بديع الزمان سعيد النُّورْسِي عالِمًا ومفكرًا وقائدًا

التحديات التي واجهت أمتنا منذ القرن الرابع الهجري كبيرة وعميقة، فقد أدت إلى إسقاطِ الخلافةِ وعاصمتِها السياسيةِ إسطنبول وعاصمتِها العلميةِ القاهرةِ، ولم تكن الاستجابة في البداية بمستوى تلك التحديات، فعادت نتيجة الصراع على أمتنا بالخسارة؛ لأن قوى الغزو العالمي والثقافي والفكري والسياسي تمكنت من الأمة حتى كادت تستسلم عقيدةً وشريعةً وسلوكًا لولا امتلاكها قواعد انطلاقٍ قوية في الأعماق تجدد أصالتها وتحتفظ دائمًا ببذور اليقظة والمقاومة، فأمتنا قد تضعف لكنها لا تستسلم ولا تموت لأنها أمة القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

إن الانطلاق من القرآن الكريم والسنة النبوية رسم لأمتنا أسس الحركة والتغيير التي دفعت الأمة إلى المقاومة حتى تخلصت من الاحتلال العسكري، وهي الآن في طريقها إلى التحرر من الغزو الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي بعد أن جددت لها المفاهيمَ صحوةٌ إسلاميةٌ عصرية مباركة، وفي خضم المآسي الدامية والصراع الحضاري بين الأمم ينبعث رجال عظماء وعلماء ربانيون ومفكرون فطاحل، يُصنَع كل منهم على عين العناية الإلهية ليمسكوا بناصية أمتهم ويحولوا بينها وبين السقوط الحضاري؛ من هؤلاء العلماء الربانيين والمفكرين العظماء والمجاهدين بالسيف والقلم بديع الزمان سعيد النُّورْسي، فهو من تحمل مسؤولية النهوض بالأمة وتجديد الحياة بالإيمان الراكد في القلوب والتصدي لتيار جارف كاد يسلخ الأمة من عقيدتها ودينها وأخلاقها وقيمها وتاريخها، وقد أيقن النورسي منذ البداية أن الغرب مقدم على هجوم كبير على الأمة تحت راية الحداثة والتنوير والحرية والديمقراطية؛ فكان لا بد من تجديد الإيمان في القلوب ورفع مستوى الوعي في العقول والاستقامة في السلوك لمواجهة هذه الهجمة الشرسة في مرحلة التأخر والتشرذم والخواء الإيماني التي تمر بها الأمة.

لقد أدرك بديع الزمان أن الإسلام في خطر إيمانًا وعقيدةً وشريعةً وأخلاقًا وقيمًا وحضارةً، فقرر المواجهة، ولكن كيف؟

المطلع على رسائل النور -وهي تراث النُّورْسي في الدعوة والفكر والتجديد- يصل إلى قناعة أنه كان برسائله مجددًا للعَرْض الإسلامي وفق مقتضيات العصر، وأنه استطاع أن يقود الرَّكْبَ بحكمة وعقل ومنطق، فتجنَّب خلافات العلماء والطرق الصوفية، وكانت معركته موجهة إلى الخارج وسماسرة الداخل، فالناس عنده فئتان متقابلتان خندقُ الإسلام وخندقُ أعدائه، فقد أيقن أنه لا يمكن المواجهة بجبهة متفرقة، وهو إنما ظهر في هذا المنعطف الخطير من حياة الأمة ليحمل همومها ويقف في الميدان عالِمًا ومفكرًا وقائدًا ومجاهدًا يقوم بأعباء رسالة نذَر لها نفسه وحياته، فرسائل النور بحر لا ساحل له جمعت ثلاثة تفاسير؛ تفسير الكتاب المسطور، والكتاب المنظور في الكون وآيات الأنفس والآفاق، والقرآن الناطق الذي تجلى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا بد لرسائل النورسي وتراثه العلمي والفكري والسلوكي من دراسات متنوعة حول تجديدها الإسلامي وأسلوبها التربوي وعمقها الفكري، فأتى هذا البحث على جوانب عدة من حياة الشيخ النورسي، شملت نشأته وتعلُّمه وأسفاره ومدارسه وسجنه ومنهجه في مجموعة من قضايا الدين والحياة والعلم، وتحدَّثتْ عن أثر ذلك في طلابه وتلامذته.

مولده ونشأته

ولد النُّورسي في قرية {نُورْس} في ولاية بتليس شرق تركيا سنة 1293ه/1877م، لغته الأم الكردية، وأجاد التركية لغة الخلافة العثمانية، توجه في بداية حياته إلى الكتاتيب في منطقته، وكان متميزًا بين أقرانه صاحب ذكاء خارق قوي الحافظة، وتنقل بين عدة مدارس في المنطقة لأنها لم تكن تلبي رغباته، وكان يناقش العلماء وهو طالب، فسموه {سعيد المشهور}، حفظ كتاب {جمع الجوامع} في أصول الفقه لابن السبكي خلال أسبوع، وألفية مالك وكتاب “{الجاحي}([1]) في مدة قليلة، وفي مدينة بتليس حفظ {القاموس المحيط} للفيروز آبادي حتى باب السين، وحفظ كتبًا أخرى عن ظهر قلب، ولذكائه الخارق ذاعت شهرته فأطلق عليه لقب {بديع الزمان}، ولم يكتف بالعلوم الدينية والعربية بل طالَع الكتب العلمية كالفلك والجيولوجيا والرياضيات والفلسفة الحديثة والتاريخ والجغرافيا حتى أفحمَ أساتذتها المتخصصين([2]).

محطات في حياة الأستاذ النورسي

زيارة إسطنبول

وصل إلى إسطنبول سنة 1907م، وسكن في منطقة الفاتح، وعلق على باب غرفته لوحة كتب عليها: (هنا يجاب عن كل سؤال، وتحل كل مشكلة دون أن يسأل هو أحدا من الناس)، كان هذا إعلانًا غريبًا وادعاءً مثيرًا زاد شهرته ورغب كثيرون بلقائه، وتوالى عليه ثناء العلماء الذين زاروه، قال العلامة حسن أفندي: (لم أشاهد مثله أبدًا، إنه من نوادر الخلق).

في إسطنبول قدَّم النورسي عريضةً إلى السلطان يطلب فيها فتح مدارس للعلوم الحديثة مع العلوم الدينية في شرق تركيا حيث يخيم الجهل والفقر على السكان، وانتقد حاشية السلطان ونظام الأمن والاستخبارات في قصر يلدز؛ فأثار حاشية السلطان، فأحالوه إلى المستشفى لفحص قواه العقلية، وأصدرت لجنة الأطباء قرارًا بوضعه في مستشفى “طوب باش للمجاذيب”، وعندما فحصه أحد الأطباء كتب في تقريره ما يلي: (لو كانت هناك ذرة واحدة من الجنون عند بديع الزمان فمعنى ذلك أنه لا يوجد على وجه الأرض كلها عاقل واحد)([3]).

