المستشار التدمري محمود مادون الأسعد

انتقل إلى رحمة الله تعالى مساء يوم السبت 10صفر 1442هجري الموافق 26\9\2020 ميلادي في دولة الكويت المستشار القاضي (أبو محمد محمود بن الحاج مادون الأسعد الخطيب الزِعبي)التدمري ....عن عمرٍ تجاوز 95 سنة .

يعود بنسبه إلى محمد بن نعمة بن محمود بن زعبان الأنصاري التدمري المتوفى سنة 742هـ (وهو أول من سكن تدمر من العائلة في القرن السابع الهجري ) وكان رجلاً صالحاً منور الشيبة طلق المحيا معظماً عند الناس وكان يحب الحديث وأهله ـ كما ترجم له بذلك ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة (2/112) .

ولد عام 1925م في مدينة تدمر ، وتوفي والده في نفس السنة التي ولد بها المترجَم له ، فتربّى يتيماً تحت رعاية ووصاية عمه الحاج محمد الأسعد .

وقد أدرك وهو صغير ابنُ ست سنوات كيف هجَّرَ الفرنسيون أهالي بلدة تدمر عام 1930م من داخل البلدة القديمة المبنية ضمن سور أثري شاهق ـ وله عدة أبواب ـ إلى خارج سور المدينة ، حيث أسكنوهم ( وكان تعدادهم يومها قرابة 10 آلاف نسمة) في السهل الشمالي للمدينة، وسُمّيت المنطقة يومها بـ(الظاهرية) .

دَرَس الفقيد في المدرسة الابتدائية بتدمر، وكان من أبرز المعلمين الذين أثّروا به: الأستاذ الأديب الشاعر الحمصي محي الدين درويش .

ثم انتقل إلى دمشق لإكمال دراسة المرحلة الثانوية في (المدرسة الثانوية الأولى ) . وقد أُعطي الدراسةَ والمبيتَ والطعامَ مجاناً داخل المدرسة ؛ لأنه حاز على الدرجة الأولى من بين أقرانه القادمين من المناطق خارج دمشق، وكانت الدراسة أيامها بمقابل مادي، ولم يتحول التعليم مجاناً في المدارس الحكومية إلا عام1956م بجهودٍ مباركة من وزير المالية الدكتور عبدالوهاب حومد الحلبي رحمه الله .

وكانت الفترة تلك فترة مظاهرات وإضرابات ضد المستعمر الفرنسي ، فشارك الفقيد رحمه الله في غالب المظاهرات الطلابية ، وكان من القياديين فيها بين الشباب ، وممن يكتب المناشير ضد الفرنسيين حتى عام الجلاء .

انتهى الفقيد من المرحلة الثانوية عام 1946م ، ثم تابع دراسته في كلية الحقوق بدمشق ـ وكان اسمها وقتها : معهد الحقوق العربي ـ ، فأنهى دراسته في ثلاث سنوات وتخرّج عام 1949م متفوقاً وكان عدد الخريجين يومها قرابة مائتي طالب .

صدر مرسوم تعيينه ( قاضياً) عام 1949م ، ولم يباشر إلا عام 1950م (لأن القانون ينص على عدم تولّي القضاء لمن هم أقل من 25 سنة) ، وقبل تعيينه في إحدى المحافظات السورية : ذهب للتدريب مدة شهرٍ لدى القاضي في المحكمة الشرعية بدمشق ـ الدائرة الأولى الشيخ (علي الطنطاوي) ، وكان معه ممن تدرّب من دمشق : الأستاذ موفق الداوودي والأستاذ عبدالقادر سلطان ، ومن حلب :القاضي أحمد مهدي الخضر وعثمان عثمان ، وكان هؤلاء الخمسة قد صدر قرار تعيينهم بمرسوم جمهوري واحد ـ رحمهم الله جميعاً ـ، فكان الشيخ علي يوجههم وينصحهم ويدربهم ويطلعهم على محاضر الجلسات وكيفية دراستها ثم النطق بالحكم فيها .

باشر عمله في منطقة الميادين قاضياً شرعياً عام 1950م ، ثم نُقل إلى قضاء الرقة 1951م ثم نُدب ـ مع قضاء الرقة ـ في تل أبيض ، ثم نُقل عام 1953م إلى محافظة السويداء قاضيَ صلحٍ في صلخد ، ثم قاضياً للتحقيق في مدينة حلب أواخر الخمسينيات ( وفترةً في مدينة الباب شرقي حلب) ثم نائباً عاماً في مدينة إدلب 1960م ، ومستشاراً لمحكمة الجنايات في إدلب حتى منتصف الستينيات .

