القاضي محمد نافع طلس 

الشيخ القاضي محمــد نافـــع بن المحدث الشيخ مصطفى بن الشيخ محمد بن الشيخ مصطفى بن الشيخ احمد طلس القيسي العدناني رحمهم الله .

ولد سماحته في مدينة حلب عام 1295 هـ الموافق لعام 1879 م ، وتلقى علومه الأوليّة في مدارسها ، والعلوم الدينية على يد والده وعلماء ومشايخ المدينة المعروفين بزمانه ، في مدارس الحلوية والشعبانية ، ثم في المدرسة الرشديّة التي كانت أرقى المدارس العلمية في حلب أيام الخلافة العثمانية 

بعد أن أنهى علومه في حلب توجه الى الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية ( استانبول ) وأقام فيها فترة شبابه لمتابعة تحصيله العلمي و اصدار جريدة ( المعلومات ) ، وكانت أول أعماله متابعة الحصول على فرمان إسناد ولاية المدرسة الحلوية لوالده الشيخ مصطفى طلس بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني . 

وهناك تعرف على زعماء النهضة العربية السوريين أمثال فؤاد آل ابراهيم باشا وإحسان بك الجابري والدكتور أحمد توفيق الحصري وعبد العزيز الثعالبي وغيرهم ممن استلموا قيادة البلاد السورية في عهد الانتداب الفرنسي والاستقلال .فنشأت روابط صداقة قوبة معهم 

أصدر جريدة ( حلب الشهباء ) لتكون لسان الطبقة النخبة والمثقفة وكانت تطبع باللغتين العربية والتركية وتدعوا للأخوة الاسلامية 

جريدة حلب الشهباء التي صدرت سنة ١٩٠٨

وقد شغلته السياسة مع من شغلتهم – الى جانب تحصيل العلوم الدينية – من أصحابه أمثال الشيخ عبد العزيز افندي الثعالبي وإحسان بك الجابري وعديله الشيخ العالم الجليل عبد اللطيف افندي الخزندار وغيرهم ، ودافع عن الوحدة الاسلامية ، وهاجم حزب الاتحاد والترقي ، الذي ثبت تآمره على الامة الاسلامية وكشف ارتباطاته المشبوهة بالدوائر الغربية والصهيونية .

وكان لسماحته صداقة مع السلطان عبد الحميد الثاني الذي منحه وساماً رسمت عليه عبارة ( صداقَت – مودت - غيرَت ) "ما زال محتفظا به عند حفيده المهندس محمد نافع ابن عبد الله هشام طلس" و كذلك كان لسماحته علاقات حميمة مع كثير من كبار السياسيين والعلماء في عاصمة السلطنة ، ثم عاد الى وطنه ليعمل على الوظائف بعد أن التآمر و انهاء حكم السلطنة العثمانية ... 

وسام من السلطان عبد الحميد للشيخ نافع طلس رحمهما الله تعالى

عمل مديراً للتنفيذ في عدلية عنتاب أولاً ، ومثلها في إدلب ، ثم قاضياً للصلح بحلب فكان مثالاً للقاضي النزيه الشريف الذي لا يخاف في الله لومة لائم ، ومما يروى عنه : أنه وقع خلاف بينه وبين جعفر باشا العسكري والي حلب أيام حكم الامير فيصل بن الحسين رحمه الله فنحّاه جعفر باشا عن عمله لأنه لم يستجب لطلبه في الوقوف الى جانب شريك أخيه ضد الشيخ ( رُبيع ) من زعماء القبائل في قضية رأى سماحته الحق فيها الى الشيخ ( ربيع ) فسافر الى دمشق وعرض على الأمير فيصل ظلامته فأنصفه و أصدر الأمير فيصل قراراً بنقل جعفر باشا العسكري من ولاية حلب الى ولاية البصرة لكثرة تجاوزاته , وأعيد سماحته نائباً عاماً في عدلية حلب ، ثم محامياً عاماً في محكمة الجنايات ثم سرحه "الفرنسيون" لدعمه الثوار و وقوفه الى جانبهم و مساندتهم قدراستطاعته ,

ولم يركن لظلمهم وظل يطالب بحقه بشتى الضغوطات حتى اعيد قاضياً لمدينة درعا ، حيث ترك فيها لمسات طيبة لدى ابناء المدينة هناك وبنى لسكانها مسجداً هو من المساجد القليلة انذاك في المدينة .