في سلانيك

سافر إلى سلانيك وعرَف كبار شخصيات الاتحاد والترقي، ولكونه شخصًا يدعو إلى الحرية والشورى الإسلامية رحَّبَ به قادة الاتحاد والترقي، لكنهم لم يستطيعوا التأثير عليه ولا جعْلَه تابعًا لهم، فبقي مستقل الفكر والشخصية، وهناك طلب اليهودي المشهور عمانوئيل قرصو([4]) رئيس المحفل الماسوني وعضو مجلس النواب العثماني مقابلته طمعًا في التأثير عليه، فقابلَه لكن ما لبث أن خرج اليهودي من عنده قائلًا: (لقد كاد هذا الرجل العجيب يزجني بحديثه في الإسلام)([5]).

في أول محكمة عرفية

في الجو المتوتر المشحون ضد جمعية الاتحاد والترقي وقعت حادثة 31 آذار 1325ه الموافق 13 نيسان 1909م في ساحة السلطان أحمد: نشب عصيان بين أفراد الطابور العسكري الذي أرسله الاتحاديون من مدينة سلانيك إلى إسطنبول لحماية المشروطية، فثار الجنود وأعلنوا العصيان وطالبوا بتطبيق الشريعة، وانتهت الحادثة بوصول جيش الحركة إلى إسطنبول في 23 نيسان 1909م، فسيطرت وعزل السلطان عبد الحميد في 27 نيسان 1909م، وأُعلِنت الأحكام العرفية، وشُكِّلت محكمة عسكرية لمحاكمة المسؤولين عن العصيان، وكان الشيخ النورسي ممن قدموا إلى أعواد المشانق في تلك المحكمة العسكرية، وبدأ القاضي العسكري خورشيد باشا بمحاكمة النورسي في المحكمة أمام منظر خمسة عشر معدمًا في الساحة كان النورسي يشاهدهم من النافذة، فقال له: وأنت أيضًا تدعو إلى تطبيق الشريعة؟ إن من يطالب بها يعدم هكذا مشيرا بيده إلى المعدمين في الساحة، فقام النورسي وألقى على سمع المحكمة كلامًا رائعًا نقتطف منه ما يأتي:

(إنني طالب شريعة؛ لذا أرى كل شيء بميزان الشريعة، فالإسلام وحده هو ملتي، خطابي ليس موجهًا إليكم وحدكم وإنما أوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر، فلقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة {يوم تبلى السرائر}، فمن كان أجنبيا غير محرم فلا ينظر إليها، إنني متهيئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق، لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد إلا أنها الآن تحارب الحياة بأكملها، فإذا كانت الحياة على هذا الشكل فليعش الجنون وليعش الموت ولتعش جهنم مثوى للظالمين، لقد كنت آمل أن يُهيَّأ لي موضع لأبيِّن فيه أفكاري، وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث فيها أفكاري وأقول لكم: لو كان لي ألف روح لكنت مستعدًّا لأن أضحي بها في سبيل حقيقة واحدة من حقائق الشريعة؛ إذ الشريعة سبب السعادة، وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة)([6]).

النورسي مجاهدًا وأسيرًا

كان الأستاذ سعيد النورسي معارضًا لدخول الدولة العثمانية في الحرب، لكن عندما اندلعت أسرع إلى جبهة القتال وشارك في فنون الجهاد، وشكل من طلابه ومن المتطوعين فرقًا للجهاد والدفاع عن البلاد ضد الغزو الروسي والعصابات الأرمنية، كانت روسيا تحاول الاندفاع نحو الأناضول، وفي 16 شباط 1916م دخلت الجيوش الروسية مدينة أرض روم، وكان الأستاذ النورسي مع طلابه يقاتلون الجيش الغازي بكل بسالة، وعندما دخل الجيش الروسي بتليس كان هو وطلابه يدافعون عن المدينة في قتالٍ شديدٍ في شوارع المدينة إلا أن القوة الروسية كانت متفوقة على القوة الصغيرة المدافعة عن المدينة، وخلال المعركة جرح النورسي جرحًا بليغًا، وأسره الروس، وأرسل إلى أحد معسكرات الأسر في “قوصترمة” شرق روسيا([7])، وفي أحد الأيام عُرِض على محكمة عسكرية لأنه لم يقم احترامًا للضابط نيفولافيج في زيارته للأسرى، فأصدرت المحكمة قرار الإعدام بموجب إهانته القيصر والجيش الروسي، فطلب من أحد الضباط أن يسمح له بخمسة عشر دقيقة فقط ليتوضأ ويصلي، وفي هذه الأثناء حضر الضابط نيفولافيج وقال له: أرجو منك المعذرة؛ كنت أظن أنك لم تقم لي بقصد الإهانة، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم؛ لذا ألغيت قرار الحكم بحقكم([8]) ثم هربَ من الأسر مارًّا بوارسو وفيينا حتى وصل إلى إسطنبول([9]).

في دار الحكمة الإسلامية

بعد وصوله إلى إسطنبول من الأسر عُيِّن عضوًا في دار الحكمة الإسلامية، وكان من أعضائها الشاعر المعروف محمد عاكف والعالم إسماعيل حقي والمفسر حمدي يازر وشيخ الإسلام مصطفى صبري وغيرهم، لكن الشيخ لم يشارك في اجتماعات دار الحكمة لحاجته إلى الراحة بعد ما قاساه من عناء أيام الأسر، وعندما تكرر غيابه أرسل طلبًا يرجو فيه إعفاءه من هذه العضوية، وفي هذه الفترة كانت الحكومة قد خصصت له مرتبًا، لكنه لم يأخذ منه سوى ما يقيم به أَوَده وطبع بباقيه بعض الرسائل لتوزَّع مجانًا على المسلمين، وقال لابن أخيه عبد الرحمن: يا ابن أخي، الحكومة أعطتنا مرتبًا كبيرًا، وليس لي الآن أن آخذ منه إلا كفاف النفس، وما زاد فعليك أن ترده إلى بيت المال.

هكذا يكون العالم قدوة للناس بالعمل لا بالمظهر والقول فقط، فقد قضى عمره كله هكذا نصفه شبعان ونصفه جائع؛ إذ كان يتناول في اليوم طبقًا صغيرًا من الحَساء مع كسرات من الخبز، وكان شعاره الذي طبقه على نفسه أن لا يأخذ شيئا من أحد بدون مقابل([10]).

