خطرات مع العلامة المحدِّث المفسِّر الدكتور نور الدين العتر رحمه الله

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}

رحم الله شيخنا العلامة الدكتور نور الدين العتر..كم ترك في نفوسنا من آثار طيبة..علما وأدبا .. وصلاحا وورعا..وسلوكا وصحبة.

عرفته في مرحلة مبكرة من دراستي الجامعية، وإن لم يكن ممن درَّسني، فقد درَّس الأفواج التي تلت فوجنا في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، درَّس مادة الدراسات الإسلامية، وما رأيت أحدا ممن درس بين يديه إلا أثنى عليه خيرا، غزارةَ علمٍ.. وطيبَ معاملةٍ.. وصدقَ كلمةٍ.. ورقة قلبٍ..وتواضعَ جِبِلَّةٍ عرفه عنه كل من عرفه.

وأود أن أسجِّل عنه ثلاث مواقف شهدتها له، وهي تنبئ عن كريم خلقه وعظيم استقامته.

أما الأول ففي أثناء مناقشة أطروحة جامعية شارك فيها في كلية الآداب بجامعة دمشق، وكانت تحت إشراف أستاذنا د. عبد الحفيظ السطلي حفظه الله وعافاه، وكان ثالثهما في المناقشة د. أسعد علي، وكنا نسعى لحضور هذه المناقشات، نتعلم منها.. ونتأدب بها.. وننهل من فوائدها، إلا أنها كانت تطول ولا سيما حين يشارك فيها أستاذنا السطلي بفصاحته المعهودة، ومآخذه التي لا تكاد تنفد!

ودخل وقت المغرب في أثناء المناقشة والدكتور السطلي مسترسل في كلامه، فما كان من الدكتور نور الدين إلا أن انسلَّ من مكانه ليخرج من المدرج فيؤدي الصلاة ويعود بعد دقائق، وهنا التفت إليه الدكتور السطلي ليقول له بلهجة مستنكرة: كان يسعك أن ترجئ الصلاة يا شيخنا، فما ينبغي أن تغادر اللجنة لأنها لجنة تحكيم وقضاء، فأردف الدكتور أسعد قائلا: أما أنا فصليت في مكاني – وكان من عادته إذا دخل وقت الصلاة أن يضع يديه على وجهه ليغرق في تأمل يغيب به عن الحضور وقد احمرَّ وجهه وبدا عليه أثر التأثر وتلك كانت طريقته في الصلاة – فما زاد شيخنا العتر على أن تبسم تلك البسمة التي تحمل كل معاني الرضا على إقامة شعائر الله والإشفاق على من ضيعها!

وأما الموقف الثاني فهو إبّان مجيئي إلى الكويت مدرسا في قسم اللغة العربية، إذ سكنت في مساكن أعضاء هيئة التدريس بالشويخ، وفوجئت ذات صلاة في مسجد الجامعة بشيخنا العتر، وقد حلَّ أستاذ زائرا في كلية الشريعة بجامعة الكويت، فهببت للتسليم عليه وعناقه، فهشَّ وبشَّ ودعاني لزيارته في شقة الضيافة قبيل المغرب، ولما نزلت رأيت عنده مدير إذاعة القرآن الكريم الأستاذ أحمد حاجية ومساعديه يسجلون له برنامجا للإذاعة، فاحتفى على العهد به، وعرفني على مدير الإذاعة وأوصاه بي خيرا لافتا نظره إلى عذوبة صوتي التي يسمعها بأذنه الراضية ونفسه السامية.

وقد صحبت الشيخ في اليوم التالي لزيارة الدكتور عبد الله المعتوق – وكان ذلك قبل تسلمه وزارة الأوقاف – فأصر أن يدعونا لوليمة على شرف شيخنا العتر حضرناها مع رهط كريم كان منهم حبيبنا الشيخ مأمون كاتبي حفظه الله ورعاه.

وأما الموقف الثالث فهو اتصال هاتفي شرَّفني به إثر مناقشة ابنته للدكتوراه في كلية الشريعة، وذلك من أجل البحث عن فرصة عمل لها في كلية الشريعة بجامعة الكويت، ويشهد الله أن الفرحة لم تسعني وأنا أستمع إلى صوته محاولا تبيّن كل حرفٍ فيه فقد كان خافتا أقرب إلى الهمس. وقد حاولت خدمة شيخنا، ولكن قدَّر الله أن تبقى ابنته إلى جانبه تقوم على خدمته ورعايته وتزداد برًّا ورضا.

رحم الله العلامة الشيخ نور الدين العتر، أيّ رجل كان.. وأي معلم فقدنا.. وأي نقص في أطراف الأرض حلّ؟!

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}

أسأل الله العظيم أن يجعله في عليين، وأن يجمعه بمن أحبَّ وأنفق عمره في خدمة حديثه وسنته صلى الله عليه وسلم، ليسمع منه حديثه من فِلْقِ فيه، كما كان يرجو ويأمل، وقد تمثل في أحد كتبه بهذين البيتين:

لم أسعَ في طلبِ الحديثِ لسُمعَةٍ **** أو لاجتماع قديمهِ وحديثِهِ

لكنْ إذا فاتَ المحبَّ لقاءُ مَنْ *** يهوى تعلَّلَ باستماع حديثِهِ