في الذكرى العشرين لوفاة والدي الشيخ محمد مجاهد شعبان

بمناسبة الذكرى العشرين لوفاة والدي محمد مجاهد محمود شعبان رحمه الله أكتب بعض كليماتٍ عنه، ولكن في البيت وليس خارجه فأغلب من ذكره ذكره في لقاءاته وتنقلاته وروحاته وجيئاته.

ووالدتي الكريمة سليلة بيت العلم عائشة سحر بنت الدكتور الشيخ الطبيب عمر خياطة ذكرت طرفا من ذلك وأذكر ما عندي ونظرتي تختلف عن نظرة والدتي فأنا طفل وابن يافع وشاب ينظر إلى والده.

فأولى ذكرياتي له رحمه لله بشاشة وجهه عند دخوله البيت وخصوصا في صغرنا فأذكر أنه عندما كان مطلوبًا احتياط للجيش ذهب لمدة سنة إلى مدينة الطبقة فكان يذهب كل يوم بالقطار إليها ويعود مساء فيدخل حليق الرأس متبسم الثغر يجلس ويحكي لنا عن رحلته بالقطار ونحن نحلم بها.

ثم وعيناه صغارًا يصنع لنا في البيت ألعابًا بيده ولكن ليست كأي ألعاب! تعلمنا الرجولة وخصوصًا في صغرنا فكان يعلمنا اللعب بالصياح (وهو شكل مخروطي له محور يدور عليه) فكان يضربه بالأرض بقوة في سطح بيتنا ويقول لنا: هكذا كانوا يتدربون على ضرب السيف، وأذكر مرة أنه صنع لي بيده سهمًا يرمى باليد ليدخل في الهدف فكنت أضرب الباب الخشبي داخل البيت به، فتغضب أمي، فيقول لها: دعيه يتعلم الضرب به، ومرة ضرب أحد أخوتي الصغار المكيف بالسهم فنزعه، فلم يعنّفه بكلمة واحدة وإنما ابتسم وأحضر من يصلحه.

وكان يصنع لنا سهامًا وقوسًا من المظلات المعدنية القديمة ويضع لنا أهدافًا ويعلمنا الضرب بها على الأهداف وهكذا كان يهتم بكل ما ينمي رجولة الرجال والشجاعة.

ومن ذلك اهتمامه بتعليمنا ركوب الخيل وإصراره عليه حتى وإن سقطنا وأؤذينا كان يصر على إكمال تدريبنا، وكذلك اهتمانه بتعليمنا السباحة فكان يرافقنا إلى المزارع التي تحوي أحواضا للسباحة عند أصدقائه أو إلى البحر في رحلات دار الأيتام الإسلامية ويهتم بتعلمنا السباحة هناك، وكان لا يفرّق في ذلك بين ذكر وأنثى، فكان يعلّم أختي أيضّا ركوب الخيل والسباحة ويصحبها في نزهاته عندما كانت صغيرة.

ومما أذكره عن يومه في البيت أنه يخرج بعد الفجر إلى عمله في دار الأيتام ويعود بعد الظهر متعبًا ويستلقي على الكنبة انتظارًا لطعام الغداء، ولا بد أن يمسك كتابًا بيده أثناء ذلك وينام واضعًا الكتاب على وجهه مفتوحًا عند الصفحة التي يقرأ فيها، ولا ينهانا إذا أصدرنا أصواتا، وربما ركب على بطنه أحد إخوتي الصغار وأيقظه فيلعب معهم دون أن ينزعج أو يبعده عنه.

وكان الجلوس معه على الطعام من أمتع المجالس فيحدثنا عن أخبار اليوم وأحداث الساعة أثناء الطعام ويسألنا عن أحوالنا ثم بعد الطعام ينام قليلا ثم يقوم ليمسك كتبه ويتوقف فقط عند سماع نشرات الأخبار من إذاعةBBC فقد كان حريصًا على أخبار المسلمين حرصًا شديدًا وكان يتأثر تأثرًا عجيبا بنشرات الأخبار وخصوصا إذا كانت تحوي أخبارا محزنة عن فلسطين أو البوسنة أو غيرها.

وأذكر في صبيحة يوم الجمعة يومَ مذبحة الحرم الإبراهيمي استيقظت على صوت الراديو مرتفعًا ينقل الخبر، وصوت والدي غاضبًا حانقًا يحوقل ويسترجع، ويقول لي: قم قم اسمع، وأنا صغير ويحكي لي باقتضاب ماذا حدث وبقي أيامًا لا تهدئ نفسه بعد هذه الأخبار.