في قلب المحنة

توالت المصائب على الدولة العثمانية، وتدخلت جيوش الاحتلال في تركيا، وعقدت معاهدة سيفر، فأحس النُّورْسي بهذه الطعنات وكأنها موجهة إلى قلبه، يقول: (لقد كنت أحس بأن هذه الضربات التي وجهت إلى العالم الإسلامي كأنها وجهت إلى أعماق قلبي)([11])، واحتلت قوات الاحتلال البريطاني إسطنبول في 16 آذار 1920، فألف بديع الزمان كتابه {الخطوات الست}، وأخذ ينشره سرًّا بمساعدة طلابه وأصدقائه، هاجم فيه الإنجليز بلهجة قوية رادعة، ودحض الشبهات التي أثيرت آنذاك ببراهين قاطعة مفنِّدًا حججهم، ولفَت أنظار المسلمين إلى أطماعهم، وحارب اليأس الذي تسلط على كثير من النفوس ورفع العزائم([12]).

وفي سلسلة المؤامرات على الإسلام وجه الإنجليز عن طريق كنيسة “إنجليجان” ستة أسئلة إلى المشيخة الإسلامية لتجيب عنها بست مئة كلمة، فوجهت المشيخة هذه الأسئلة إلى بديع الزمان، وكان جوابه: (إن هذه الأسئلة لا يجاب عنها بست مئة كلمة ولا بست كلمات ولا بكلمة واحدة بل ببصقة واحدة على الوجه الصفيق الإنجليزي اللعين)([13]). وبدأت حركة المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي في الأناضول، فأصدر شيخ الإسلام عبد الله أفندي تحت ضغط المحتلين الإنجليز فتوى ضد حركة المقاومة والقائمين عليها، ولكن سرعان ما قام ستة وسبعون مفتيًا ومعهم ستة وثلاثون عالِمًا وأحد عشر نائبًا بإصدار فتاوى مضادة، فأيدوا الحركة وشجعوا على قتال المحتلين، وكان بديع الزمان أحد هؤلاء العلماء، يقول: (إن فتوى تصدر عن مشيخة وإدارة تحت ضغط الإنجليز لا بد أن تكون غير سليمة، ولا يجوز الانصياع لها ذلك؛ لأن الذين قاموا بمقاومة المحتلين لا يمكن اعتبارهم عصاة، لذا يجب سحب هذه الفتوى)([14]).

في هذه الفترة دعا مصطفى كمال الأستاذ النُّورْسي إلى أنقرة، فسافر إليها سنة 1922م، واستقبل في المحطة استقبالًا حافلًا، لكنه صدم عندما وجد معظم النواب لا يؤدون الصلاة، فقرر أن يكتب هذا البيان إلى النواب يعظهم ويذكرهم بالإسلام مستهلًّا بقوله: (يا أيها المبعوثون… إنكم مبعوثون ليومٍ عظيمٍ. ولم يرض مصطفى كمال عن هذا البيان، فاستدعى النورسي وحدثت بينهما مشادة، وكان مما قاله مصطفى كمال: لاريب أننا بحاجة إلى أستاذ قدير مثلك، لقد دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك، لكن أول عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة، فبثثت الفرقة بين المبعوثين، فأجابه النورسي مشيرًا إليه بأصبعه {باشا باشا، إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة، إن الذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود)([15]).

فكر مصطفى كمال بإبعاده عن أنقرة لتعيينه واعظًا للولايات الشرقية بمرتب مغرٍ، لكن الأستاذ النورسي رفض هذا الطلب، وغادر إلى مدينة وان بعد أن لمس عن قربٍ نيات خفية سيئة يكنها للإسلام كثير من المسؤولين، وفي هذه الأثناء نشبت ثورة في شرق تركيا بقيادة الشيخ سعيد بيران، وكانت هذه الثورة موجهة ضد سياسة الكماليين المعادية للدين، فرفض الأستاذ النورسي المشاركة فيها؛ لأنه لم يكن يثق بالوعي الإسلامي للناس الذين سيشتركون فيها ومدى قدرتهم على فهم الإسلام وتطبيقه، لكن موقفه هذا لم يُنجه من غضب حكومة أنقرة، فأرسلت مفرزة اعتقلته في مدينة وان سنة 1925م، ونُقِل إلى إسطنبول ثم صدر الأمر بنقله إلى مدينة (بوردو) ومن ثَمَّ إلى مدينة (إسبارطة ) ثم إلى مدينة (بارلا)، فوصل إليها في شتاء سنة 1926م، وقضى الليلة الأولى في مخفر الشرطة، ثم خصص لإقامته بيت صغير يتكون من غرفتين.

في هذه الفترة كانت تركيا تعيش حالة من الاستبداد والطغيان والعداء الصريح للدين باسم التمدن والتحضر، واستمرت هذه الفترة مدة ربع قرن حتى سنة 1950م يوم جاء عدنان مندريس إلى الحكم بالانتخابات، كان الهدف هو قطع صلة الشعب التركي بإسلامه جذريًّا من خلال تجفيف الينابيع التي تغذي روحه وعقله، فمنعوا تدريس الدين وبدلوا الحروف اللاتينية بالعربية، وأعلنوا علمانية الدولة، وشكلوا محاكم تبث الخوف والإرهاب في البلاد، فنصبت مشانق للعلماء ولكل من تحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة، فاعتُقل الأستاذ النورسي ونفي إلى مدينة (بارلا) لكي يجمد فكره ويقل تأثيره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض، لكن شاء الله أن تكون هذه البلدة مصدر إشعاع إسلامي أضاء فيما بعد أرجاء تركيا([16])، فقضى النُّورْسي فيها ثماني سنوات ونصفًا في الإقام الجبرية، ألف فيها معظم رسائله، فكانت هاتان الغرفتان (أول مدرسة ثورية)، ويصف النورسي عزلته وغربته فيقول: (حينما كنت في منفاي في ذلك الأسر بقيت وحدي منفردًا منعزلًا عن الناس على قمة جبل (جام) المطلة على مراعي بارلا، وكنت أبحث عن النور في تلك العزلة).

كان أهالي بارلا يرون هذا العالم وهو يخرج من سكنه متوجهًا إلى الجبل أو عائدًا، فلا يجرؤ أحد أن يكلمه؛ فهو شخص غير مرغوب لدى السلطة ومراقب، فلم الدخول في مشكلات؟ لكن في أحد الأيام وهو راجع من الجبل سقطت الأمطار بغزارة، فتخرَّق حذاؤه، فدخل المدينة وهو يحمل حذاءه بيده ويغوص في الطين بجواربه الصوفية البيضاء، وكان هناك بالقرب من نبع الماء جمع من الأهالي شاهدوا هذا المنظر المؤثر منظر العالم الجليل المهيب المنفي عن موطنه، فانطلق شخص اسمه سليمان نحوه، وأخذ الحذاء من يده ونظفه، ثم رافقه إلى سكنه وصعد معه إلى غرفته، كانت هذه بداية التعارف، ظل سليمان تلميذًا وفيًّا للأستاذ يساعده ويعاونه ويتتلمذ على يديه ثماني سنوات، وكان هو أول حلقة بينه وبين الآخرين، وبدأت حلقات التلاميذ تتسع شيئًا فشيئًا، وبدأ الأستاذ بنشر رسائله باسم (رسائل النور) سرًّا، ثم يستنسخها تلاميذه لنشرها في كل أرجاء تركيا متحملين تبعات هذا العمل من اعتقال ومطاردة وتعذيب([17]).