ثم نقل قاضياً شرعياً لمدينة اسكندرون ولم يطل بقاؤه فيها حتى نقل ترفيعاً الى حلب ، وكان لنقله قصّة مشرّفة أيام الانتداب الفرنسي تتلخص بأن القاضي السوري كان يحكم من الصباح حتى الظهر ، ويتلوه قاض فرنسي للمحكمة المختلطة من الظهر حتى المساء في ذات الغرفة نظراً لعدم توفر غرف كثيرة 

وذلك لصغر مدينة اسكندرون حيث لم يأتها التطور بعد آنذاك ، وحدث أن حضر يوما القاضي الفرنسي "ثملاً" قبل موعد دوامه مرة وطلب من القاضي طلس ترك الغرفة ليشغلها هو !! فاستمهله الشيخ محمد نافع ريثما يبت في قضية تنظر أمامه ، وكان لهذا الموقف ردّة فعل لدى القاضي الفرنسي أثار حفيظته ، فتلفّظ بكلمات نابية , وهنا أدخله القاضي الشيخ نافع طلس الغرفة ولقنه درساً يليق به ( ؟!! ) و قال له : قد تحسب نفسك قاضيا هنا خطأ , و لكني انا القاضي السوري في بلدي و انت قد تكون ( نادلا ) في بلدك البعيد !!! ووصل أمر الخلاف الى المندوب السامي الفرنسي و جرأة القاضي السوري فأمر بإبقاء القاضي الفرنسي في مكانه ارضاء له مع توجيه توبيخا له , ونقل القاضي طلس الى حلب ترفيعاً وتقديراً لجرأته وصدقه و ليكون قاضي حلب الشرعي . 

اشتهر سماحة القاضي الشيخ محمد نافع طلس بجرأته فكان لايهاب أحداً ( في الحق ) مما سبب تسريحه عدة مرات ممن يحكمون و يجاهرهم العداء صراحة ، وكان عطوفاً متواضعاً يساعد كل من يلجأ اليه ، وكان صاحب نكته وقد ذكر نقيب المحامين الأستاذ فتح الله بك الصقال في كتابه ( ذكرياتي في المحاماة ) نبذة عن تصرفاته في القضاة تدلّ على ذكاء وسعة افق الشيخ و كان صديقا حميما له .

كان اصحابه لا يملون مجالسته ، ويذكرون نكاته وطرائفه في مجالسهم ، وحتى في القضاء ، وهو على كرسي الحكم ، كان دائماً يسعى لمصالحة المتخاصمين بالرضى والتفاهم و كانت دارته ملجأ لأبناء حلب لمساعدتهم , يذكر من طرائف سماحته انه كان في زيارة لمحافظ حلب في اواخر ايام الانتداب الفرنسي و كان يجلس بجانب المحافظ احسان بك الشريف و يتكلموا بصوت خافت مما اثار الضيوف الاخرين فأرادوا ممازحته و قال سعيد الزعيم ( على ما اذكر ) و كان من

كبار التجار في حلب , يا شيخ نافع افندي سماحتك وسعادة احسان بك تتكلمون سويا منذ وقت و نحن جالسون ؟! نحن هنا نتكلم بالمال و الذهب , فأنتما بماذا تهمسان سويا ؟! فقال له الشيخ سريعا : يا سعيد ... انت قد تصرف المال و هذا اغلى ما عندك , و لكني انا و احسان بك نصرف الرجال و هذا اقل ما عندنا !!! و انتهت الممازحة بقبلة على يد الشيخ طلس تقديرا له و لسرعة بديهته . 

و يذكر ان دارة الشيخ نافع كانت ملتقى لرجالات حلب و وجهائها حيث يلتقون في كل ليلة في حديقة داره , و يذكر مرة بعد انتخابات البرلمان قال الحاج وهبي الحريري ( جار الشيخ طلس في سكنه و الذي اصبح وزير المالية لاحقا ) : يا عمي سمعت انك لم تك راضيا عني كثيرا في هذه الانتخابات و لم توصي بي , فغضب الشيخ نافع و قال له : يا وهبي انت تعرف محبة عمك لك , و لو كنت غير راض عنك فتأكد اني لن اهاب مخلوقا و سأقولها صراحة لك , وكنت سترى اثر كلامي في النتائج !!! فاعتذر الحاج وهبي الحريري لما سمعه من احد النمامين من سكان الحي ( و لن اذكر اسمه حيث هو في دار الاخرة ) و بقيت المحبة بينهما حتى اخر ايام سماحته رحمهما الله تعالى . 

