من شموع الذكريات في صحبة العلامة نور الدين عتر (1 -2 -3)

-1-

في صحبة أستاذنا العلامة الجليل نور الدين عتر رحمه الله تعالى وأعلى مقامه وتقبله في المهديين

إن أستاذنا الجليل محل إجماع من طلابه وعارفيه في علمه وأخلاقه ولِينه وتواضعه ورقة طبعه ومحبته لطلبة العلم ومساعدته لهم، وتقريبه إياهم حتى يظن الواحد منا أنه من المقربين إليه.

قد أكرمني الله بحضور دروس أستاذنا أحمد مهدي الخضر وأستاذنا محمد عدنان الغشيم رحمهما الله تعالى، منذ كنت في الصف الحادي عشر، وتأخرت صلتي بأستاذنا الجليل نور الدين حتى السنة الثالثة، إذ لم أكن أداوم في كلية الشريعة، وإنما أذهب فترة الامتحانات، متعللاً بالظروف المادية من جهة، وبسهولة المواد العلمية، فكنت أقرؤها مع بعض الإخوة الكرام من أترابي في الكلية ونتدارسها.

في صيف السنة الثالثة زرنا أستاذنا العلامة نور الدين في أيام العيد، في منزله بمنطقة الإذاعة بحلب، صحبة عدد من الأساتذة الكرام نحو العشرة، أكبرنا كان الأستاذ الفقيه يوسف الهنداوي رحمه الله تعالى، وكان في بداية اللقاء التعارف، فلما عرف أستاذنا أني في كلية الشريعة سنة ثالثة، قال لي متعجبًا: سنة ثالثة ولم نرك في كلية الشريعة! ثم أخذ يحضني على الدوام في السنة الرابعة، ودخل كلامه إلى القلب بأسلوبه اللطيف وتشجيعه، ووقع العزم من يومها على الدوام، وأكد ذلك أني كنت أيضا سنة ثانية في كلية اللغة العربية في فرع الأزهر.

وتوالت لقاءات دورية في بيت أستاذنا مع الصحب الكرام، كنا نقرأ خلالها بعضًا من نزهة النظر، 

وكان الأستاذ طبع في تلك الأيام كتابه النفحات العطرية من سيرة خير البرية، فوزع علينا نسخًا، فقرأته حرفًا حرفًا واستخرجت منه الأخطاء المطبعية في ورقة كبيرة A4، في جدولين، ثم كان لي لقاء خاص بأستاذنا في منزله، فسلمته الأخطاء، فنظر فيها وقال متعجبًا: (أف! لقد قرأ الكتاب ثمانية!) أي وفاتتهم كل هذه الأخطاء! 

ثم أراد أن يكرمني بشيء، فقال لي: عندك كتاب هداية السالك لابن جماعة (وهو في ثلاثة مجلدات، بتحقيقه) فقلت: لا، فقال: وجبتْ! يا يحيى، هات الكتاب للشيخ.

ومن يومها عرف أستاذنا دقة ملاحظتي في التصحيح، فطلب مني مراجعة تجارب عدة أعمال له، فراجعت تجارب نزهة النظر حين أعاد تحقيقه، وراجعت تجارب قسم من الجزء الثاني من إعلام الأنام، 

وأستاذنا في كل ذلك يعطيني أجرًا مجزيًا على العمل، (دون حساب أو اتفاق) يفوق كثيرا ما يتقاضاه المصحح من أجر في مكاتب التصحيح. 

ولم أكن أكتفي بالتصحيح، فكنت أكتب ملاحظات علمية في أوراق مستقلة، وحين ذهبت إلى أستاذنا قلت له: إني كتبت بعض ملاحظات، والأمر إليكم أستاذنا، 

فقال: هات. 

فكنت أعرض عليه ما كتبته، فيسر بذلك، وأخذ ببعض الملاحظات، ولم يجد غضاضة في ذلك، بل كان شاكرًا مشجعًا متواضعًا رحمه الله تعالى.

ثم لما أعاد طباعة شرح علل الترمذي، طلب مني ومن أخ كريم مقارنة المطبوعة الجديدة بالنسخة الخطية الأصل، فقارنّاها كلٌّ على حدة.

ثم كان من بركة هذه الصحبة مع أستاذنا، أن اصطحبني معه لزيارة العلامة الكبير الأستاذ عبدالله سراج الدين، والاستجازة لي منه، رحمه الله تعالى وأعلى مقامه. 