قرر النورسي مواجهة الزلزال الكبير، فالحرب ضد الإسلام تقودها الحكومة بكل أجهزة الدعاية وبأقلام المنافقين والمتزلفين والمتسلقين من الكتاب والصحفيين، وقد كممت فيه أفواه المصلحين وحيل بينهم وبين الدفاع عن عقيدتهم؛ لذلك مُنِيت أسس الإسلام وأصوله بالشك والإنكار في نفوس كثير من الشباب الذين لم يكونوا يجدون أمامهم مرشدًا أو موجهًا، فقرر النُّورْسي أن يحمل الأمانة الكبرى على كاهله لقضية إنقاذ الإيمان، فهي مسألة لا تحتمل التأجيل والتسويف؛ لذلك نرى مِن أولى الرسائل التي ألفها رسالة (الحشر)، فالبعث ويوم القيامة أو يوم الحشر في نظر العلمانيين خرافة لا سند لها من دليل عقلي أو علمي.

لم يكن لدى النورسي أي كتب أو مصادر يرجع إليها أثناء التأليف سوى القرآن الكريم، وقد ساعده على ذلك ما وهبه الله من ذاكرة خارقة وقدرة عجيبة على الحفظ، وكانت الحروف اللاتينية قد استبدلت بالعربية التي حظر الطبع والنشر بها، وأُغلقت مطابعها، فكانت طريقة الاستنساخ باليد سرًّا هي الطريقة الوحيدة العملية لنشر رسائل النور لرجل غريب منفي مراقب، فبدأت الأيدي تتداول هذه الرسائل سرًّا وتتدارسها، وتهرب بها إلى المدن والقرى البعيدة، فبدأت تكسب قلوبًا جديدة وأرواحًا عطشى إلى الهداية والنور في تلك الصحراء المحرقة المظلمة الحالكة، وأخذت الحكومة تطارد طلبة النور وتداهم منازلهم وتفتشها، فتقبلوا هذه المضايقات بصدر رحبٍ، فالسجن هو أقل ما يمكن أن يدفعوه من ضريبة الإيمان وهو ليس سوى مدرسة يوسفية، وأسهمت النساء في هذه الحملة إسهامًا فعالًا، فأتت بعض النسوة إلى الأستاذ وقلن له: يا أستاذنا، إننا لكي نشارك في خدمة رسائل النور قررنا القيام بالأعمال اليومية لأزواجنا ليتفرغوا كليًّا لكتابة رسائل النور([18])، وبقيت رسائل النور عشرين سنة تنتشر بهذه الطريقة، ولم تطبع كاملةً في المطابع إلا سنة 1956م.

المدارس اليوسفية

المدرسة اليوسفية الأولى

بعد نقل الأستاذ النورسي إلى مدينة إسبارطة عام 1934م اعتُقِل مع مئة وعشرين من طلابه، وسيقوا جميعًا إلى سجن (أسكي شهير) بتهمة تشكيل جمعية سرية تعادي نظام الحكم وتسعى لتغييره، وُضِع الأستاذ في حبسٍ انفراديٍّ مع مضايقات كثيرة تهدف للتأثير على روحه المعنوية، لكن رغم ذلك كان الأستاذ مستمرًّا في تأليف رسائل النور، ولم يسفر التحقيق معه ومع طلابه عن شيء من الإدانة إلا أن المحكمة حكمت عليه بالسجن أحد عشر شهرًا بسبب رسالة الحجاب، وبعد أن قضى الحكم في سجن أسكي شهير نُفي إلى مدينة قسطموني عام 1936م، فقضى في مخفر الشرطة ثلاثة أشهر، ثم نُقل إلى بيت صغير أمام مخفر الشرطة حتى يكون تحت المراقبة الدائمة، قضى الأستاذ في هذا المنفى سبع سنين استمر خلالها في تأليف رسائله ومراسلة طلابه بشتى الوسائل، فكانت رسائله تنقل سرًّا ثم تستنسخ باليد ثم توزع على النواحي والقرى والمدن، بهذه الطريقة استنسخت ست مئة ألف نسخة، وانتشرت في أنحاء تركيا كلها.

كانت الحركة النورسية في توسع دائم ونشاط مستمر، ففشلت كل التدابير الحكومية في بناء سد يُعيق هذه الحركة أو يُوقف تقدمها، لكنها استمرت في إلصاق التهم بها، ففي 31 آب 1943م داهمت الشرطة بيته بحثًا عن أدلة تدمغه، لكنهم لم يعثروا على شيءٍ، ومع ذلك نُقل الأستاذ مع مائة وعشرين من طلابه إلى أنقرة([19])، وكانت التهمة الموجهة إليهم تأليف جمعية سرية وتحريض الشعب على الحكومة العلمانية ومحاولة قلب نظام الحكم وتسمية مصطفى كمال بالدجال والسفياني([20]).

المدرسة اليوسفية الثانية

نقل الأستاذ من أنقرة إلى مدينة (دنيزلي) ووضع في سجن، وشكلت الحكومة لجنة تدقيق لرسائل النور لينظروا: هل فيها موضوعات سياسية أو أية أفكار أخرى ضد الحكومة، فاعترض النورسي على تكوين هذه اللجنة لأنه رآها تكونت من أشخاص جهلاء غير مؤهلين للحكم على رسائله، فشكلت الحكومة لجنة أخرى، وكانت النتيجة أنهم لم يعثروا فيها على شيء فيه إدانة للنورسي، وبقي النورسي موقوفًا في سجن دنيزلي في زنزانة انفرادية، وكان طلابه مسجونين في السجن نفسه، فعقدت محكمة العقوبات الكبرى عدة جلسات للمحاكمة ألقَى فيها الأستاذ دفاعًا رائعا نورد جزءًا منه، قال الأستاذ:

(نعم نحن عبارة عن جمعية تحوي في كل عصر أربع مئة مليون من الأعضاء المنتسبين إليها، وهم يتسابقون دائما إلى تحقيق أهم شعارها ألا وهو {إنما المؤمنون إخوة}، فنحن من أفراد هذه الجمعية العظيمة…، بأي وجه تريدون إيقاف حركة رسائل النور التي هي عبارة عن خدمة حقائق القرآن، من يستطيع أن يقف في وجه حقيقة ترتبط بعرش الله تعالى؟([21]) إنني لا أتوجه في بياني هذا إلى أعضاء هذه المحكمة فقط بل إلى تلك الجماعة المتآمرة في (إسبارطة) أيضًا، أيحق لمارق مثل (د دوزي) أن يفتري على القرآن وحقائقه في وقاحة وإصرار، ويُعد ذلك أمرًا مقدسًا لأنه حرية للرأي والفكر، أهذه حرية الرأي والفكر؟

أما عن الجمهورية العلمانية فنحن نعلم أنها تلك التي لا تتعرض للدين في خير أو شر، ولكنكم تفسحون الطريق أمام كل جريمة وفاحشة خلقية وكذب على الله باسم الحرية الوجدانية والفكرية، إن دعواكم ليست إلا استغلالًا ووسيلةً لإعدام الدين باسم المحافظة على الأمن، فاسمعوا يا من بعتم دينكم بدنياكم وهويتم في الكفر المطلق، إنني أقول لكم: افعلوا كل ما يمكنكم فعله، فغاية ما نتمناه أن نجعل رؤوسنا فداء لأصغر حقيقة من حقائق الإسلام، إن السجن الخارجي على هذه الحال أسوأ مئة مرة من ذلك السجن الداخلي في ظل هذا الاستبداد، لا يمكن أن يقال: إن هناك حرية؛ حرية العلم أو حرية الضمير أو حرية التعبير أو حرية الدين، على طلاب الحرية أن يموتوا أو يبقوا في السجون؟! إن الزنادقة والمنافقين غرروا بكم وانحرفوا بالدولة عن وظيفتها الأساسية، إنهم اتخذوا من الاستبداد جمهورية ومن الردة نظامًا ومن الجهل والسفه مدنيةً ومن الظلم قانونًا؛ وبذلك خانوا وطنهم وضربوه ضربة ما كان لأجنبي أن يضربه مثلها)([22]).

ورغم صدور قرار المحكمة في 15/6/1944م ببراءة الأستاذ النورسي إلا أنه لم يطلق سراحه، وجاءت التعليمات بنفيه إلى قضاء أميرداغ، فنُقل ووضع في إقامة جبرية، ووضع على الباب حارس على الشيخ، فكتب الشيخ رسالة إلى رئيس قوى الأمن قائلًا له: (لماذا تعاملونني معاملة غير قانونية وأنا شخص أعاني من الغربة والمرض والشيخوخة؟ إن على هؤلاء الذين يقولون إنهم لا يريدون ظلمي ويحكمون ببراءتي أن يردوا إلي قبل كل شيء حريتي، إنني أتمكن أن أعيش بدون طعام لكن لا يمكن أن أعيش بدون حريتي([23]). إذا استطاعوا أن يسكتوني أمام الناس فلن يستطيعوا إسكات رسائل النور التي تصل إلى شغاف القلوب، إن كل نسخة تقوم مقامي، ولن تسكتها أية قوة على الأرض)([24]).

المدرسة اليوسفية الثالثة

هل كان مرور اثنتين وعشرين سنة على حياة النفي والإقامة الجبرية والمراقبة والترصد لشيخ بلغ الخامسة والسبعين يكفي جلَّادِيه القساة؟ كلا، ففي 3 كانون الثاني سنة 1948م داهمت الشرطة بيت الشيخ وبيوت خمسة عشر من طلابه، وسيقوا جميعًا إلى سجن مدينة أفيون، واعتُقل أربعة وخمسون طالبًا من طلاب النور أيضًا، والتهم الموجهة إليهم هي التهم السابقة نفسها، وهي الاتهام بتشكيل جمعية سياسية أو السعي ضد نظام الحكم، استمرت جلسات المحكمة مدة طويلة وصدر القرار أخيرًا في 6 كانون الأول 1948م بالحكم على الشيخ بالسجن عشرين شهرًا، وبالحكم مددًا مختلفة على عدد من طلابه، وعومل الشيخ في هذا السجن معاملة قاسية؛ وضعوه في غرفة كبيرة في الشتاء القارس، وتركوه بدون مدفأة، وبعد انقضاء مدة الحبس اضطرت المحكمة إلى إخلاء سبيله([25]).

واستبشر المسلمون سنة 1950م بمجيء الحزب الديمقراطي إلى الحكم لا لأن هذا الحزب كان إسلاميًّا بل لسببين:

الأول: أنه أزاح من الحكم أشرس عدو للإسلام.

الثاني: أنه أعطى بعض الحرية للنشاط الإسلامي وأعاد الأذان الشرعي، لذلك أرسل الأستاذ برقية لرئيس الجمهورية الجديد جلال بيار تمنَّى فيها أن يوفقه الله لخدمة الإسلام، ورد عليه الرئيس ببرقية شكر.

ملامح من منهج الأستاذ النورسي

الشيخ النورسي والتجديد

تمثل رسائل النور التراث النورسي العلمي والفكري والتربوي، فالمطلع عليها يصل إلى قناعة أنه بهذه الرسائل جدد العَرْض الإسلامي وفق مقتضيات العصر، واستطاع أن يقود السفينة بعقل ومنطق وحكمة، فكان أسلوبه في أصول العقائد مخاطبة الأمة بخواصها وعوامها ورجالها ونسائها، وكان يؤمن أن فهم القرآن والاطلاع على حقائقه في عالم الأنفس والآفاق يرسم الموازنة الكاملة في فكر العالم المسلم؛ لذلك كان يأخذ بيد المسلم ليقرأ بنفسه حقائق التوحيد على لوحة الوجود([26])، ولم يكن أسلوبه ترفًا فكريًّا كما أنه لم يأت من فراغ ولا من ثقافة باردة بل نبع من مواجهته لتطورات الفكر في عصره، وكان قد اطلع على كتب علم الكلام والفلسفة وغيرها لكنه لم يقتنع بأنها وسيلة مجدية في إنقاذ الإيمان، فاتبع طريق القرآن وحده للوصول إلى الله لأنه أقرب الطرق إلى الفطرة الإنسانية وتحريك العقول الباحثة عن الحق والقلوب العامرة بالتوثب الدائم، وأكثر الطرق انطباقًا على آيات الأنفس والآفاق، فهل كان النورسي مجددًا فريدًا في عصره؟

