ذكرياتي مع العالم المربي محمد مجاهد شعبان

تحل علينا اليوم ذكرى وفاة شيخنا العالم الأديب الأريب الحبيب الشيخ المجاهد (محمدمجاهد شعبان)الذي تخطفته يد المنية عام ٢٠٠٠ قبل عشرين عاما وهو في أوج عطائه لم يجاوز عمره الواحد والخمسين عاما رحمه الله رحمة واسعة ونور قبره وأعلى مقامه وجزاه عنا خير الجزاء..

ولا أريد ان أترجم له فقد ترجمت له زوجته الفاضلة الشيخة عائشة سحر بنت الشيخ الطبيب عمر خياطة ترجمة وافية.

ولكن سأذكر بعض أخباره وأنشر قبسا من أنواره لعلي أوفي بعض حقه علي رحمه الله.

فقد فجعت بخبر وفاته وأنا في القاهرة أطلب العلم بالأزهر فحزنت حزنا شديدا عليه كأني فقدت بعضي، كان الشيخ يصيف ببلدنا أريحا ضيفا عزيزا في بيت والدي بجبل الأربعين مرارا في سنوات حياته الأخيرة، ولما حان أجله أصيب بحادث سير أثناء عودته من أريحا إلى حلب فمات من ساعته.

كان خبرا صاعقا فقد فقدت شيخي الذي أحببته وفتح لي بيته وقلبه وأثر في تكويني بعلمه ومواقفه.

بعد تخرجي من المعهد الديني بحلب سمعت بالشيخ فسألت عنه عمي الشيخ عبدالله فأثنى عليه خيرا واستأذنت والدي بزيارته فأذن لي وشجعني فزرته في دار الأيتام التي كان مديرها ولا أنسى مجلسنا ذاك الذي حدثني فيه عن العلم وفضله وكيفية طلبه وحفزني على تحصيله وأطرفني بأخبار بعض الأعلام فطلبت منه أن أزوره ببيته لأقرأ عليه فرحب بي، فكنت أمضي إليه مرتين في الأسبوع وكان بيته بعيدا عن بيتنا قليلا ثم قطعت بعض الطرق بعد شهور فصار بعيدا كثيرا ولكن الشوق للتحصيل ومحبة شيخنا النبيل كانت تنسيني بعد الطريق ومشقة الوصول وكنت أغتنم وقتي فأقرأ في السيارة من الكتاب ولم يكن في ايامنا هواتف ذكية. قرأت عليه شيئا من سبل السلام للصنعاني وثلث كتاب إرشاد الفحول للشوكاني ومواضع من الكامل للمبرد والبداية والنهاية لابن كثير وصحبته في حضور درس بجامع النور بمنطقة سيف الدولة وكان درسا يحضره عدد كبير يقرأ فيه شيخنا مجاهد على شيخنا العلامة الفقيه الشافعي الحنفي ملا محمد خليل رحمه الله من كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني دفين حلب رحمه الله.

تلقى شيخنا العلم في الثانوية الشرعية بحلب وصار فيما بعد أحد أكبر أساتذتها،

وكان من أقران والدي فيها، وكان يحبه ويعتقد فيه الصلاح ويفرح بما أجرى الله على يديه من النفع في العلم والدعوة، وكان يقول: لا نعرف لأبيك صبوة ولا طيش شباب وكنا نشفق عليه إذا صلى لشدة خشوعه، وحدثني ان والدي كان يراجع لشيخنا ومن معه النحو وهم في طريقهم إلى دمشق لتقديم امتحان الليسانس بكلية الشريعة.

ولكن شيخنا كان له مزيد تعلق وصحبة للشيخ العلامة العبقري عبدالرحمن زين العابدين وقد دون عنه أشياء وأملى عليه فوائد فرائد كنت استعرتها من شيخنا ونسختها في كراس لي بحلب والحمد لله.

وكان الشيخ عبدالرحمن بارعا في العلوم العربية والعقلية والصناعات الدقيقة ماهرا في تصليح الساعات والرماية عاشقا للإمام الشافعي فمن عشقه له أتقن الرمي فكان يفك البارودة ويركبها وهي خلف ظهره وكان يجعل شيئا فوق رأس أخيه الاصغر العلامة الشيخ محمدأبو الخير ويرمي عليه النار مستدبرا له مستعينا بمرآة فيشطره شطرين، فلا تدري أتعجب من عبد الرحمن ام من اخيه ابي الخير أم من كليهما رحمهما الله.. وقد كتب بعض اخباره شيخنا عبدالفتاح ابو غدة واستكتب شيخ مشايخنا مصصفى الزرقا في ختام تحقيقه لكتاب الإحكام للإمام القرافي فانظرها تر عجائب.

