العالِم المربي عبد الكريم بن حسن العثمان

التعريف به:

هو الشيخ الداعية المربي عبد الكريم بن حسن العثمان، فارس المنابر، والباحث العلمي المدقق، والمفسر القرآني المحقق.

ولد في قرية الغدفة من أعمال منطقة معرة النعمان –محافظة إدلب شمال سوريا، وذلك سنة 1947م، وقد نشأ في بيئة هادئة متواضعة امتازت بالعلم والصلاح، فوالده العالم العامل الشيخ حسن بن عبد القادر العثمان شيخ المنابر في إدلب، وصاحب اليد الطولى في التربية والإصلاح الاجتماعي.

في هذا الجو العلمي المبارك، نشأ الوالد الجليل، وتلقى تعليمه الأول على والده، الذي كان يوليه الاهتمام الكبير، لما كان يرى فيه من أمارات النجابة والذكاء والصلاح، حيث أتم حفظ القرآن الكريم ولـمَّا يجاوز الثالثة عشرة من عمره.

طلبه للعلم:

تابع طلبه للعلوم الكونية والشرعية في معرة النعمان، حيث صحِب الشيخ الجليل أحمد الحصري والشيخ صبحي العدولي والشيخ أديب السمنة في معرة النعمان أثناء دراسته الثانوية، وظل ينهل من معين شيوخ معرة النعمان، متتبعاً دروسهم وحلقاتهم العلمية في الجوامع والمساجد، حتى انتقل إلى دمشق للدراسة الجامعية ولهذا الانتقال قصة حدَّثنا عنها الوالد مرارا رحمه الله تعالى.

فقد أتمَّ الدراسة الثانوية في القسم العلمي بتفوق، مما أهَّله لدخول كل الكليات الجامعية، فجاء إلى والده الشيخ حسن يستشيره في أي فرع جامعي يتابع فيه دراسته الجامعية.

فقال له: يا بني، كنت فيما مضى أخطب الجمعة وأحدِّث الناس فينصت الجميع، ولكن نبتتْ نابتةٌ من المثقفين الجدد ممن درسوا علوم الطبيعة، فيحتجون عليَّ في بعض الأحكام الشرعية ببعض الدراسات العلمية، فأعجز عن الرد عليهم، وأريدك أن تدرس علوم الطبيعة حتى تكسر شوكة الإلحاد، وتخرس المستشرقين والمستغربين، وكان ما أراد، فانطلق الوالد ليسجل في كلية العلوم في دمشق، بالإضافة إلى كلية الشريعة حيث كان حينها يُسْمَحُ للطالب بالتسجيل في كليتيـن بآن واحد بشروط صعبة حققها الوالد رحمه الله تعالى.

فكان ينهل من معين الشريعة ومعين العلوم الكونية فيرى عظمة الله في خلقه وتشريعه، فحاول جاهدا إبراز هذا التلازم، فكتب عددا من الأبحاث لعلنا نشير إليها إن شاء الله تعالى لاحقا.

وبقي حاملا معه المحبرة طالبًا للعلم حتى حصل على الماجستير في علوم القرآن الكريم من خلال رسالته مشهد الأحياء المستصغرة في النظر السطحي، ثم حصل على الدكتوراه في علوم القرآن أيضا من خلال أطروحته مشهد الرياح وتصريفها.

آثاره العلمية:

ترك آثارًا علمية عظيمة من خلال دروسه ومحاضراته وندواته وطلابه وأبنائه، حيث كان يمضي غالب ساعات عمره في الدعوة إلى الله معلما ومربيا ومرشدا وموجها، وكان للقلم نصيب كبير في حياته فترك تراثا مباركًا من الآثار العلمية نشير له فيما يأتي:

• رحلة عبر الغيب. (مطبوع)

• سلسلة التفسير الموضوعي: مشهد الرياح وتصريفها (مطبوع)،مشهد الأحياء المستصغرة في النظر السطحي (مطبوع)، مشهد الجبال (لم يطبع).

• سلسلة "تأملات حال مرتحل" نظرات ووقفات مع آي القرآن العظيم. (تحت الإخراج).

• مجموعة من الأبحاث في الإعجاز العلمي تم تقديمها في مجلات عديدة ومؤتمرات متنوعة.

