رجل فقدناه نعي شيخنا العلامة نور الدين العتر

وكان من خبري أنني في عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين ... كنت أحد الراسبين ... ( أو الراسخين في العلم... كما كان يخفف بذلك شيخنا العلامة محمد أمين مشاعل رحمه الله عن كل راسب ) في مرحلة الاختصاص في دار نهضة العلوم الشرعية ( الكلتاوية ).

وحزنت لذلك أيما حزن ، واعتراني الهم وعلتني الكآبة ، فمن الصعوبة بمكان ، ومن المشقة على نفس كل إنسان... أن يتخلف عن أترابه ، ويتأخر عن رفاق دربه وأصحابه .

إلا أن ذلك الرسوب... كان خيراً لي من علام الغيوب ، ولا يريد الله بعبده المسلم إلا الخير ، فطب نفساً وقر عيناً أيها المحبوب.

تم نقلنا لاحقاً إلى معهد الفتح الإسلامي بدمشق ، وهناك لقينا خيرة علماء سوريا ، من أمثال الدكتور مصطفى سعيد الخن ، وأبي الحسن الكردي ، وآل الفرفور الكرام ، والدكتور نور الدين العتر الذي رحل اليوم عن دار الغرور إلى رحمة الرب الغفور... ولأجله أخط هذه السطور . 

ولما كنت لا أنام الليل في أغلب أحاييني ، فإذا صليت الفجر خلدت إلى النوم إلى الظهر ، صحوت على نبأ الفاجعة ... نبأ رحيل شيخنا العلامة نور الدين العتر رحمه الله وبرد مضجعه .

طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ*** فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ

حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً *** شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي

في ثاني محاضرة لنا بين يديه رحمه الله في معهد الفتح استدعاني بمفردي في أول المحاضرة ، وكنت ألبس العمامة النبهانية والجبة الحلبية ، وهمس في أذني: أدعوك وزملاءك من مُعْتَجِري العمامةِ البيضاء إلى بيتي عقب الدرس القادم إن شاء الله تعالى .

وعدت إلى مقعدي بغير الوجه الذي ذهبت إليه ، البشر باد على محياي، والابتسامة مرتسمة على شفتاي ، وأشار لي بعض الإخوة ، ما الخبر ؟ فأشرت لهم ألا تعجلوا.. فمن صبر ظفر .

وانتهت المحاضرة... وزففت البشرى لزملائي الحلبيين ، وتمايلنا طرباً لهذا التخصيص ، وتشامخنا عزاً بهذا التنصيص .

وأزفت ساعة الزيارة ، وامتطينا صهوة السرافيس إلى حي المهاجرين ، ودلفنا إلى مسجد ظبيان ، وبعد صلاة العشاء ثنينا الركب في مجلس شيخنا حيث كان يدرس طلبة العلم كتابه ( تطبيقات في الحديث الشريف ) .

وبعد الفراغ من الدرس سرنا معه حتى بلغنا المنزل ، ورحب بنا كما يرحب الروض بزائريه ، وراح يتعرف علينا كلاً باسمه ، وقدم لنا كتابه ( النفحات العطرية من سيرة خير البرية) هدية درية ، ومنحة ذهبية ( ذهب الكتاب فيما ذهب من كتبي في الحرب السورية ) .

ثم قدم لنا الشاي مع الكعك (السخّان ) اللطيف ... ولما هِبنا أن نأكل أمامه وكان مهاباً قال : ما لكم لا تأكلون؟ ... والشايَ لا تشربون ؟ أتستحون ؟ أو أنكم لا تعرفون كيف يؤكل هذا مع الشاي ؟ هكذا يا سادة ... وراح يبل الكعك في الشاي، وهو يبتسم .

فسألته عن الفرق ما بين دمشق وحلب من حيث النشاط العلمي والإقبال على دروس العلم الشرعي ، هل لاحظتم هذا سيدي؟ ، فقال : ثمة بون شاسع بين المدينتين ، ثم تابع الحديث وهو يتنهد أسفاً على آلت إليه حلب في تلك الأيام ، وما ارتقت إليه دمشق من توسع في حلقات العلم وإقبال عظيم عليها .

وكان فيما أخبرنا أن جامعة خليجية طلبت إليه ترشيح طلبة لإتمام الدراسة فيها ، فقال : كان العزم معقوداً على أن أختار لهم من المدرسة الشعبانية عشرة ، والمدرسة الكلتاوية عشرة كلَّ عام ، لكن الأمر لم يتم ، فعجبنا من سماحة نفسه ورحابة صدره ورفعة أخلاقه؛ إذ لم يميز بين طلاب مدرسته الأم، وطلاب مدرسة منافِسة ، كما يقع في ذلك بعض الأشياخ عفا الله عنهم .