وأذكر أنه أثناء حرب البوسنة والهرسك مرض أيامًا وارتفعت حرارته ولم يذهب إلى عمله في دار الأيتام بسبب الأخبار التي يسمعها وخصوصًا خبر اغتصاب النساء فقد أمرضه أيامًا وأذكر أنه خطب خطبة مؤثرة عن حرب البوسنة ولا زلت أذكر صوته القوي الجهوري يهز المسجد مرددا بيت أبي البقاء:

وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ برزت كـأنـها يـاقـوتٌ ومـرجـانُ

يقودها العلج للفحشاء مكره والعين باكية والقلب حيران

لمثل هذا يموت القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان

وبعد نشرات الأخبار كان يدخل مكتبته غالبًا إذا لم يكن عنده درس في البيت أو عند الطلبة ولا يخرج منها، وكان أثناء قراءته ومطالعته لا يسمعنا إذا تكلمنا معه ولا يضايقه صوت لعبنا وصراخنا نحن الأطفال أبدًا بل تراه مستمتعًا بضجيجنا.

وكان إذا أراد كتابًا صعد السلم لاحضاره وفي أثناء صعوده يرى غيره فيأخذه ويفتحه ويقرأ فيه ويبقى واقفًا على السلم القصير في بعض الأحيان أكثر من ساعة وهو يقلب الكتب ثم ينزل بعد إحضاره الكتب ويجلس على الكنبة يقرأ. وكان أحيانا يسألنا أن نبحث له عن كتاب ويحدثنا عن أوصافه وموضوعه، وعندما كبرنا قليلا ربما طلب منا أن نبحث له عن كلمة في معجم أو بيت شعر في ديوان ويعلمنا طريقة البحث ليغرس فينا حب العلم وصحبة الكتاب.

وأذكر أحيانًا أنه إذا أعجبته كلمة أو قصة قرأها بصوت مرتفع للوالدة وكنا نسمعه أثناء ذلك، وكانت له أبيات من الشعر يرددها وهو جالس في البيت دائمًا أذكر منها:

ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه

ومنها:

سيان إن هي أقبلت أو أدبرت وقع السهام ونزعهن أليم

وكان يردد أبيات أبي فراس الحمداني ويحبها:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر

وأذكر أنه سمعها لأم كلثوم من الراديو لشدة حبه لهذه القصيدة

وكان يحكي لوالدتي عن لقاءاته مع المشايخ وماذا قال الشيخ عبد الرحمن في هذا الموقف وماذا قال الشيخ عبد الفتاح اليوم وهكذا رحمه الله

ومما أذكره في المنزل أيضًا أنه كان يساعد والدتي في تحضير بعض أنواع الطعام التي يحبها، وكثيرًا ما كان يوقظنا يوم الجمعة وقد أعدّ لنا فتة الحمص أو الفول أو السحلب بنفسه، وكان أكثر ما يحب الشوي من الكباب وغيره وفتة رأس الخروف وأقدامه (القشة والمقادم بلهجة أهل حلب) فكان رحمه الله يتوكل هو تمامًا في طبخ وتحضير هذه الأطعمة وكان إذا أعجبه طعام لا بد أن يدعو ضيفًا ليأكل معه.

وكان يصلح أشياء البيت بيده ولا يتصل بمصلح إلا إذا أعجزه مع صبره وكثرة محاولاته تصليح ما خرب مهما كان نوعه سواء كان كهربائيًا أو من أثاث البيت أو ما يتعلق بتوصيلات الماء والكهرباء وغيره.

كان يحب النزهات العائلية ويحب أن يصطحبنا ويعرّفنا على أماكن أثرية أو طبيعية جديدة، وخاصة عندما امتلك السيارة، ويجعل النزهة كنوع من الاسترخاء لنا أو المكافأة فكان غالبا ما يأخذنا آخر يوم من الامتحانات أو يوم إعلان النتائج في نزهة غير متوقعة، ونطلب فيها ما نشاء إذ نعلم أنه لا يرفض لنا طلبا خلال الرحلة، وكان يأخذنا فيها إلى المطعم مع حرصه على جلوس النساء بعيدا عن أعين الرجال من رواد المطعم أو عامليه.

وكان من أدبه مع شيوخه أنه في البيت إذا اتصل به الشيخ عبد الفتاح أبو غدة يقف على رجليه ويكلمه أو يجلس كأنه يجلس أمامه ويتكلم بأدب واحترام عجيب. وكان يحرص على اصطحابنا إلى مجالس العلماء ودروس العلم سواء التي يلقيها أو يتلقّاها دون غصب وإنما بالتوجيه والنصح.