وأسأل الله تعالى أن يجزي شيخنا عنا كل خير ويعلي مقامه ويتقبله في المهديين. 

-2-

زيارة العلامة الكبير الشيخ الأستاذ عبدالله سراج الدين رحمه الله تعالى وأعلى مقامه وتقبله في المهديين. 

أسلفت أني كنت أحضُر صحبةَ عدد من الأساتذة الكرام نحو العشرة، منهم أخي الأستاذ الفقيه يوسف هنداوي.. كنا نحضر دروسا في منزل أستاذنا العلامة نور الدين عتر،

فتكرر طلب الإخوة منه أن يرتب لنا زيارة للعلامة الشيخ عبدالله،

فكان الشيخ يهز رأسه بهدوئه المعهود ويجيب: ادعوا له، ادعوا له. 

وتمر أيام، إذا بالشيخ يحيى ابن أستاذنا نور الدين يتصل بي على هاتف البيت الثابت (ولم تكن الهواتف النقالة اخترعت أو وصلت بلادنا بعد)

فقال: والدي يقول لك: صل عندنا المغرب في جامع الرشيد. 

وانتهت المكالمة. 

فشغل ذهني... ماذا يريد أستاذنا؟!

خرجت مصطحبا مجلدا من فتح الباري، إذ كان اليوم موعد الدرس الأسبوعي لأستاذنا محمد عدنان الغشيم رحمه الله تعالى في فتح الباري. 

بعد صلاة المغرب في جامع الرشيد، مشيت بجانب أستاذنا نور الدين بوقاره المعهود، لا يتكلم، انتظرت أن يبادئني عن سبب طلبي، فلم يفعل،

فقلت له: ما الخبر أستاذنا؟

فقال: الآن يستأذنون الشيخ (أي الشيخ عبدالله) لزيارته، وينتظرون الإذن. 

فكان جوابي أن قلت له: أستاذنا لا تنس أن تطلب لي منه الإجازة. 

ثم عرفت فيما بعد، أن أحد طلاب أستاذنا الخواص من دمشق قدم إلى حلب لزيارة أستاذنا، وطلب أيضا زيارة الأستاذ عبدالله،

فكان أن خصني أستاذنا نور الدين من بين العشرة الذين كنا نحضر في منزله، وطلب مني الحضور لمرافقته إلى زيارة الأستاذ العلامة.

فجزاه الله عني خيرا خيرا. 

دخلنا منزل الأستاذ العلامة، سلمنا عليه وقبلنا يده،

كان جالسا على ديوانيته، مسندا ظهره إلى مخدة بطرف الديوانة، وممددا رجليه قليلا، وركبتاه مرتفعتان، وقد غطى نصفه الأسفل بلحاف لطيف، وعلى رأسه قلنسوة صوف،

والمنزل غاص بالزوار،

فتحدث شيخنا الكبير عن محبة النبي ﷺ وهو موضوع أثير لديه،

ثم في نهاية حديثه، قال أستاذنا نور الدين للشيخ الكبير: 

عندنا هذان، (وأشار الأستاذ إليّ وإلى طالبه الدمشقي،)

نريد ان تجيزوهما. 

فخجلت يومها من هذا التخصيص وفي المجلس عدد من الأساتذة. 

فقال الشيخ الكبير: ماذا قرأتم؟

فبادرت وقلت (وقد ذهب وهلي إلى كتب المصطلح): قرأت كتابكم شرح المنظومة البيقونية، ومقدمة ابن الصلاح، وأجزاء من تدريب الراوي، ونزهة النظر.. 

فقال: اقرؤوا الصحيحين، وعلى كل نجيزكم، ثم قرأ الحمد والصلاة والسلام على النبي، ثم أجازنا نحن الاثنين إجازة عامة بما يحق له وعنه روايته، وختم بالوصية، كما هو عهد المحدثين المجيزين. 

جزاه الله خيرا ورحمه رحمة واسعة. 

(وكنت من فضل الله قرأت البخاري، ونقيم درسا أسبوعيا في قراءة شرح النووي على مسلم، وكنت أحضّر له وأتعب في التحضير ساعات)

وحين أردنا الانصراف وسلمت على شيخنا الكبير، قال لي: سنعمل إن شاء الله نموذجا للإجازة مختصرا، (وكان يلمح بذلك إلى ما فعله الشيخ أحمد السردار رحمه الله).