وبعد ساعة لا تنسى من اللطف والعناية، ولحظات لا يعادلها الدهر بهناءاته ومسراته خرجنا من عنده وهِمَمُنا في الثريا، علاءً ومضاءً وارتقاءً .

وهَمَمْنَا بتقبيل يده فصدَّنا عن ذلك ، وقال : ألا تفعلون ما هو خير لي ولكم؟ ، تصافحونني وأصافحكم ، فتتناثر الخطايا من أيدينا ، وتدعون لي وأدعو لكم .

وانتهى العام الدراسي ، وظهرت نتائج المادة التي يدرسنا إياها ، وما نال درجة 100 من 100 عنده إلا اثنان لم أكن أحدهما ، وهما : الشيخ الفاضل النابه محمود عبد الله السيد علي ، والشيخ الطُلعة عبد الله محمد علي الجميلي ، فقد كان رحمه الله شديد الملاحظة دقيق التصحيح .

هذه خلاصة ذكرياتي مع هذا الإمام ... إلا أن لي كليمات يسيرات أقدمها بين يدي رحيله رحمه الله :

1- لقد كان الشيخ رحمه الله من العلماء القلائل الذين زاوجوا بِدقة، ونسَّقوا بِحِرَفِيةٍ عاليةٍ بين عِلْمَي الفقه والحديث، فقد كان حنفيَّ المذهب وكان إلى ذلك محدثاً متقناً ... إلا أنه كان يُقّدِّمُ كلا العِلمينِ للناس وللطلبة في صورةٍ معجبة من الاتفاق والتعاضد لا تجدها عند آخرين ممن يحيف بِعِلْمٍ من هذين على الآخر .

2- كان رحمه الله ذا خلق عظيم... وسمت قويم... ولطف أرق من النسيم... ، كان لا يقدح ولا يجرح ( وهو الخبير بعلم التعديل والتجريح ) ، ولا يُقَبِّحُ ولا يذم، ولا يغل ولا يحقد ، ولا يفرق بين طلبته ، فهذا من مدرسةٍ غيرِ مدرسته ، وذاك من منهجٍ غير منهجه ، وكذلك يكون المعلم العظيم ... يجمع ولا يفرق ... ويؤلف بين القلوب ولا ينافر، ويتسع قلبه للجميع .

3- كان يرعى تلامذته ويتتبع أخبارهم ويسأل عنهم ، ويفرح لفرحهم ، ويعينهم إن هم احتاجوا إلى إعانة ..بالمال أو أي وجه من وجوه المساندة .. وقد حدثنا أخونا الدكتور زياد أوزون - وكان الدكتور نور الدين مشرفاً عليه في رسالته - من ذلك بما يملأ النفس مسرة، والقلب محبة لهذا الجبل الشامخ والطود الباذخ .

4- كان يشيد بنجاح الناجح، ويزرع الثقة في نفس المتكلم إن أحسن ، وقد حدثنا أخونا الفاضل الأديب حسن دعاس أنه قدمه في عرس من الأعراس الحلبية ليتكلم، ولم يكن الدكتور نور الدين ضمن قائمة المتكلمين في الأصل لأنه كان في الشام والعرس في حلب ، وما الظن أن يحضر ، ولما حضر طلب منه كونه عريف الحفل أن يقدمه ، قال : فقلت في نفسي: كيف أقدم الشيخ وهو العلامة الفهامة - رحمه الله – وماذا أقول فيه ، وبماذا أخبر الناس عنه ، فطلبت العون من الله ثم نهضت فقلت: كما أن للسماء نجوماً تحميها من استراق الشياطين كذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوم تحميه من التحريف والأكاذيب وتحفظه لنا صحيحاً كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التمست منه الكلام. 

فلما صعد المنصة سألني ما اسمك يا بُني؟ وأين قرأت هذا التشبيه لأهل الحديث بنجوم السماء حماية ....فقلت: هذا خطر ببالي للتو عندما أخبروني بأن الكلمة لفضيلتكم .....فقال: يا بني أنت رجل مُلْهَمٌ، وذكَرَها لي عن بعض أهل الحديث.......وتالله كم فرحت بكلماته وتواضعه.

5- لم يخض رحمه الله تعالى فيما جرى في سوريا من أحداث مؤخراً ، واعتزل الناس ، وانكفأ على نفسه ، ثم رحل عفَّ اللسانِ... طاهر الذيل... نقي السريرة .

6- أستطيع أن أقول بالفم الملآن : شيخي الدكتور نور الدين العتر .

رحم الله شيخنا الدكتور نور الدين عالم الزهاد وزاهد العلماء... وجزاه عن طلبة العلم خير الجزاء ... وأعاننا على حمل الرسالة من بعده ... وبارك في أعمار سائر أشياخنا ... إنه سميع قريب .