وعندما كبرنا قليلا في البيت كان يمازحنا ممازحة الشباب ويعلمنا كيف نكون رجالا أشداء نصبر على الدنيا وبلائها، وكان صاحب نفس ثوري لا يقبل بالظلم فعلمنا في البيت كره نظام الأسد والبعث وكراهية أتاتورك الذي ورثه عن شيخه عبد الرحمن، وعلمنا حب الإمام شامل الداغستاني وحب شيوخ الدعوة والجهاد أمثال حسن البنا وسيد قطب ولم يكن يخفي علينا شيئًا من ظلم الظلمة خوفًا علينا كما يظن بعض الآباء فكان يأتي لنا بأشرطة الكاسيت التي تحوي الأناشيد الدعوية والجهادية التي انتشرت أيام الثمانينيات لأبي راتب وأبي دجانة وغيرهم دون خوف من مخابرات أو غيرها.

وكان بسيط المعشر بسيط الحياة لا تحركه المظاهر ولا الزينات نكون على طعامنا فيدق الباب ويدخل ضيف ولم تكن الهواتف منتشرة في ذلك الزمان فندخله غرفة الضيوف، ثم يقول أحضروا صينية الطعام إلى هنا ويقول للوالدة: لا تضيفي شيئًا هذا طعامنا، فتصر الوالدة على إضافة شيء ما ونحمل الصينية بحالها إلى الضيف ويجلس الوالد يكمل طعامه معه دون حرج. وكذلك لم يكن يهمه مظهر البيت أن يكون أثاثه من الأشياء الغالية وغيرها بل يهتم بالأشياء العملية المريحة حتى مع ضيوفه فكان يفضل أن يجلس على الأرض وخصوصا في سطح بيتنا عندما يستقبل الضيوف فيه صيفًا. وحرِص على تعليمنا كرم الضيافة والأدب مع الضيوف وكنا صغارا نتولّى نحن تقديم الضيافة بأدب حتى أن بعض الضيوف كانوا يتعجبون ويتقدم أحدهم لأخذها منّا وتوزيعها.

ولم نر له وجهين داخل البيت أو خارجه فقد كان بشوشًا سعيدًا لطيف المعشر داخل البيت وخارجه، إذا ذهب ضيوفه وكان يمازحهم يستمر في ممازحته لنا وبشره بعد ذهابهم.

وكان لا يرد لنا شيئا تقريبا إلا إذا كان مخالفًا لأمر الله أو كان لا يناسب رجولة الرجال فمثلا أذكر أنني اشتريت مرة قميصًا يتبع صيحات الموضة ولا يناسب مجتمعنا وذوقنا فأخذ المقص غاضبًا أراد قصه لكن الوالدة أقنعته باستبداله فتركه حتى استبدلته، ومرة حلقت شعري على موضة الشباب تلك الأيام فدخل البيت ورآني فغضب غضبًا شديدًا وقال تحلق القزع الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكلمني حتى ذهبت وحلقته مرة أخرى، وكذلك طلبت مرة من والدتي أن تسأله أن يسمح لي بشراء نوع من أنواع الفئران التي تربى في البيوت، فقال غاضبا: النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بقتل الفأر وأنت تشتريه وتربيه. مع حبه للحيوانات فقد كان بيتنا لا يخلو من دجاج أو بط أو غيره من الحيوانات، ويشجعنا على العناية بها وعلمني طريقة الذبح الشرعي، رغم عيشنا في المدينة.

وطلبت منه مرة أن آخذ الكمبيوتر الوحيد في البيت إلى دمشق، وكنت مقيما هناك لدراستي، فرفض وغضبت وأنا شاب صغير مندفع وقبل سفري بقليل، قال لي مازحًا: غضبت؟ طيب خذه ولكن لا تؤخره من أجل إخوتك .

ولا أطيل فمختصر ما علمنا في البيت عدم الخوف وعدم الخنوع والصبر والعزة والكرامة والرجولة وعدم السكوت على الظلم وهذا الشيء أفادنا كثيرا في حياتنا وفي ثورتنا الآن وحدد لنا طريقنا من أول أيام الثورة دون حيرة أو تردد.

فرحمك الله يا والدي وغفر ذنبك ورفع قدرا وجعلنا أولادًا صالحين بارين يُتقبل دعاؤنا لك... اللهم آمين