ومن نوادر الشيخ عبدالرحمن أنه كان يعرب الأبيات المشكلة فكان ينام أحيانا أثناء ذلك ويستمر في الإعراب وهو نائم ثم يصحو فيسألهم أن يقرؤوا له ما قاله فيجده مستقيما، وله أخبار ونوادر دون شيخنا مجاهد طرفا منها وسمعت بعضها من والدي ايضا وكتب عنه الأستاذ الشيخ الأديب تيسير كعيد كتابا جيدا.

ومن أخبار شيخنا مجاهد رحمه الله أنه كان فارسا يحب الخيل ويتقن ركوبها وترويضها ويلم بأخبارها فحدثنا أنه طلبت منه امرأة صحفية تعمل في مجلة أن تجري معه لقاء للحديث عن الخيل وتنشره فيها فأبى شيخنا وقال: كيف سأجلس إلى امرأة سافرة لتحاورني في الخيل فأنظر إليها؟! فلما قيل له: لن ننشر صورتك مع الصحفية فلا تخف من كلام الناس قال: ولكني أخاف من الله فلا ضرورة للجلوس مع امرأة سافرة يضطرني الحوار وإدارة الكلام للنظر إليها...فتعلمت درسا ثمينا من هذا الموقف أن لا أتهافت على الظهور الإعلامي وأن لا أتنازل عن ديني سعيا وراء الشهرة فأقبل الظهور مع مذيعة سافرة..

وكذلك كان الشيخ يربينا بالموقف والقصة فما زلت أذكر أنه ذات مرة استصحبني معه بسيارته المتواضعة بعد درس ليوصلني الى بيتي فحكى لي في الطريق أن شابا من طلاب العلم شكى إليه أنه لا يشعر بحلاوة القرآن فسأله شيخنا: هل تسمع الأغاني فقال: نعم كثيرا ولكن لا أسمع إلا للطرب الأصيل من امثال ام كلثوم وعبدالوهاب فقال له شيخنا: إن القلب لا يجتمع فيه القرآن والغناء، إن امتلأ قلبك حبا للغناء وأنست نفسك بألحانه فلن يخشع قلبك لجلال القرآن ولن تطلب نفسك الخشوع لآياته وزواجره وقوارعه.

وكان لشيخنا مواقف مشهودة في قولة الحق والحط على الظلمة والتبري من النفاق حتى إنه سجن في سبيل ذلك فلم تلن له قناة فكان يغرس فينا معاني العزة ويبغضنا في النفاق ويحذرنا من الاغترار بالمنافقين ومن الانجرار وراء قومية او بعثية.

وكان شيخنا صاحب نكتة وطرفة راويا للأخبار حافظا للأشعار يطرف سامعيه بأخبار العلماء من المتقدمين والمعاصرين ذا اطلاع على التاريخ ومعرفة بالحديث والأصول والأدب.

وقد صحب مولانا الإمام عبدالفتاح ابو غدة رحمه الله في شبابه ولازمه في آخر سنوات حياته حين رجع الى حلب ملازمة تامة فحكى لنا أنه انطلق مع الشيخ ذات يوم في سيارة أحد المحبين لزيارة قلعة شيزار قلعة الأمير أسامة بن منقذ رحمه الله بالقرب من حماة فكان يقرأ على الشيخ وهم بالطريق من كتاب الكامل للمبرد ولما نزلوا من السيارة يستريحون في أحد المطاعم قال الشيخ عبدالفتاح: أين الكتاب يا مجاهد؟ فقال له: يا سيدي أفي هذا المكان؟! فقال: نعم وما المانع لا يقطعنك عن العلم قاطع، فأخرج الكتاب وشرع في القراءة والناس من حولهم ينظرون متعجبين، وحكى لنا أنه كان مع مولانا وسيدنا عبدالفتاح فمروا بمبنى قديم حكومي من أبنية حلب قد كتب عليه بيتان من شعر الحكمة فالتفت شيخنا عبدالفتاح إلى شيخنا مجاهد وقال: أين الكُنّاش يا مجاهد؟ فقال: نسيته يا سيدي، فقال له: يا مجاهد لا بد لطالب العلم من كناش يكتب فيه قاعدا أو ماش.. ومما أتحفنا به من أخبار الشيخ عبدالفتاح أنه أخذ الطريقة النقشبندية من شيخه الشيخ عيسى البيانوني رحمه الله.

هذا ما خطر الآن بالبال الكليل من أخبار شيخنا الجليل رحمه الله وبارك في ذريته.