نعم لقد كان النورسي مجدِّدًا في مسلكه وطرحه وفكره؛ فقد كان مفكرًا بحق، عاش آلام أمته وتحمل في سبيلها كثيرًا من العنت والمشاق، وكان مشعلًا لها في دياجير الظلام التي خيمت عليها([27])، فمضى النورسي في صراع حضاري مرير محاولًا صياغة الناس صياغة ربانية في إطار إنقاذ الإيمان والدعوة إلى النظام الإسلامي، فهدفه تجديد حياة المسلمين في إطار الزمن الحاضر والصراع الحضاري الحاضر في حدود الدائرة القرآنية ومنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- والقيم الرفيعة التي صاحبت الجيل الأول، فكسر الحدود المصطنعة التي وضعت بين علوم الدين وعلوم الدنيا في القرون الأخيرة لفصل الدين عن العلم؛ لذلك دعا إلى تأسيس جامعة تجمع بين العلمين، لأنه أدرك بعمق أن تلك المناهج الفكرية التراثية لن تستطيع الوقوف أمام الإغراءات الفكرية لمناهج الحضارة المادية، فترك منهج علم اللام القديم ولجأ إلى منهج الكتاب المسطور والكتاب المنظور والقرآن الناطق المطبَّق لتتفق حقائق العلم مع حقائق الوحي، فحول النورسي إعجاز القرآن إلى معركة مُنتجة يتحدى فيها كفر الكافرين ونفاق المنافقين وردة المرتدين الذين ضللتهم فلسفات الغرب، فأردتهم إلى الحضيض وأفسدت كيانهم وحيرت عقولهم([28]).

منهج البناء عند النورسي

يقول النورسي: هناك أصول أربعة للعروج إلى عرش الكمالات وهو معرفة الله عز وجل:

أولها: منهج الصوفية المؤسس على تزكية النفس والسلوك.

ثانيها: منهج علم الكلام.

ثالثها: مسلك الفلاسفة.

رابعها وأَوْلاها: طريق القرآن الكريم الذي يعلنه ببلاغته المعجزة، فلا يوازيه طريق في الاستقامة والشمول، فهو أقصر طريق إلى الله وأشمله لبني الإنسان، وهو يُدلِّل على أن الإيمان لا يحصل بالعلم وحده([29])، فوضع النورسي منهجا شاملًا مستفادًا من القرآن والسنة والسيرة، وقد اطلع على كتب علم الكلام والفلسفة، غير أنه لم يقتنع بها في دعوته لإنقاذ الإيمان وإنما اتبع طريق القرآن وحده للوصول إلى الله.

استطاع النورسي بإيمانه وعزة نفسه وصلابة شخصيته الدخول في معركة مع الحكام ومواجهتهم، لكنه كان مقتنعًا بأن هذا الأسلوب ليس من مصلحة الأمة، وكان يدرك تماما أن الأمة في صراعها الداخلي لم تكن بحاجة إلى الشهداء، بل هي بأمس الحاجة إلى العلماء العارفين والدعاة العاملين والحكماء المفكرين لإنقاذ الإيمان والوقوف أمام الردة الحضارية والزحف الجاهلي متمثلًا بالحقد الصليبي والتآمر اليهودي وخيانة المنافقين([30]).

كان يؤمن بالنظام في حركة التغيير الاجتماعي ويرفض الفوضى، ويعتقد بالتدرج والانتقال من المقدمات الصحيحة إلى النتائج الصحيحة، وفي ضوء ذلك يدعو الإنسان إلى تغيير اجتماعي منظم من القاعدة إلى القمة لا العكس، ولإيمان النورسي بالتغيير في إطار الوعي الاجتماعي والدعوة السلمية والتخطيط الهادئ فإنه لا يبيح الثورة المسلحة داخل المجتمع الإسلامي؛ لأن ذلك لا يخدم من وجهة نظره إلا العدو الخارجي المتربص بالمجتمع الإسلامي، غير أنه لا ينكر أن استخدام الهراوة قد يُحتاج إليه في المراحل الأخيرة من بناء المجتمع الإسلامي الجديد لأن من لا يقيده النصح والإرشاد يقيده الهلع والإبعاد؛ فهو يعتقد أن التغيير الشامل في الحياة الإسلامية لا بد أن يبدأ من البنى التحتية المعنوية والمادية لا من وصفات مؤقتة؛ وذلك لملء الثغرات الخطيرة في البنيان الفوقي، وهناك ناحية أخرى يتسم بها منهجه وهو عدم الدخول في الصدامات الداخلية مع التيارات الإسلامية الأخرى لتوجيه الجهود الدعوية كلها إلى الجاهلية المعاصرة([31])؛ لذا لم يدع إلى الثأر للنفس رغم الظلم الذي مُنِيَ به هو وطلابه، وما كان يدعو للثأر للإسلام بالقوة والغضب بل بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة لتبليغ الدعوة وإنقاذ الإيمان، ومن المعلوم أن إنقاذ الإيمان عنده يعني إنقاذ الإسلام -من حيث هو كل لا يتجزأ- من مخططات العلمانيين وبالانطلاق من حسن الظن بالمسلمين وتجنب تكفير أي أحد منهم([32]).

ويرى أن الجهاد في العالم الإسلامي هو جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة والعلم والنصيحة لإعادة الأمة إلى حظيرة الإسلام حسب قانون التدرج، ويؤمن بأن المجتمع الذي يفقد أسس الإيمان وحرارة الانتماء لا فائدة من الحديث معه عن تفاصيل الشريعة، فالقاعدة الإيمانية إذا تكونت صار تطبيق شرع الله خطوة طبيعية نحو الوصول إلى المجتمع بحكم نظام الإسلام، ويرى الابتداء بالإيمان للانتقال إلى التربية فالشريعة، لكن ليس معنى ذلك أنه طبق هذه الخطوات منفصلة دون ترابط جامع([33])، ولا شك أن النورسي وصل إلى هذا الرأي بعد أن استقرأ جميع الثورات الاجتماعية في العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين، يقول: إن الجهاد في أي مجتمع مسلم إنما هو جهاد معنوي يوصَل إليه عن طريق تنوير الأقطار وإصلاح القلوب والأرواح، وبذلك يكون جهادا إيجابيا بناء([34])، وقد طبق هذا عمليا أثناء ثورة الشيخ سعيد بيران، وامتنع عن المشاركة فنجح أسلوبه بينما فشل أسلوب الآخرين، وبنى مدرسة ثقافية إسلامية روحية انتهت إلى إحداث وعي إسلامي قوي، وبه جاهدَ الكفر والإلحاد وهوَى بمعاول التوحيد الحق على مراكز الثقافة الفكرية والاجتماعية التي تفرعت عن المدارس المادية، فظهرت نتائجه عام 1950م بفوز عدنان مندريس في الانتخابات وتأييد طلاب النور له، وبعد نجاحه قام بتغييرات كثيرة في الدولة والمجتمع، وتبع هذا ظهور الصحوة الإسلامية في تركيا وبدء عودة المجتمع في كثير من مظاهر حياة أفراده إلى عقيدته وحضارته الإسلامية.