أشهر شيوخه:

وفي دمشق الشام كان يتابع دراسته الجامعية بتفوق، ويتتبع مجالس علماء الشام الكرام، فتربى على يد شيوخها وعلمائها، ولعل من أشهر من تربى على أيديهم:

• الشيخ الدكتور نور الدين عتر.

• الشيخ وهبة الزحيلي.

• الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.

• الشيخ مصطفى الخن.

• محمد أديب الصالح.

• الشيخ عبد الكريم الرفاعي وأبناؤه الكرام.

• الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت.

• وقرأ على بعض شيوخ الإقراء –من غير إجازة-كالشيخ محمد سكر، والشيخ محمد كريم راجح.

وصارت له صلات عديدة بعلماء الأمة من شتى البقاع من خلال المؤتمرات العلمية واللقاءات المتعددة، وكان لهذه الصلات المباركة أثر كبير في تشكيل شخصيته العلمية والدعوية المنفتحة على كل الأطياف الإسلامية، والحرص على توحيد الكلمة ورصِّ الصفِّ المسلم، وكانت وصيته لأبنائه يكررها دومًا: احذروا الانتماءات الضيقة، وعيشوا تحت قبة الإسلام.

معالم محورية في حياته:

• التميز في منهجه الدعوي:

فقد كان رحمه الله صاحب دعوة إسلامية أصيلة، متصلة بالأصل، ومرتبطة بالعصر، تجمع ولا تفرِّق، وتؤلف ولا تنفِّر، ويحلق بكلِّ من سمعه متأمِّلا في آي القرآن، ومُذَكِّرًا بما فيه من الوعد والوعيد، والتعرف على عظمة الخالق وما أبدعه في كونه، ورابطًا لكل هذا بالعلوم الكونية المعاصرة، فيثبت الإيمان، ويقوي العزائم، وكان حريصًا كل الحرص أن يُسْنِد كل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمرجعِه الذي استلَّه منه، ويجتهد في البعد عن ما خالف صحيح الأحاديث ما استطاع لذلك سبيلا.

فدعوته تمثلت في العيش مع الوحيين، تأمُّلا وتدبُّرًا وتفكُّرًا، مع حريص شديد على تطعيم النقل الخبري بالعلم الكوني، فكان مزيجًا فريدًا تنقاد له القلوب قبل العقول.

• الهمة الكبيرة في الدعوة إلى الله:

فقد كان همُّ الدعوة يشغل عليه حياته، فلا يجد منبرًا للدعوة إلا غرس فيه من غراس الخير، فعرفته المنابر والمساجد وحفلات الأفراح ومجالس العزاء في غالب المحافظات السورية، وكان يردد دومًا: لغدوة أو روحة في سبيل خير من الدنيا وما فيها، ولا يُذْكَرُ أنه دُعِي لمجلس فتردَّد أو امتنع، بل يكون أحيانا في طريق سفر فيصلي في أحد المساجد فإذا وجد ثلة من الناس فيه حدَّثهم وذكَّرهم ثم يمضي.

• حالٌّ مرتحِل:

فقد كان له حال عجيب مع القرآن، فقد حفظ كتاب الله ولـمَّا يجاوز الثالثة عشر من عمره، فاختلط بلحمه ودمه، فكان يقرأ ثلاثة أجزاء من القرآن العظيم يوميا، فيختم ختمة في كل عشرة أيام، ولا يترك هذا الورد لأي عارض، فكان تثبيته للقرآن عجيبًا، كأن المصحف كله صفحة واحدة يتأملها أمام ناظريه، وكانت له ورقة يكتب فيها ما يمر معه من تأملات أثناء تلاوته، حتى يراجعها في أقوال المفسرين، وكان يجمع أبناءه جميعا كل يوم بعد صلاة الفجر في المسجد يحفظون القرآن حتى تطلع الشمس ثم يسمعون ما حفظوه، وهكذا كان ديدنه طول عمره، حتى أكرمه الله بأن يحفظ خمسة عشر ابنًا وحفيدًا كتاب الله وحمل بعضهم الإجازة في القراءات العشر.

وكتب عددًا من المباحث التي سيتم نشرها قريبا إن شاء الله تعالى، أودع فيها خلاصة تأملاته في آي القرآن العظيم.

• ديمومة العبادة:

كما كان حاله مع القرآن عجيبا فحاله مع العبادة أعجب، فقد كان عمله دِيمة، فكان مواظبا على صلاة الجماعة والسنن الرواتب وصلاة الوتر إحدى عشرة ركعة، مع ثمان ركعات يصليها قبل الفجر متهجدًا، مع صيام الأيام البيض والإثنين والخميس من كل شهر، مع محافظة على أذكار اليوم والليلة، ولم يترك هذه العبادات في حضر ولا سفر، بل حتى في أيام مرضه الأخير كان يصليها على كرسيه.

• الصبر على البلاء:

فقد تعدَّدَت أنواع الابتلاءات عليه، فدفع ضريبة صدعه بالحق سجنًا وتهجيرا وإيذاء في جسده وماله وولده، وخلَّفت عذابات السجن في جسده آلامًا صاحبته طوال عمره حتى الساعات الأخير ة من عمره المبارك، وكان في كل هذا صابرًا محتسبًا، شأنه كشأن كل السائرين في طريق الحق، ورغم ظرفه الصحي الشديد الذي كان يعانيه في السنتين الأخيرتين من عمره، إلا أنه رفض مغادرة أرض الرباط في سورية، فبقي يدعو إلى الله رغم شدة المعاناة وسوء الظروف الأمنية والمعيشية، ويثبت المجاهدين ويقوي من عزيمتهم، ويزورهم في ثكناتهم ونقاط رباطهم، فكان مثالا للعالم العامل المجاهد الصابر، رحمه الله رحمة واسعة.

وفاته:

بعد مسيرة حافلة بالعلم والدعوة والصبر على أنواع الابتلاءات، لبــَّى نداء ربه بعد صلاة الفجر من يوم الإثنين الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر من عام 1440هـ الموافق 31 / 12 / 2018م، حيث صُـــلِّــي عليه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ودُفِن في البقيع إلى جوار الرعيل الأول المبارك الذين أحبَّهم وأمضى عمره في السير على خطاهم، رحمه الله رحمة واسعه ورفع درجاته في عليين.

رثاء

الشيخ الفاضل عبد الكريم العثمان في ذمّة الله 

صاحب العلم والمعرفة والأخلاق الرفيعة العالية والسمعة الطيبة 

وضع بصمةً طيبةً مشرقةً في الساحة بين أهله وإخوانه 

صاحب المواقف الجريئة التي لم تؤثر على صلابة كلمته وصدق ولائه لله سبحانه 

أسأل الله سبحانه أن يتغمّده برحمته وأن يسكنه فسيح جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين 

كما أسأله تعالى أن يلهم أبناءه و ذويه الصبر والسلوان وألّا يُفجعهم بعزيز .

.......................

وداعاً أبا حسّان

الشيخ عبد الكريم عثمان إلى جوار الرحمن.

أول ما عرفته في جامع الروضة في إدلب متحدثاً بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف .. كان مفاجأةً حقيقية لكل من سمعه ورآه مثلي لأول مرة ..طريقة جديدة في الحديث تجتمع فيها غزارة المعلومات المعروضة بأسلوب غاية في الجذب مع فصاحة في اللغة العربية لن تحتاج معها أن تتعب نفسك في البحث عن خطيئة واحدة فهي سليقية بالنسبة لمن حفظ القرآن منذ بداية حياته ونشأ في بيت علم ودين ..نمط جديد من الحديث يلتقي فيه التشويق والمقدرة على الأخذ بألباب الحضور من أول الحديث إلى آخره يتبع فيها اﻻية الكريمة بالحديث الشريف بالحقيقة العلمية الموظفة بشكل بارع للاستدلال على عظمة الخالق العظيم في بديع صنعه فترفرف أجنحة الإيمان في أرجاء المكان ! كيف لا !! وهو الشاب المؤمن الذكي الذي يتدفق حماسا استطاع أن يجمع بين دراسة علم الأحياء جنبا إلى جنب مع الشريعة الإسلامية فيحصل فيهما على شهادتين جامعيتين في نفس الوقت .عرفته وعرفه وسمع به من في الشمال السوري خطيب جمعة في قرية المسطومة تُشَدُّ إلى خطبته الرحال وتنتقل كلماته وخطبه عبر أشرطة الكاسيت في كل اتجاه .. كيف تُنسى ابتسامته التي تزين وجهه الممتلئ الأشقر المتلألئ بالإيمان !؟ ، سريع النكتة ، حاضر البديهة ، لا يمل حديثه السامع…. قلَّ أن تجد احتفالا بمناسبة اسلامية أو ندوة دينية في تلك المنطقة يقال عنها ناجحة دون أن يكون اﻻستاذ عبد الكريم عثمان رحمه الله أحد أقطابها فقد كان حديثه بحق زينة المجالس وكلمته واسطة العقد في كل احتفال… تابعته في أشهر جوامع حلب ، جامع عمر بن عبد العريز ، السبيل ،البيدر، بلال ….. كان حديثه متميزاً حيث حضر .. كل ذلك مع تواضع عرف عنه فهو الذي يلبي كل دعوة طالما أن فيها دعوة إلى الله وفيها ما يرضي الله …..

لم يسلم من الاعتقال والملاحقة والتضييق شأن كل السائرين في هذا الطريق من قبل زبانية النظام الزنديق فلقد شهدته في فرع الأمن العسكري في مدينة إدلب حيث أمضى شهورا طويلة قيد المراقبة والتحقيق قبل أن يطلق سراحه ليمضي بقية حياته في بلاد الحرمين عالما عاملا مجاهدا إلى أن توفاه الله وهو على ذلك رحمه الله ..كان إضافة إلى بشاشته وابتسامته التي لا تفارق محياه رقيق القلب غزير الدمعة لقد رأيته ذات مرة في الفرع وكان اليوم جمعة يبكي و تخضلّ لحيته الجميلة بالدموع وعندما سألته عن السبب قال أَتَذَكَّرُ خطبة الجمعة وما كنت أفعله في مثل هذا اليوم وما حلّ بالمسلمين ! فمن بقي للمنابر غير المرتزقة والمنافقين إلا من رحم الله ؟!..

كل نفس ذائقة الموت ..رحمك الله يا أبا حسان ..لقد رحلت شجرة عظيمة كانت وارفة الظلال إلاّ أن عزاءنا أنك تركت خلفك حديقةً ، بستاناً رائعاً ، كوكبةً طيبةً من العلماء والدعاة إلى الله ،ثروة علميةً وامتداداً مباركاً لمسيرتك المباركة إن شاء الله… وإلى لقاء تحت ظل عرش الرحمن وداعا أستاذنا وشيخنا الجليل ورحمة الله تهطل عليك أبا حسان..

............................

رحمك الله يا أبا حسان

نجم توارى عن سمائك إدلــبُ**فبكاه محـــــزونًا عليه الكـوكـبُ

وبكتْه دوحاتُ العلوم وزهرهـا**وبكاه غاد في الصبـــــاح وآيبُ

ما بين نجـــدٍ والشــــآم مغـرد**ألحانه، فيها النقـــــيّ الأعــــذبُ

فتحت ذراعيها الرياض تضمه**وهو الذي فيها حبيـب أقـــــربُ

في دار هجرته غريبًا قد قضى**طوبى لمَـن في الله يومًا غُرّبوا

الشيخ الكريم عبد الكريم عثمان، عرفته في أروقة كلية العلوم من جامعة دمشق، قلما كان يقابل إخوانه إلا وهو مبتسم بشوش، كانت طاقته كبيرة في متابعة منابع العلم والعلماء، والحركة في خدمة الدعوة... جمع في الدراسة بين كليتي العلوم والشريعة، وحصل على شهادتيهما، وسخرهما لما حبس نفسه له من دعوة وعلم ونشر للقيم الإسلامية، وبعد التخرج كان نشاطه ملموسًا ومشهورًا في التنقل من مكان إلى آخر، ولاسيما في محافظة إدلب، داعيًا ومذكرًا ومعلما...وانتقل بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية، فاستمر عمله فيها، وكان يتميز، رحمه الله، بمهارة وحكمة في التعرف على الآخرين، ولاسيما أولئك الذين يتعشم أن في التعرف عليهم خدمة لما يقوم به... اجتهد وعاد إلى مسقط رأسه في معرة النعمان، وحاول، بأسلوبه أن يمشي بالدعوة في جو من المتابعات وعد الأنفاس... وقد نشّأ أبناءه، على ذلك، فحذوا حذوه في النشاط الدعوي.....صبر على لأواء الغربة وعلى ما كان يلاقي في طريقه من عقبات .. وأخيرًا على المرض...وبقي كذلك إلى أن لقي وجه ربه ، رحمه الله، وأثابه الثواب الجزيل على ما قدم.