وكانت سنوات صعبة فأغلب سوريا بلا طرق مرصوفة ولا كهرباء ولا ماء نقي ، والمرافق الصحية قليلة .

وقد كان رحمه الله في عمله مخلصاً عادلاً ، وقد سمعتُ منه مباشرةً عدداً من القصص التي وقف فيها أمام أصحاب النفوذ والسلطة ( من سياسيين وزعماء وأمراء عشائر ومختارين وأصحاب مناصب) في عدد من القضايا التي نظر فيها وحكم ، وقد قيّد بعضها رحمه الله في كتابه الجميل ( مذكراتي في القضاء ) .

وهناك قضيةٌ وقف فيها موقفاً شجاعاً ضد الاستيلاء على أرضٍ وقفيةٍ في مدينة الرقة حيث أراد أحد الإقطاعيين شراء أرضٍ ـ بجانب منزله ـ وقفية من الأوقاف ، مدّعياً أنها أرضٌ مهجورة ترمى فيها الزبالة والنفايات ! وعرض سعر 15 ألف ليرة سورية لها ، لكن القاضي محمود شكّل لجنة ونظروا في الأرض، فإذا هي أرض جيدة في موقعٍ مهم وسط البلد ، تقّدر قيمتها يومها (عام 1950م) بأكثر من مليوني ليرة سورية ! فرفض العقد ومنع بيعها .

وكم من أراضٍ وقفية تساوي الملايين ...ذهبتْ عبثاً وهدراً وخيانة...وبمبالغ برخص التراب ، ويكفي القارئ أن يعلم أنه في دمشق: المرج الأخضر الممتد من تكية السلطان سليم وحتى حيّ كيوان بعد دوار الأمويين الحالي كلها وقفٌ من أوقاف المسلمين ( أصبح اليوم: موقعاً لمعرض دمشق الدولي وفنادق وملاهي ومسابح) ، وفي حلب: من بستان كل آب في مركز المدينة وباب الفرج حتى أراضي المحلق بعد المدينة الجامعية وبطول يقارب 4 كم وعرضٍ موازٍ كلها أراضٍ وقفية ! ذهبت بمبالغ بسيطة أو بالاستيلاء !

وفي عهد الرئيس نور الدين الأتاسي تولّى رئاسة الوزراء الدكتور يوسف زعين عام 1966م فقام بتعيين عبد السلام حيدر وزيراً للعدل ، فقام عبدالسلام بعمل ما سُمّي وقتها ( مجزرة القضاء) عام 1966م حيث سرّح طليعة القضاة وبناة العدالة في سوريا أمثال الأستاذ الكبير عبدالقادر الأسود والشيخ علي الطنطاوي وغيرهم بمرسوم ظالم ؛ فكان هذا من جملة الأسباب التي جعلت أستاذنا المستشار محمود الأسعد يهاجر نحو الكويت، والتي كانت وقتها حديثة الاستقلال عام 1967م .

جاء إلى الكويت قاضياً ومستشاراً ومؤسساً لكثير من نظم القضاء الحديث فيها بالتعاون مع الجيل الأول : المستشار راشد الحمّاد حفظه الله ، والمستشار يوسف الحجي رحمه الله ، وأحمد بزيع الياسين رحمه الله والعم أبوبدر عبدالله المطوع رحمه الله ، والمستشار يوسف جانكيه وآخرين.

وقد عُرف عن فقيدنا الاستقامة والتقوى والعدالة والصراحة ...فكان مثالاً للقاض المستقيم الصالح ، فحمد سيرته الجميع .

وكان ودوداً لطيفاً ...جلسنا معه مراراً فكنا نستفيد في كل جلسة من خبرته وحكمته وعلمه رحمه الله .

ومع هجرته الطويلة خارج بلده تدمر إلا أنه لم ينسها ...فكانت له أعمال خير وبر وصدقات ...وبجهوده تم إنشاء معهد ديني للبنين وآخر للبنات في تدمر ..ودعم الكثير من المعاهد الدينية .

وحين طلبتُ منه التوقيع على البيان الذي أصدرناه في عام 2012م والذي يخص الأوضاع في سوريا ...ووقع عليه أكثر من 220 عالماً ودكتوراً وشيخاً ...لم يتردد في التوقيع رحمه الله .

وقد شارك في آلام ونصرة السوريين في المهجر خاصة في السنوات الأخيرة ...رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في مستقر رحمته تحت لواء سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وإنا لله وإنا إليه راجعون ....

عزاؤنا لأهله آل الأسعد ولكل محبيه .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين