ بأنّها قد عكَستْ في وجهي تضييعي، يومَها، صلاةَ الفجرِ في وقْتها، وسكنَنِي خوفٌ عجيبٌ يوُحي إليَّ بأنّ الشيخَ قدْ يقرأُ ذلكَ فيَّ، وتذكرتُ القول: أليسَ للمؤمنِ نظرةٌ كاشفةٌ تبينُ لهُ عنْ أشياءَ تخفى على العوامِ، فقلتُ في نفسي: نعم نعم... اللهمَّ اغفرْ لي تَقْصِيري، استرني يا ربُّ، ولنْ أعودَ لفعلَتِي هذهِ..؟ 

ولقد كانَ نورُ دخولِ الدّكتور نور الدّين للمدرجِ الأول شيئاً تلتقطُهُ في ظلالِ الأبّهةِ، في كلّ لحظةٍ منهُ، و في كلّ خطوةٍ للشّيخِ المحدّث، شيئاً كساهُ الحسنُ منْ مبدئهِ حتّى منتهاهُ، وغشّاهُ الجلالُ منْ أخمصِهِ إلى مفرقِهِ. 

فمنْ أصابَهُ طرفٌ منْ وهجِ موكبِهِ هدأتْ نفسُهُ، وسكنتْ جوارحُهُ، واستشعرَ الرّحمةَ تُداخلُهُ، وتؤنسُهُ، وتحيي فيهِ معنى الحياةِ الرّقيقة على وجهِ الحقيقةِ لا الخيال. 

ولو أنّي أصوّر للقارىءِ الحركةَ بـ "كاميرتي فيديو " لجعلتُ الشاشةَ في قسمينِ: واحدٍ يرصدُ روعةَ الاستقبالِ منْ بابِ الكليةِ الفرعي إلى بابِ المدرجِ الأول. 

وآخر يرسمُ لكَ الخشوعَ الماثلَ في عيونِ الطالباتِ والطلابِ وهم ينتظرون، على شوقٍ ولُهفةٍ، للنّظرِ إلى الإمامِ العلامةِ وهو يضعُ قدمَهُ على عتبةِ بابِ المدرجِ الأول. 

فهم قد قَسَّموا أنفسهم في موضعين: موضعٍ للطلابِ في الجهةِ اليمنى، وموضعٍ للطالبات في الجهةِ الوسطى واليسرى منْ المقاعدِ = تقسيماً بديعاً صنعتْهُ روحٌ محبّةٌ، تطلّبتْ فيهِ صفاءَ القلبِ، وطُهرَ النّفسِ، في حضرةِ الكلامِ الربّاني الجليلِ، والحديثِ النبويّ الشّريف. 

وكانتْ قشعريرةً عميقةً حينَ وقفَ الجميعُ يردّونَ السّلامَ على الشيخِ المهيب، ثمّ جلسوا يتملكهم الشّوقُ، وتأخذُهم الرّغبةُ، للسّماعِ، والارتفاعِ، والسّموّ. 

وههنا أبدأ في توجيهِ الصّورةِ على ذكرى عزيزة عندي، و إحساسٍ لي فيها، ما زالَ يخامرني بالرّهبةِ، ويغمرني بالخشوعِ، ويردّني للصّفاء. 

كنتُ في الصفِّ الأول من مقاعِدِ المدرّج، إلى يميني زميلٌ منَ قسمنا، وإلى يساري زميلٌ زائرٌ منْ كليةِ الشّريعةِ للحضورِ في درسِ الشيخِ. 

ودونَ مقدّمات قالَ د.نور الدّين: فضل، اقرأ الحديثَ، وغبتُ لحظةً منْ سرعةِ طلبِ الشيخِ، وكانَ وقعُ الطلبِ كالضّربةِ الفاجئةِ تأتيكَ، فتنبّهُ كلّ ما فيكَ لأمرٍ جللٍ اعتراكَ، وزلزلَ فيكَ مواضعَ التّركيز، وخلطكَ مرّةً جديدةً بمعاني نفسكَ، فحاولتَ أنْ تستجمعَ كلّ قوّةٍ فيكَ، ثمَّ استطلبتَ كلّ مهارةٍ تُعينُكَ على الخلوصِ منْ موقفٍ أبهتَ فيكَ ما كنتَ قد استجمعتَهُ بخبراتكَ وقراءاتكَ. 

كيفَ ذلك؟! والكتابُ المطلوبُ للقراءةِ ليس بينَ بين يديَّ، أو بينَ يدَيّ جاريّ الزّميلين، لحظاتٌ محرجةٌ قاسيةٌ على النّفس، خاصّةً أنّ عيني الشيخ لم تغبْ عنّي لحظةً، وأنا أحاولُ تدبّرَ الأمرِ، ولكنْ دونَ فائدةٍ، وحتّى من يليني منَ الزّملاءِ تحرّجوا ؛ إذْ إنّهم لم يملكوا الكتابَ ساعَتها كذلكَ. 

التفتَ إليّ الشيخُ التفاتةَ معاتبٍ، جرتْ منّي كالنّارِ تستحصدُ زهوةَ نفسي، وأنا ابنُ العشرينَ ربيعاً، أمتلأ طاقةً وعنفواناً وتمرّداً، فما تحرّكتْ عنّي أنوارُ عينِهِ حتّى سقطتْ هذهِ المعاني البائسة، كأنّها نفسُ اغتسلتْ بطهرِ ماءِ السّماء، فخلتْ منْ أدرانِها، وتحلّتْ بمادّةٍ جديدةٍ لم أستطلعها منْ قبلُ. 

نظرَ الشيخُ إلى الجهةِ الوسطى، فرفَعتْ طالبةٌ مجتهدةٌ يدها فأجازَها لتقرأ، وأنا تلفّعتُ بحيائي، أهربُ فيهِ منْ عينِ الشيخِ العحيبةِ الأثرِ على كلّ ما فيّ، وأستعلي بالذّكرِ سائلاً فيهِ فرجاً منْ حرجي المتمدّدِ أنحائي، الممازجِ لكلِّ شهيقٍ وزفيرٍ في صدري. 

وفي لحظةٍ منْ بدايةِ قراءةِ الطالبةِ لمحَ د.نور الدّين طالباً جلسَ في الصفِّ التالي لنا، وبيدِهِ كتابُ المادّة، فأشارَ للطالبةِ بالتوقفِ، وللطالبِ الدّاخلِ أنْ يُعطيَني كتابَهُ، هذا كلّهُ في أقلَّ من دقيقةٍ، كانتْ عندي ساعةً بدقائقها السّتين، وقالَ بصوتِ معاتبٍ مرّةً أخرى: اقرأ يا فضلُ.

مزيجٌ عجيبٌ سكنني لفعلِ الشّيخ، واستغرابٌ لا يخفى لذي عينينِ لاحَ منْ وجوهِ المئات التي تتابعُ المشهدَ، وبدأتُ القراءةَ في الحديثِ المشهورِ الذي رواهُ الشَّيخان ( عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله صلّى الله عليهِ وسلَّم، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بحسنِ صحَابتي؟، قالَ: أمُّكَ، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: أمُّكَ، قالَ: ثمَّ مَنْ؟ قالَ: أمُّك، قال ثمّ منَ، قالَ: أبوكَ ). 

ولمْ أدرِ ما دهاني فقرأتُ ( أمَّكَ ) هكذا، منصوبةً، فقاطعني العلامةُ الجليل بهدوئِهِ: بالرّفعِ يا نحويّ، فقرأتُها بالرّفعِ، وما انتهيتُ حتّى قال: هلْ مرّ بكَ منْ وجوهِ النصبِ بعد قالَ في القرآنِ، فقلتْ: نعم، كما في قوله تعالى منْ سورةِ النّحلِ: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً )، ووجهُ النّصب أنّهُ مفعولٌ به لفعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ " أنزلَ ". 

وأمّا ما جاءَ مرفوعاً منْ مثلِ قوله تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) من سورةِ الفرقان،=فقد قدّر فيها " هو " ولم يُقدّر فيها " أنزل" لأنّ الآيةَ إخبارٌ عنِ الكافرينَ، والكافر جاحدٌ لإنزالِ القرآنِ. 

وما انتهيتُ حتّى ابتسمَ الشيخُ، وكأنّ ما استحضرتُهُ منَ التفريقِ بينَ الموضعينِ كانَ مخرجي من حرجي. 

انتهتِ المحاضرةُ، ومشيتُ مع الشيخِ إلى بابِ الكليّةِ، وقبلَ صعودِهِ السّيارةَ كانتِ الواقعةُ، قال لي: 

" يا فضلُ، منْ ضيّعَ صلاةَ الفجرِ، ولم يتخذْ لها أسبابَها، ضاعَ كتابُهُ، وضاعتْ ربما حياتُهُ، فلا تتْركْها كما كانَ منكَ اليومَ ". 

ثمَّ غابتْ السيّارةُ في ازدحامِ السياراتِ على آخر طريقِ المزّة، وثبتتْ في نفسي كلمتُهُ، واستشعرتْ معنى قراءةِ المؤمنِ حينَ تنظرُ عيناهُ بنورِ اللهِ، ونزلتْ دمعاتٌ حاراتٌ ما زالَ أثرُها، فيَّ، بيّناً، لا يبيدُ، أو يَبْلى، أو يتهالكُ. 

-4- 

حين كنتُ في السنة الثانية في كلية الآداب في جامعة دمشق، وكنتُ مجتهدًا، أحاول ما استطعتُ ألا أرهق والدي بمصروفي، على يسر الحال الذي كنا وما زلنا فيه بفضل الله، لذا فكنت أعمل في المراجعات والتدقيق اللغوي مع كثير من دور النشر بدمشق، وكان لي منها دخل يكفيني إقامة ودراسة وتأسيسًا لمكتبة تخدم أبحاثي.