و كذلك كان الشيخ تاج الدين الحسني رئيس دولة سوريا أيام الحكم الفرنسي يحترمه ويجلّه ، كما كان صديقاً ودوداً للرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية العربية السورية الذي لم يكن يرد له طلب , و من طريف ما يذكر ان الارض المشاد عليها جامع سيف الدولة في مدخل مدينة حلب , كانت ملكا لاحد ابناء عائلة ( ابو زمر ) الكرام , و قد استملكت بلدية حلب بستانه و كان ذو مساحة واسعة جدا فطلب من الشيخ مساعدته لتعديل المساحات المستملكة من بستانه ,

( حديقة الكواكبي على جزء منه حاليا ) فاشترط الشيخ نافع انه سيحضر موافقة رئيس الجمهورية شكري بك القوتلي على طلبه هذا و لكن ... سيأخذ قطعة ارض من البستان لإشادة مسجدا عليها ( اسماه لاحقا جامع سيف الدولة) فوافق " الحاج ابو زمر" على ذلك , و سافر سماحته الى دمشق ( وكان برفقته ابن اخته السيد عبد الرحمن كحيل و كان شابا صغيرا انذاك و هو من روى لي هذه الحادثة رحمه الله ) و دخل منزل شكري بك و مازحه بأن وضع الكتاب على الطاولة وغطى الكتابة بيده و قال : شكري بك لا اقبل ان تقرأ ما كتبت , فقط وقع هنا ؟ فضحك شكري بك و كان يحترم الشيخ نافع كثيرا و بالفعل وقع الكتاب دون قراءته , وهنا اعطى الشيخ نافع الكتاب و شكره على ثقته , و قال له ان لم يعجبك الكتاب شكري بك فيمكنك ان تمزقه !!! وعرف ان الشيخ طلس اراد ان يرغب بتعديل قرار الاستملاك مساعدة لابن ابو زمر , ليزيله عن بعض الاماكن و يخفف الاذى عنه و ليتمكن من بناء مسجدا لأبناء المنطقة الحديثة الانشاء , فشكره على مساعدته لأبناء مدينته و كان للشيخ ما اراد بفضل الله اولا و بمحبة و مساعدة الرئيس شكري بك ثانيا . 

كذلك كان كافة زعماء الأحزاب الوطني والشعب والمستقلين من السياسيين في حلب يحبون الشيخ ويحترمونه ، حيث كان صديقاً للجميع ، ويسعى جاهداً للتقريب بينهم ، ومنهم الزعماء "أبونا" حسن بك ابراهيم باشا "صديق شبابه في استانبول" , و اخوه جميل بك , و سعد الله بك الجابري رحمه الله زعيم الحزب الوطني رئيس وزراء سوريا ، وناظم بك القدسي رئيس الجمهورية السورية ، ورشدي بك الكيخيا رئيس البرلمان انذاك ، والدكتورعبد الرحمن الكيالي من زعماء الحزب الوطني و وزير التربية في حينه ....

و من طريف ما يذكر هنا لمعرفة حال الرجال يومها , ان الشيخ نافع اتصل ليطمئن عن صحة رشدي بك الكيخيا , فلم يكن موجودا وقتها في البيت و اجابته مربيته التي كانت تدير بيته "حيث كان رشدي بك عازبا" , و ما هي الا سويعات قليلة الا وسيارة رشدي بك امام منزل الشيخ نافع و نزل سائقه يطلب مقابلة الشيخ نافع و نزل عندها رشدي بك ليستفسر من الشيخ نافع عن طلبه ان وجد , تقديرا و احتراما له لم يتصل به هاتفيا بل حضر اليه شخصيا رحمه الله ... هكذا كانوا حكام سوريا ؟!!!

وكان من نشاطاته الكثيرة رحمه الله القيام بالمشاريع الدينية والخيرية فكان عضواً في مجلس الاوقاف في حلب و متوليا للمدرسة الحلوية ورئيسا للجنة بناء جامع سيف الدولة في حي الحريري مقابل جبل ( الجوشن ) , وله الفضل في تسمية منطقة "سيف الدولة" بهذا المسمى بعد أن كان يسمى الشارع بـ ( شارع الكلية الامريكية ) , وقد قدّرت بلدية حلب فضله في خدمة المدينة بعد سنين من وفاته رحمه الله فأسمت الشارع الواقع أمام كلية العلوم على طريق سيف الدولة باسم شارع : " الشيخ محمد نافع طلس "

كان سماحة الشيخ الجليل متزوجاً من عائلة حلبية نبيلة يتصل نسبها بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم من ال (الخطيب ) و كان نسيبه الاستاذ عبد الله الخطيب نقيبا لأشراف حلب . 

و قد اشترى جزءا واسعا من اراضي و املاك قرية باشنطرة ( على بعد 10 كم من حلب على طريق قلعة سمعان ) و عمل فيها بالزراعة بعد تقاعده من سلك القضاء . 

للشيخ نافع ثلاثة ابناء : الاستاذ مصطفى و الأستاذ محمد شاهين والأستاذ عبد الله هشام طلس رحمهم الله جميعا .

توفي رحمه الله عام 1370 هـ الموافق لتاريخ 7 / 2 / 1951 م ودفن في مقبرة هنانو . وعندما تقرر الغاؤها نقلت رفاته الى مقبرة الصدّيق في منطقة الصفا بحلب 

رحم الله عالمنا الجليل الشيخ محمد نافع طلس وأثابه خيرا لما قدّم من خدمات لدينه و بلده وأبناء وطنه .