وكانت هذه الزيارة الوحيدة لشيخنا الكبير، رحمه الله. 

بعد خروجنا من المنزل سلمت على أستاذنا نور الدين، واستأذنته،

وانطلقت متابعا المسير مسرعا من روضة حديث كنا فيها، إلى روضة حديث أخرى، وهي درس أستاذنا محمد عدنان الغشيم في فتح الباري. 

رحم الله مشايخي وجزاهم عني خيرا.

-3-

هدية العرس

كان يوم زفافي، الخميس

8 رجب 1419

29 ــ 10 ــ 1998م

في مسجد الشيخ عبدالقادر الجِيلاني بمنطقة الصالحين، بحلب،

أقام الحفل المنشد الكبير العلم أخي الأستاذ أبو أنس منذر سرميني (أبو الجود)، مع فرقته، وأذكر منهم أخي الشيخ أحمد أبو خرس، وأخي الشيخ مصطفى البيلوني

جزاهم الله خيرا

وكان من خبر إقامة الأستاذ منذر لعرسي، أنه كان لي به صلة، إذ كنت إماما في مسجد سوق العطارين مدة عشر سنين، وكان للأستاذ منذر محل يعمل فيه بتجارة الخيط، إضافة إلى عمله مهندسا،

فكان يصلي معنا في المسجد، وكنت أجلس عنده في المحل أحيانا، فيُسمعني من جديد شعره، ويسألني أحيانا عما يتعلق ببعض شعره من لغة ونحو، بالإضافة للقائي به أحيانا في مسجد الكَريميّة أو بعض المناسبات،

فكان مما حدثني به: أنّ أيّ طالب علم يريد الزواج فأنا أقيم له حفل زفافه، هديةً دون مقابل. 

فقلت له: وأنا؟

فقال ما معناه: إذا كنت سأقيم حفل طالب العلم ولو لم أعرفه، فكيف بالشيخ ياسر. 

وهذا ما كان... 

دعوت مشايخي والناس للعرس، وأكّدتُ على توقيت بدايته ونهايته، من بعد صلاة العشاء الساعة 7:30

حتى 11:30

على خلاف عادة أهل حلب من بداية أعراسهم الساعة 10 أو 11 والانصراف الساعة 2 أو 3 قبيل الفجر! 

وحضر بفضل الله ثلة من مشايخي الأعلام

في مقدمتهم شيخنا وأستاذنا المربي الفاضل، الحفي الخفي، وهو شيخي الأول، الأستاذ نور الدين عزيزي حفظه الله في صحة وعافية. 

وشيخنا الجليل الفقيه الأصولي الفَرَضي الأستاذ أحمد مهدي الخضر

وشيخنا العلامة المحدث الفقيه الأستاذ محمد عدنان الغشيم

رحمهما الله تعالى وأعلى مقامهما. 

وكوكبة غفيرة من الأساتذة أهل العلم وطلبته،

وكنت دعوت أستاذنا الجليل نور الدين عتر، لكن لم يقدّر له.

كان يوما مشهودا بحمد الله، سمعنا من أبي الجود وفرقته أناشيده المميزة الهادفة. 

قال لي الأستاذ أبو الجود: 

حفلة عرسك تميزت عن الأعراس بشيئين: 

بداية ونهاية مبكرة،

ثم خلوّ العرس من الرقص. 

فالحمد لله.

وكان في العرس عدة كلمات ومحاضرات،

منها أني قدّمتُ شيخنا المحدث الأستاذ محمد عدنان الغشيم، فألقى كلمة عن فضل علم الحديث وأهميته. 

بعد أيام من الزفاف قررت أن أقوم بحركة، وهي أن أسافر أنا وعروسي إلى دمشق الشام مدة يومين، بما يسمونه (شهر العسل)

يناسب الحال! 

تجولنا في بعض معالم دمشق... 

مررنا بمسجد بني أمية الكبير، وسوق الحميدية، وأريتها القبر المزعوم لنبي الله يحيى، وأعلمتها أنه لا يصح، كما لا يصح قبر نبي الله زكريا في حلب، ومررنا بقبر السلطان الصالح صلاح الدين الأيوبي، ومررنا بمسجد السيدة زينب، وأعلمتها أن قبرها مزعوم مكذوب، وكذا قبرها المزعوم في مصر. 

ودخلنا المتحف الحربي في التكية السليمانية،

ومررنا ببعض المكتبات

نِعْم شهر العسل! 

(قال شهر عسل قال!