النورسي والسياسة

هل ترك النورسي السياسة وانسحب من الحياة عندما قال: أعوذ بالله من الشيطان والسياسة، ولم يهتم بشؤون المسلمين، ولم يواجه الحكام بكلمة الحق والدفاع عن الدين خصوصًا أنه قسم حياته إلى سعيد القديم وسعيد الجديد وسعيد الثالث؟

الحقيقة؛ أنه لم يخالط الحكام ولم يدخل في أتون السياسة الميكافيلية التي تجسد التزلف والنفاق والمصالح الذاتية، ولم يكن طالبًا للمال والجاه والمنصب، بل لعن كل هذه المظاهر لعنَهُ لإبليس واستعاذ بالله منها، لكنه مع ذلك دخل السياسة الحقيقية من أوسع أبوابها، ولم يترك الأمة تعاني القهر وحدها في الميدان، ولم يتوانَ عن قَدْح سلاحه في وجه الزندقة والعلمنة، فواجه الضالين بالإيمان وواجه القانون الغربي بشريعة الإسلام والمخطط العلماني بالمخطط الإسلامي، فضحى لإنقاذ الجيل من التغريب بكل شيء راحةً ومالًا ومنصبًا وسجنًا وتشريدًا وإقامةً جبرية في المنفى، وهكذا ارتقى إلى الأفضل والأحسن والأصلح لقضايا الأمة.

كان سعيد القديم يخالط الناس في المجتمع ويسمع ثرثرتهم ويتحمل تفاهاتهم، فانسحب سعيد الجديد ليتفرغ لنفسه أولا، وكان سعيد القديم معتزًّا بمظاهر الدنيا ليثبت أنه علامة الزمان ومثقف العصر، فكان يظهر أمام المجتمع مجادلًا عنيدًا، فعاد سعيد الجديد إلى نفسه ليرى أن كل ذلك طريق الغرور وسبيل إلى بلبلة الفكر وضياع الشخصية وابتعاد عن منهج القرآن الكريم، وتحول إلى باحث عن الحقيقة قائد للمسيرة الطاهرة لإنقاذ الأمة من الكفر والنفاق والفصام، وكان سعيد القديم مفكرًا، لا حول له ولا قوة، لا يحسب له المتآمرون على الدين والوطن حسابًا، أما سعيد الجديد فخاض غمار السياسة سابرًا لمخاطرها قائدًا حركيًّا خطيرًا، يقود الركب وينقذ الإيمان ويهيئ صفوف الدعاة ليوم المواجهة، أَوَبْعد هذا كله يقال: إن سعيد الجديد ترك السياسة؟

وعندما تطوِّف في رسائل النور ترى أنه ينتقد الحكام بأنهم يدفعون الأمة إلى هاوية المدنية الدنيئة، فاللمعة الثانية والعشرون كلها سياسة، وأجوبة عن أسئلة سياسية، يبين فيها استهانة الدولة ورجالها بالحق وظلمَهم للدعاة وكذبهم على الناس، ويصفهم بأنهم طغاة متجبرون متكبرون بلغوا الفرعونية…([35])، ويصف الطاغية في زمانه بالمبتدع الملحد المفسد الضال، ويصف الذين يأتمرون بأمره بالمنافقين ويقول: إن زمان الإمساك بالهراوة لم يأت بعد لأنه مشغول بإنقاذ الإيمان وإحداث الوعي أوَّلًا، ويدعو طوائف الأمة إلى الائتلاف فيقول لهم: إن لم تزيلوا هذا النزاع فإن الزندقة الحاكمة الآن حكمًا قويًّا ستستغل أحدكم ضد الآخر وتستعمله أداة لإفنائه([36])، وصرح بأن القومية التي تتبناها الدولة سم قاتل ومرض أوروبي خبيث، ألقته أوربا للمسلمين ليسهل عليها ابتلاعهم قطعا متناثرة، وهاجم الفكر القومي العلماني مهاجمة شديدة، وبيَّن جذوره الأوربية، وهاجم علماء السوء الذين يصدرون فتاوى لتسويغ أعمال الدول في تغيير الشعائر الإسلامية، وينتقد رجال الدولة فيقول: (أخاطب أولئك الرؤساء المتفرغين في القيادة الذين يلعبون بمقدرات الأمة حسب أهوائهم، وأنتقد بشدة تدريس الفلسفة المادية الإلحادية للشباب)([37])، ويبين أنهم يرتكبون هذه الأفعال تحت ستار الإفرنج والتمدن بمدنية فرعونية، تلك المدنية التي تزيل حجاب الحياء وتُشبع نزوات أغنياء سفهاء، وتكون وسيلة لشهرة طغاة ظلمة، وتزيد بأس البائسين وألمهم، ويقول: (أيها الملحدون المتفرنجون الذين يسعون لصرف إخواني الحقيقيين عني بدعايتهم أي نفع تسدونه لهذه الأمة؟ إنكم تطفئون نور أهل التقوى والصلاح)([38]).

هكذا كان النورسي في تلك الفترة، فإذا لم تكن هذه سياسة وعملًا بشؤون الدنيا والسياسة فيا ترى كيف تكون السياسة؟ إن ترك السياسة عند النورسي يعني عدم الاتصال بالحكام وعدم ذكر أسمائهم، والابتعاد عن الصدام معهم صدامًا حركيًّا مباشرًا، والامتناع عن الكتابة في صحفهم والنأي عن التهريج بكلمات جوفاء لا تفيد القضية، هكذا كان مخططه الإسلامي بدايةً صحيحة معاكسة مقاومة للمخطط العلماني([39]).

بعد سقوط الخلافة وظهور الأعداء علنًا وبيدهم القوة الغاشمة بدأ النورسي يدخل السياسة من باب آخر، يعتمد على التخطيط والمواجهة الذكية وتحويل المعركة من أسلوب إعلامي فاضح إلى مخطط فكري عميق لصياغة الأمة المنكوبة من جديد، وكان للنورسي من قوة الإيمان والشجاعة ما يستطيع به المواجهة ويضحي بنفسه شهيدًا، لكن كان يعلم جيدًا أن هذا ليس من مصلحة الأمة، وكان موقنًا أن الأمة لم تكن يومئذ بحاجة إلى شهداء، بل إنها بأمس الحاجة إلى العلماء والدعاة المفكرين كي ينقذوها من السقوط الإيماني والردة الحضارية والهمجية الجاهلية([40]).

وعندما بدأ نصب التماثيل في الميادين قال النورسي: (النصب الذي يجب على المسلمين إقامته هو المستشفيات والمدارس وملاجئ الأيتام والأقسام الداخلية للطلبة ودور العبادة وشق الطرق)([41])، وظل النورسي في عهده القديم وفي عهده الجديد هو هو، لم يتغير لكنه أدخل التغيير في خططه وأسلوبه السياسي في كتابة رسائله، فنشر الوعي الصحيح في ظل قاعدة التدرج والأخذ بنظام الأولويات دون حاجة إلى استعمال العنف، ولو لم يكن النورسي شخصية سياسية مؤثرةً لَمَا قضى جل حياته في السجون والمحاكمات والمنفى والإقامة الجبرية، ولَمَا مُنِعت رسائله من النشر بينما لم يفعلوا ذلك بغيره من العلماء؟ فما فعلوا ذلك بالنورسي وحده إلا لأنهم كانوا يعلمون أنه بصدد مشروع نهضوي حضاري شامل؛ لذلك عدوه سياسيًّا خطيرًا([42])، وأشار النورسي إلى أن سبب تخلف الدولة العثمانية فئات ثلاث تتحمل قسطا كبيرًا من مسؤولية تأخرها:

الأولى: فئة العلماء.

الثانية: فئة المتعلمين المثقفين الذين لم يفهموا حقيقة الغرب.

الثالثة: فئة أصحاب الزَّوايا، وبيَّن أن كل فئة من هذه منغلقة على نفسها وتتهم الآخرين بالكفر أو الجهالة.

موقفه من الاجتهاد

كان موقف النورسي من حركة الاجتهاد ردَّ فعلٍ واقعي على حركة التغريب التي أرادت أن تصبغ المجتمع الإسلامي بصبغة الحياة الأوربية جملةً وتفصيلًا، فرأى أنه لا معنى للدعوة إلى الاجتهاد في جو كهذا لم يبق لضوابط الإسلام فيه أية قيمة، فأي نوع من الاجتهاد سيجري الآن سيكون في فلكِ الحياة الغربية، ومن المنطقي أن كل فلسفة لها أسسها وقواعدها، ومعالجة أية قضية تتفرع منها لا يمكن أن تتم إلا في إطارها؛ فرأى النورسي أن بعض العلماء الذين لا يتحلَّون بأي شرط من شروط الاجتهاد يسوغون كل التطورات الإلحادية التي جرت في تركيا باسم الاجتهاد، فهو يؤمن أن باب الاجتهاد مفتوح لكنه يعتقد أن هناك موانع تحول دون الدخول فيه الآن:

أولها: فتح باب الاجتهاد في قطر الإسلام المنيف أو فتح الثغرات التي هي وسيلة لتسلل المخربين؛ خيانةٌ في حق الإسلام.

ثانيها: إن الاشتغال بتقوية أصول الإيمان وما هو قطعي الثبوت من النصوص التي مُنِيت بالتشكيك أفضل من الانشغال بأمور نظرية جزئية؛ لأن العقائد الإسلامية وأصولها التشريعية غدت في خطر كبير فما فائدة الحديث في الفروع؟

ثالثها: تحكُّمُ الفلسفة المادية ومظاهر الحياة الغربية في حياة المسلمين اليوم أنستهم رضَا الله سبحانه وتعالى؛ لذلك فإن أي حديث عن الاجتهاد في مثل هذا الجو لا يكون مبنيًّا إلا على أسس بعيدة عن الورع والتقوى.

رابعها: إن حركة الاجتهاد في العصر ليست ناشئة عن رغبة داخلية أو حاجة اجتماعية منسجمة مع التطور الطبيعي، وإنما متأثرة بمشكلات الحضارة الغربية التي تضغط على مجتمعنا؛ لذلك فهي لا تكون إلا وسيلة لتخريب المجتمع الإسلامي.

خامسها: إن الاجتهاد لا بد أن يجري في إطار الشريعة مهما تغيرت الحياة، ولكن تطور الحياة في عصرنا تطور مقلِّد يسير بمعزل عن ضوابط الشريعة؛ ومن هنا فإن الاجتهاد لن يكون في إطار ضوابط الشريعة بل في إطار غير منضبط بضوابط الشرع، لذلك تكون هذه الاجتهادات وفق قوانين أرضية وليست سماوية([43]).

النورسي وتجديد علم الكلام

إن ظروف مجتمع النورسي القاسية التي فرضت الإلحاد والزندقة بقوة الحديد والنار على المسلمين دفعته إلى التركيزِ على اتجاه آخر وصرفِ حياته كلها في سبيل توضيحه وتفهيمه، وهو تجديد علم الكلام تجديدًا واضح المعالم قوي الأركان، فأوجد علمَ كلام قرآنيًّا جديدًا استطاع به نقل علم التوحيد من نظريات فكرية مجردة يفهمها الخاصة إيمانًا عقليًّا مجردًا إلى سلوك في الحياة؛ ينفعل به العقل وتثور العاطفة ويتحول إلى ممارسة يومية، تحدد خط السير المستقيم للإنسان المسلم، وتحول بينه وبين الوقوع في الحرام.

إن علم الكلام استطاع في فترات الجدال العقلي بين الخاصة أن ينقذ الإيمان العقلي لكنه لم يستطع أن يصوغ حياة المسلم صياغة ربانية تحقق المعنى الحقيقي لعبودية الإنسان لرب العالمين، أي إنه لتأثره الواضح بالمنهج الفلسفي الجاف لم يستطع أن يتحول إلى مدرسة للتربية الاجتماعية؛ لذلك فإن مجرد إعلان الإيمان بالله لم ينقذ سلوك المسلمين في العصور الأخيرة من كارثة البعد والشرود التي أدت إلى انحدارهم وسقوطهم وفقدانهم حقيقة التوحيد من حياتهم، وقد استطاع النورسي أن يحدد المرض الخطير في جسم الأمة، ثم عالجه معالجة قرآنية خالصة، فحول عقيدة التوحيد إلى حياة مفعمة بمعاني الإخلاص والاستقامة والتضحية والسلوك([44]).

كان أسلوب النورسي في الحديث عن أصول العقائد الإسلامية فريدًا في بابه؛ فهو يعتمد على الأسلوب التفصيلي الذي يدخل قارئه إلى جذور القضايا بعكس علماء الكلام السابقين الذين كانوا يخاطبون الفلاسفة وتلامذة العلم العقلي التجريدي، فكانوا يعتمدون على الإيجاز الشديد والمقدمات العقلية والمصطلحات العلمية المعروفة لا يتجاوزونها، بينما كان النورسي يخاطب أمة كاملة بخواصها وعوامها وقعت في براثن خدعة حضارية مادية شاملة، فتكت بعقول أبنائها وقلوبهم وسلوكهم، ودخلت في تفاصيل حياتهم بطرائق مغرية([45]).

النورسي والفلسفة

اطلع النورسي على مدارس الفلسفة المتنوعة منذ عصر اليونان إلى زمانه، لكنه رفضها ورفض مناهجها المخالفة للإسلام إلا إذا