حجزتُ صباح الأحد إلى دمشقَ، وكنت على قربِ مغادرةِ البيت إلى مكتب الحجز قريبًا جدًّا من بيتنا، وفي هذه الأثناء كانت أمي رحمها الله تعالى مقبلةً تحمل أغراضَ البيت الصباحية، قبّلتها سريعًا وودّعتها، تاركًا في يديها مبلغًا من المال هو ثلثا ما كنتُ أحمله يومها، فصاحتْ بي: ماذا أبقيتَ لك، تعالَ خُذها، الخير كثير يا ابني، ودعتها مرة أخرى بقبلة سريعة ومضيت مبتهجًا إلى ( البولمان) المتجه لدمشق.

استيقظتُ فجر الاثنين، وما زال منام جميل يعيد أحداثه عليّ، لقد رأيت الشيخ العتر يهديني شيئًا، والغالب أنه مال، لجأت للشيخ( أبو خالد) أطلب رأيه فيما رأيت، وكان سؤالي له: لو تحقّق المنام فهل أقبل المال منه، فقال لي بلهجته الميدانية: " وما أحلاك وأنت ما آخذه، لك هاد من مال سيدنا العتر، يابا في أطهر من هيك مال"!

انفضّ المجلس الخاص حينما رفع شيخنا العتر يديه بقراءة الفاتحة، وهذه عادتُهُ حين يريدُ إنهاء الدّرس الخاصّ، وقف الأخوة، ووقف الشيخ يودّعهم عند باب غرفة الاستقبال وبابها يؤدي إلى درج البناية، وكنت، لصغري بينهم عمرًا وقدرًا، ورغبة في الاستئثار بأن أكون آخر من يودعه ويقبل يده، كنت أقف في خاتمة المغادرين.

مشى الجميع، وحين بلغت موضع مغادرتي قال لي الشيخ انتظر يا فضل، دخل إلى الداخل، ثم أتى يحمل كيسًا فيه كتابان هما فكر المسلم، وكتاب ترجمته لخاله وأستاذه سيدنا العلامة المحدث عبدالله سراج الدين، وكان كلفني بمراجعته بعد طباعته الأولى.

إلى ههنا فالمشهد الذي رأيته في منامي لم يأت، فالشيخ العلامة يتكلم بهدوء وبطء يمكنك معه عدّ كلماته، لحظة فإذا به يضع مبلغًا في جيب قميصي، ويقول: هذا حلوان نجاحك، وختم بقوله: طلابُ سيدنا عبدالله سراج الدين يا بنيّ لا تعلو نفوسهم، فما استطعتَ فلا تتركَ لنفسكَ مساحةً أن تتعاظم وتكبر.

دارت في رأسي صورة أمي ومنامي وكلام شيخي أبي خالد، فقلت لشيخنا العتر: سيدي لقد رأيت في المنام ما حدث الآن، وكنت سألت أستاذي فيما رأيت، فقال لي: خذ، هذا مال من أطهر المال؛ ابتسم شيخُنا العتر، وودّعته، ومضيت. نزلت على درج البناية لا تحيط بي معاني الوجد كلها، ما رأيته يحدث، بهذه الصورة، وبهذه السرعة!

المشكلة ليست هنا، فللشيخ أحوال معروفة، وكرمه مع طلابه معروف مشهور، وقد عرفتُ من قصصه الكثير، المشكلة ماذا سأفعل بهدية الشيخ المالية، وما زلت أفكر حتى قررت أن أصرفها في وجوه الخير، خشية أن أصرف منها ليرة في غير وجهها؛ فأقع في الملامة التي لن تنتهِي في نفسي.

نزلت إلى السوق فاشتريت خبزًا يحبه أهل الحارة في مديتني، ربع المبلغ صرفته ثمنًا لخبز ( السمون التازه)، وقفلت لبصرى، وما زالت أمي توزّع على الجيران والأقارب من أهلنا حتى انتهتِ الكميةُ

وبقي ثلاثةُ أرباع المبلغِ أحملها كأنها الجبالُ، فهو المال الذي لا ينبغي أن تُصرف منه ليرةٌ إلا في الخير.

وما زلتُ في هذا الفكرِ حتى زارني أحدُ الأخوة، وأسرّ لي أن عنده امتحانًا في البورد، وبقي له مبلغٌ يحتاجه، سألتهُ عن المبلغ فإذا هو باقي مالِ الشيخ، فقلتُ له: وصلتَ، هذا مالٌ حلال، ادرسْ وانجح لعل المولى ينفع بك، فيكون لي وللشيخ أجرٌ وعقبى.

مرّتْ عشرون سنةً، وهذا هو الشّيخ قد غادر الدّنيا بما فيها، تاركًا لنا آثاره التربوية في نفوسنا لنستدفيَ بطهرها وحسنها وجلالها، رحم المولى سيّدنا العلامة الدكتور نور الدين عتر وجمعني المولى به في أحبِّ ما يرضى المولى لعباده الصّالحين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين