أستاذي وأبي.. عبد العظيم الديب

ورحل أبي الثاني؛ طيبًا ذكره، حميدًا أثره، ممحَّصًا مبتلًى؛ لينقيه الله من الذنوب حتى يلقاه تعالى وما عليه خطيئة..

رحل أستاذي وأبي الروحي العلامة عبد العظيم الديب بداء البطن، وداء الهرم، وكلاهما لا دواء له إلا رحمة الله ورضوانه.. وأنعم به من دواء..

هل تعرفه؟

هذا بعض ما كتبته عنه، وكله حق، ولو أردت أن أزيد عليه ما استطعت، فما زاد عليه وجعي من لوعة الفرق، وأمل في اللقيا في الفردوس الأعلى، في رحاب رب العالمين.. وأرجوك قارئي قل آمين.

أستبعد وحق الله ألا تقع في حبه بمجرد رؤيته، وأستبعد ألا تجزم بمجرد السلام عليه أن تسلِّم بأن الدنيا لا تزال بألف خير.. ما دام فيها أمثال أستاذي المرحوم عبد العظيم الديب أبي محمود، قبله الله عنده في المهديين المرضيين.. اللهم آمين.

لو مر وقت ولم أسمع صوته أحس بالشوق، والفراغ، والجوع الروحي، والتقصير في حق نفسي، وحق العلم والعلماء وأهل الفضل والمكارم..

وهو جزاه الله عني خيرًا صاحب فضل.. لم يكن يدعني أنسي أو أهمل؛ ففضيلته ودودٌ وصولٌ بشوش، ودائمًا ما يغمرني بأدبه الجم، ولطفه الغامر، فلا يعطيني الفرصة لأنسي باتصاله ودًّا منه وفضلا..

ورغم كوننا في الأصل زفتاويين منشأً، ورغم معرفتي بعدد من أقربائه الأدنين، من قريته كفر إبري، التي تتبع بلدي (جمهورية زفتي) فلم أسعد بالتعرف إليه إلا بالدوحة، بسبب فارق السن والفضل والهم والمعطيات.. ومن وقتها وأنا أراه نجمًا في فلك عااااالٍ لا يدرَك ولا يرام؛ علمًا، ورفقًا، وتواضعًا، وحسن خلق.. صلة، وبرًا، وتعظيمًا لأهل الفضل، ومحافظة علي القيم ومكارم الأخلاق..

أستاذي الجليل الدكتور عبد العظيم الديب – رحمه الله ولا أزكيه على الله راهب متبتل في محراب العلم، نهم بشيء اسمه التحقيق.. حتي إنه قضي 20 سنة عقدين كاملين في التنقيب في حروف كتاب واحد كبير لإمام الحرمين الجويني هو نهاية المطلب في فقه الشافعية وهو أحد الكتب التي قام علي خدمتها؛ غير الدرة المضية والغياثي والبرهان، من كتب الجويني الذي عشقه الديب، وافتتن به أيما افتتان..

وأستاذي الشيخ الديب ليس ذلك الدفين في أطواء كتب إمام الحرمين لا يعدوها.. 

فهو المعنيّ بالتاريخ وتصحيحه.. المتصدي لمؤامرات (مؤلفي الضرار) من المزورين للتاريخ عرض الأمة كما كان يسميه أستاذنا وله في ذلك تحقيقات ثمينة ككتابه في المنهج عند المؤرخين، وكتابه عن الرؤية الجديدة للتاريخ، وتحقيقاته عن الحجاج الثقفي، ويزيد بن معاوية وغيرهما.. كما كانت له عناية لافتة بالتاريخ المعاصر، تغذيها ذاكرته اليقظة ما شاء الله، تبارك الله، ومعايشته للعمل الإسلامي، وكبار رموز الفكر كالأستاذ العقاد والأستاذ محمود شاكر وعبد السلام هارون ومحمود الطناحي وأساطين دار العلوم وأعمدة الكتابة والدعوة في هذا القرن.. وله عناية بالشباب والتربية والفقه والأصول.. وذلك كله في إهاب من لغة جزلة، وتعبيرات رصينة، وعفة في القلم تترفع عن جرح الناس حتي اللد أحيانا وما كان الرفق في شيء إلا زانه..

وكان رحمه الله- رغم سنه - محبا للشباب ومجالستهم؛ مع أنه بوقته ضنين يقربهم، ويبش لهم، ويأنس بوجودهم، ولا يبخل عليهم بعلم ولا وقت ولا نفع.. ولذلك لم أجد وربي شهيد أحدًا ممن لقيت من الشباب إلا ويرتضيه، ويحبه، ويثني عليه، ويعتبره أنموذجًا في العلم والرفق والبشاشة والأبوة؛ دون تحفظ، ولا جمجمة والناس شهود الله تعالي في الأرض وكفي بذلك نعمة، ومن الله فضلا ومنة!

كان أستاذي الديب يمقت الخلاف، ويكره العنف، ويكف يده ولسانه أحسبه والله حسيبه ومنذ عرفته وهو أسير كتاب، وأسير مروءات، وأسير مكارم، لا يستطيع فعلاً أن يجهل علي جاهل، أو يرد علي متطاول، أو يدفع ذم ذامٍّ؛ يري ذلك نقصًا، وعيبًا، وضياع وقت، وبذلاً للعرض، وتبديدًا للحسنات..

وطول عكوفه على الكتاب أورثه داءً جعلنا نعاني منه ولا نزال؛ فقد خاصم الأضواء، وآثر البعد عن الفلاشات، وكره لُبْسِ ثياب الزور التي يتجمل بها كثيرون ممن لا يدركون غباره، ولا يحلمون بعشر ما عنده.. حتي إنني رجوته - مع ظني أنه يحبني - ويكره أن يردني مرات ومرات ومرات، أن يشارك في برنامج تلفزيوني، أو لقاء صحفي، أو حديث للإذاعة، فكان يمتنع برفقه المعهود؛ حتي لا يدع لي خيارًا ولا فرصة لمزيد من الرجاء والتمني.. ويجمّله في ذلك عفة غير عادية عن الطلب، أو الاستشراف، أو حتي التفكير في شيء من اللعاعات العابرة..

وأذكر حين كنت في إسلام ويب أن فضيلته استحق مبلغًا عن كونه مستشارًا فكريًّا للشبكة، وطلبت منه رقم حسابه في البنك.. وحاولت جهدي أن أصل إليه فأبي.. حتي اضطررت أن أتصل بأحد الأحباب في المصرف لأعرف رقم حسابه، ثم لأودع المبلغ باسمه.. كل ذلك وهو مستحٍ خجِل، يؤنبني من طرف خفي، ويلومني، وأنا باللوم جدير؛ لأني كان يجب أن أتصرف دون أن يحس هو.. لكنها الغفلة..

ولقد عرفته رحمه الله حليمًا ضابطًا نفسه.. شهدت أحد الـ... يتطاول عليه بشكل مفاجئ ويسيء إساءات بالغة، والشيخ الحليم بين الاندهاش والاستغفار والحلم.. وما حرك الموقف إلا انفعال من بعض الموجودين، غاروا علي الشيخ، وحموا له..

ورغم أعباء العمل البحثي، ورغم الاستغراق الشديد فيما يعشق، فلقد كان عليه رحمات الله ورضوانه متابعا عجيبا لما يدور في الدنيا: يسمع، ويري، ويحلل، ويستشرف، ويناقش! وإذا حصل وسرقنا منه بعض وقته الثمين فإنه يستقبلنا بالبشاشة المعهودة، كأنما هو متفرغ لنا، لا يشغله عنا شيء؛ ويبقي المجلس عامرًا بالأفكار والذكريات والمعلومات والملاحظات والتوجيهات الأبوية التربوية الدقيقة، كل ذلك بابتسامة جميلة ودود، وأبوة حانية صادقة..

وكان جمعني الله به مع حبيبه المصطفى بكاء، سريع الدمعة، محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أسرع ما تنحدر دموعه إذا ذكر سيدنا رسول الله بأبي هو وأمي وبني وأهلي أجمعين كما كان يقول دائمًا، شوقًا وحبًّا ورقة..

لكم تعلمنا منك أستاذي عليك رحمات الرحمن:

o تعلمنا من أستاذنا الديب إجلال العلماء، وتقديم العذر، وترك الخلاف، واحترام الاختلاف الراشد.

o تعلمنا منه تقدير جهد الناس، وعدم التفريط في الوقت.

o تعلمنا إعادة القراءة، وإمعان النظر، وتأمل ما وراء الأشياء.

o تعلمنا حب التاريخ، ولزوم النظر فيه، واكتشافه، ونفض بعض المسلمات الناجمة عن محاولات جعله يساريًّا، أو ملونًا بلون غير الحقيقة.

o تعلمنا عدم التسليم بما تقوله الميكروفونات، ولا الإذاعات ووسائل الإعلام، لأنها دائما تتحدث بصوت مالك السلطة لا صاحب الحقيقة، وأن هذه الحقيقة كثيرًا ما تطمر تحت أثقال وأوزار من التعمية والإيهام والليّ والمخادعة، وتغيير الجلود والأشكال..

o تعلمنا اليسر وطلاقة الوجه والتأدب في العبارة، حتى مع الصغير والمخالف..

o تعلمنا الترفع وإكرام النفس والنأي عن السفاسف..

o تعلمنا أهمية العلم، والوقوف أمام مسألة أو موضوع ساعات بل أيامًا؛ لأن العلم يستحق..

o تعلمنا أن الكبير كبير في همه، كبير في همته، كبير في مقصده، كبير في عطائه، كبير في سلوكه..

o تعلمنا أن ساعة نجلسها بين يدي أستاذ يضيف أو يقوّم أو يوجه خير من أسابيع نقضيها في الراحة، وأن العمر لا يقاس بالساعات والأيام، وإنما بالعطاء والعطاء والعطاء..

o تعلمنا أن الذي يحترم نفسه يحترمه الناس، وأن الذي يحب الله تعالي يضع الله تعالي له الحب في الأرض..

o تعلمنا أن البسمة دواء، والبشاشة علاج، والكلمة الطيبة دواء، وطهارة القلب إكسير.. هل أقول أكثر؟

أسأل الله يا سيدي الشيح عبد العظيم الديب في هذه الأيام المباركة أن يرحمك ويتوب عليك، وأن يجمعك بجدك وحبيبك المصطى عليه السلام/ وأن يأجرنا الأمة في مصيبتها، ويخلنها خيرا منك، وأن يأجرني في مصيبتي فيك، ويخلفني في الدنيا خيرا، وفي الآخرة لقياك على حوض الحبيب نشرب كلانا شربة لا نظمأ بعدها أبدا، ثم يكون منتهانا الفردوس الأعلى من غير سابقة حساب ولا عذاب.. اللهم آمين..

وأسألك بالله قارئي الكريم، أن تخص أستاذي وأنا وأنت معه بدعوة بظهر الغيب، فإن دعاءك أرجى بالقبول من دعائي.. غفر الله لنا أجمعين..