قصص الشيخ سعيد الطنطاوي عن العلماء وأقواله (3)

1- الشيخ محمد أديب كلكل 

- حين كنت أكتب عن الشيخ محمد أديب كلكل-حفظه الله- كتاباً ،كان يقول لي مادحاً الشيخ،ومشجعاً لي:تنوء بكلكل،أي لسعة معارفه وتنوع فنونه،ولكثرة مناقبه وشمائله ،وكان الشيخ محمد أديب كلكل – رحمه الله –كان قد أرسل لي رسالة ماتعة مليئة بالنصائح والإرشادات آملا أن تفيدنا في غربتنا ،نشرها الأخ الدكتور مرهف السقا وهي بصوت الشيخ أديب نفسه ،فسمعها الشيخ وعلق على قول الشيخ أديب بأن صوتك الشجي لايزال في أصداء المسجد حيث حلقات الذكر ،فكنت حين أصحبه إلى جدة بالسيارة أنشد له بعض الأناشيد ،فكان ينهرني إذا ترنمت كثيراًبلفظ الجلالة ويقول لي : لايجوز ،ثم بعد الانتهاء يمزح معي ويقول : لاتغترَّ بقول شيخك لك :إنك عندليب ؟فكنت أضحك وأسعد بنقده ،وأقول له :أريد أن أدخل السرور إلى قلبك ،وأبعد عنك السآمة والملل ، وسبحان الله لم يحصل معي ولا مع الأخ نور الدين عدي الذي كان يوصله أيضاً أية مشكلة في الطريق ولا أذكر أن حاجز شرطة الشميسي ،أوقفنا لرؤية إقامتنا مهما كانت الظروف ،ولم نكن نشعربمسافة الطريق بل كانت الرحلة معه من أمتع الرحلات . 

2 - الشيخ محمد الحامد 

قال في إحدى زياراتنا له بعد حديث طويل عن الشيخ مروان حديد الذي له مكانة عالية ومنزلة رفيعة عنده :لو لم تنجب حماة إلا الشيخ محمد الحامد ومروان حديد وسعيد حوى، لكفاها فخراً ،وقد أكد لي الأخ نور الدين عدي أنه سمع هذه العبارة منه كثيراً ،ومما سمعته :أنه لايزال يذكر تلك الزيارة التي قام بها لمدينة حماة ،والتقى الشيخ محمد الحامد في غرفة المسجد الجديد في سوق الطويل ،قال أعطى الشيخ أحد طلابه خمس ليرات ليجلب لهم فتة حمّص "تسقية"،فأكلوا منها جميعاً .وقال لي في جلسة أخرى :كان الشيخ محمد يرسل لي نسخة من كل كتاب يصدره .ووصف لي الشيخ عبد الحميد طهماز بأنه رجل "عالم" وكان يشجعنا على زيارته . 

3- الشيخ محمد الشامي 

في جلسة طويلة أخبرني بأنه حين ذهب إلى طرطوس مدرساً بعد مشكلة حصلت له في دمشق ، فوجئ بأن المدرسة التي سيدرّس فيها تعتمد على نظام اختلاط البنات بالذكور، وهم بالمرحلة الثانوية ،فحزن لذلك حزناً شديداًوغضب، ودخل إلى مدير المدرسةمستنكراً فأخبره المدير بأنهم في الشام (دمشق) يعرفون ذلك ،فسافر من فوره إلى دمشق وشكى ذلك للوزير منير العجلاني فأجابه الوزير بأنه سيمنع ذلك وسيصدر أمراً بوقف ذلك فوراً، فرجع الشيخ إلى طرطوس وبدأ يسأل ويستفسر كل يوم مدير المدرسة عن وصول القرار أو عدمه واستمر الأمر على هذا الحال شهوراً ،وسافر مرة ثانية إلى دمشق وأراد مقابلة الوزير فقيل له :إن الوزير تغير ،واستطاع الوصول إلى الوزير الجديد وهو نهاد القاسمي على ما أذكر فأخبره الوزير بأنه لا يعرف ذلك ،ونادى مدير التعليم آنذاك وهو ابن العالم المعروف محمد كرد علي واسمه غسان فرحب بالشيخ وقال الوزير: نعم يا سيدي توجد في طرطوس وصافيتا ومشتل الحلو، بعض المدارس التي فيها نظام الاختلاط لقلة الأبنية المدرسية ،ولقلة الطالبات هناك ،فأمره الوزير بأن يصدر أمراً بوقف ذلك ،وغادر الشيخ مكتب الوزير وقد امتلأ فرحاً وسروراً ،ورجع إلى طرطوس ولكن القرار لم يصل فهاج وغضب ورفع صوته عالياً عند مدير المدرسة، واتفق وجود مدير تعليم منطقة اللاذقية عند مدير المدرسة ،فراح يهدئ من غضب الشيخ وقال له :يا أستاذ والله هم يغشونك يَعِدونك بأفواههم ولكن نحن هنا لم يصل إلينا شيء فازداد غضبه وهمه وحزنه ،وترك المدرسة ورجع إلى دمشق ،قال: وفي إحدى الليالي جاءني الشيخ محمد الشامي الحلبي زائراً،واستطرد مثنياً على الشيخ الشامي رحمه الله ،قال لي: هذا رجل فاضل وله علاقات طيبة مع الوزراء والمسؤولين وفي هذه الزيارة أخبره الشيخ بقصة المدارس المختلطة في طرطوس قائلاً له :هذه جريمة كبيرة و خطيرة ،وأن حوادث كثيرة حصلت نتيجة هذا الاختلاط ،وراح يعدد له هذه الحوادث المزرية فقال له الشيخ محمد الشامي :هلا تذهب معي غداً لمقابلة الوزير فرفض الشيخ سعيد قائلا :إن تجربتي معهم كانت سيئة ،فقال له :اكتب لي رسالة لكي أسلمها يداً بيد إلى المسؤولين ،قال :فكتبت الرسالة، والشيخ الشامي ينتظر ،وأعطيتها للشيخ قائلاً :اقرأها فقال:لا لزوم لذلك ،وأخذها الشيخ الشامي ثم بدا له أن ينظر فيها كما قال لي الشيخ سعيد رحمه الله فنظر فيها ،وفلم تعجبه لغة الرسالة القاسية التي يخاطب بها الشيخ سعيد المسؤولين ،فقال له: يا شيخي من الصعب أن نقدمها بهذا الأسلوب ،فأجابه الشيخ سعيد :هذا ما عندي، فلما رأى الشيخ الشامي صلابة الشيخ سعيد قال له :لا عليك ،إن شاء الله سأحاول إيصالها ،وتابع الشيخ سعيد حديثه وهو فرح قال: ذهب الشيخ الشامي إلى نائبٍ من مدينة حماة هو رئيف الملقي وأخبره بالقضية، فأثار رئيف الملقي هذه القضية مع مجموعة من النواب ،واستطاعوا أن يصدروا قراراً بمنع الإختلاط بالمدارس ،وانتصر الشيخ سعيد في معركته هذه والحق أني شعرت أن الشيخ بعد انتهائه من سرد هذه القصة قد انتابه شعور الفرح وكأنه تذكر ذلك النصر ،ولذة الفوز برضا الله سبحانه وتعالى وقال :من داوم الطرق فتح له الباب.

4 - الدكتور محمد علي المنجد 

حدثني أنه منذ صغره يأبى الذل والانقياد والخضوع ،وروى لي قصته في الجامعة مع الدكتور المنجد،قال :طلب الدكتور مني ومن مجموعة من الطلاب العمل معاً في المختبر ومعنا الطالبات ،فانتفض الشيخ سعيد غاضباً مستنكراً حين سجل الدكتور اسمه ضمن قائمة فيها طالبات ،وقال للدكتور :ولِمَ هذا ؟ ألا تعلم أن الاختلاط حرام ! تصنف على ما يحلو لك!آمل أن تغير ذلك ،وتجعل الرجال وحدهم، والنساء وحدهنَّ، قال :رضي الدكتور واعتذر من الشيخ سعيد أيضاً، قال الشيخ سعيد :لعلمه أني عنيد ،وأني لن أتراجع ،والدكتور طيب .

5 -الشيخ محمد عوامة حفظه الله : 

قال لي صباح يوم 25/10/1421هـ،كنت في يوم من الأيام جالساً في الحرم فإذا بأبي الفتح البيانوني ومعه رجل ،قال أبو الفتح :أُعرّفك على رجل يعجبك ،فتناولت معه عدداً من المسائل الفقهية واللغوية فوجدته متمكناً فعلاً ،أما الحديث الشريف فهو الآن أعلم الناس به.ثم قال :هذا الرجل هو الشيخ محمد عوامة حفظه الله 

وفي صباح 23/1/1428هـ،أمام مسجد فقيه أثنى على الشيخ محمد عوامة قائلاً:هو ليس بمنزلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة لكنه قريب منه جداً.

6- الشيخ محمد الغزالي 

- ذكرلي في زيارة له أنه تصاحب مع الشيخ محمد الغزالي إلى منطقة الباحة ، فحصل بينهما خلاف فقهي حول صلاة النفل في السفر ،فبين له أن صلاة النفل جائزة في السفر،ووعده الغزالي بمراجعة فتواه التي ذهب فيها إلى عدم جواز ذلك 

7- الشيخ مصطفى الزرقا – رحمه الله – 

حدثني عنه فقال :إنه حين حضر إلى دمشق زاره ،وكان فصيحاً جداً ،سمع منه كلمة (النوافذ) يريد منها فتحة الأنف والعين والفم أي ما كان في دائرة الوجه ، ولم أسمعها من غيره ،وقال :كان الشيخ مخصصاً يوم الجمعة للحلاقة نعم كان يحلق لأولاده.

8- مصطفى السباعي 

قال لي :زرت الشيخ مصطفى السباعي أكثر من مرة، مرة مع كامل حتاحت،حين أخبرني بأن الدكتور مصطفى مريض،ثم زرته أيضاً حين كان مريضاً في لبنان ،وأضاف :أعجبتني مكتبة الدكتور العامرة المرتبة،كانت كلها خزائن،وقارنتها حينئذ بمكتبتي التي كانت صناديق فاكهة فارغة،أضع الكتب فيها. 

9-الشيخ منير الغضبان 

ثمة محبة قائمة بيني والدكتور منير الغضبان رحمه الله تعالى ،قويت كثيراً حين أدركت أنه من تلاميذ الشيخ سعيد – رحمهما الله تعالى- ومن المقربين له ،كان الشيخ منير مواظباً على زيارة الشيخ سعيد بعد عصر كل ثلاثاء ،يصلي العصر في مسجد فقيه ثم يصحب الشيخ إلى منزله ،وكثيراً ما سرت معهما إلى باب عمارة الشيخ سعيد ثم أستأذنهما بالرجوع ،ويبدو أن الشيخ منير في هذه الجلسات كان يكتب في دفتر خاص كل ما يتحدث به الشيخ سعيد بعد استئذانه ،وكنت أرى هذا الدفتر على رفٍّ من رفوف مكتبة الشيخ لكني لم ألمسه ،ولم أسأل الشيخ عن مضمونه كما لم أسأل الشيخ منير عن محتواه ،وأخبرني الأخ نور الدين عدي أنه نظر في الدفتر ،فرأى فيه معلومات عامة منوعة كأن الشيخ كان يحدثه عنها ،فيسجلها الشيخ منير ،خوفاً من ضياعها ، وليتها تُنشر ،فلن تخلو من فوائد – فيما أحسب -،والحق أني أُجلُّ الشيخ منير رحمه الله لأنه وفيٌّ جداً للشيخ كان يقول كثيرا :أشعر حين أجلس أمام الشيخ سعيد بأني قزمٌ صغير ،وما أحلى دعابات الشيخ سعيد له وكم كان السرور واضحا على أسارير الشيخ منير من مزحات الشيخ سعيد ،وقد تصاحبنا مرة ومعنا الأخ نور الدين عدي لزيارة الشيخ في مستشفى سليمان فقيه في جدة ،وفي الطريق حدثني الشيخ منير كثيراً عن كثير من شؤون حياته الدعوية ، وبعد وفاته حزن الشيخ عليه حزنا شديداً شعر جميع أحباب الشيخ سعيد بذلك ، قال لي الشيخ مرة :إنه جمع من تاج العروس كل اللغات الواردة فيه ،ولكن لاأدري ماذا صنعَ به ،وقلت له يا شيخي: ليتك تعطي ما عندك للشيخ منير الغضبان –رحمه الله- فأنت تحبه وهو قمين بأ ن يجمع ماعندك للنشر ،فتعم الفائدة ،وتستفيد الأجيال مما أعطاك الله ،أما أنا فوالله لاوقت عندي لذلك ،وكنت أتشرّف بالقيام بمثل هذا العمل ،ويمكنني مساعدة الشيخ منير في أية مسألة تتعلق بهذا العمل ،فكان الشيخ يسكت ويدير الحديث إلى موضوع آخر ،فأشعر أنه لايريد الآن نشر ما عنده لغاية لاأحد يعرفها ،لكن أخبرني في إحدى جلساتنا أنه قليل الإنتاج ،لأنه لايرضى عن أسلوبه في الكتابة ،ويشعر أنه ضعيف ،فهل هذا هو السبب أم هناك أسباب أخرى ،لقد أثنيت أنا العبد الفقير على أسلوبه في رسائله التي نشرها تحت عنوان رسائل الجامعة منها(هل في الشرخير ،وقبيل المعركة ،و14ربيع الأول وصفحات من سيرة الفاروق)لقد بدا أسلوبه جميلاً جداً في هذه الرسائل التي تنبي عناوينها على رقي مضامينها القيمة ،فلماذا لم يرض بأسلوبه ؟! لعله قارن أسلوبه بأسلوب أخيه الشيخ علي رحمه الله ،لقد وصف أسلوب الشيخ علي أمامي بأنه لامثيل له ولانظير

وكأني سمعت منه أن الشيخ منير لا نظير له بين من كتب في السيرةو النبوية 

وأخبرت الشيخ منير مرة،أني أسجل كلَّ ماأسمعه من الشيخ لنشره في المستقبل ،فقال لي :سرتُ مدة من الزمن على ذلك ثم توقفتُ،ولعل الذي نشره في الشبكة العالمية (النت) عن الشيخ سعيد هو ذلك الذي كان يحتفظ به –رحمه الله- لقد أجاد فيه أيما إجادة -فهو تلميذه في الشام ،ورفيقه المحب له في هذه الغربة - 

10- الأستاذ نادر الشعراوي 

حدثني صباح السبت 19/4/1425 بعد صلاة الفجر أنه ترك المدرسة في السنة الأولى الإعدادية لاعتقاده أنه لا داعي لها ثم فكر بعد مدة بالعمل الذي ينوي أن يقوم به إذا كبر، فقال في نفسه لو عملت أي عمل لن أستطيع الدوام عليه حتى لو كنت حمالاً في السوق،وجسمي لايقوى على أية حرفة فأنا أتقلب بالمرض منذصغري ، لذا الأحسن العودة إلى المدرسة فدرست حُراً أي بنظام المنازل وتقدمت إلى امتحان الشهادة الإعدادية ونجحت وحصلت في مادتي الإنشاء العربي على الدرجة الكاملة وهي عشرون، والرياضيات كذلك، وكان نظام الوزارة ضرْبَ كلِّ علامة في المادة باثنين فصار مجموع المادتين ثمانين ،أما مادة الإنشاء الفرنسي فلم أكتب فيه شيئاً والظاهر أن المصحح أشفق عليَّ فأعطاني نصف درجة مع أن الورقة بيضاء ،ومن طريف هذه الحكاية أن له جاراً هو الأستاذ نادر الشعراوي علم أن الشيخ سعيد فعل ذلك فسار على منواله، وقدم الإعدادي عن طريق المنازل وهو في الصف الأول الإعدادي، وحين أراد أن يسجل نفسه في المرحلة الثانوية قالوا له: نحن نعدّ ك ناجحاً إلى الصف الثاني فقط وليس إلى الصف العاشر كما حصل مع الشيخ سعيد ،وحين علم الشيخ سعيد بذلك كتب رسالة إلى أحد مديري مدرسة في بلدة النبك فقبل جارَه هذا في الصف العاشر،والعجيب أن الشيخ سعيد التقى الأستاذ نادر في الطائف سنة 1385 هـ، وهو يعمل مدرساً ،وسكن معه مدة من الزمن ،وقال لي :إن هذا الرجل ابن تاجر، فكان يذهب إلى حلقة الخضار ويشتري الخضار بأسعار زهيدة ،وفي إحدى المرات اشترى كرتونة كوسى كبيرة بنصف ريال فقط فقال له الشيخ سعيد: إن الباذنجان والجزر يصنع الناس منهما المربَّى لما ذا لا نصنع من هذا الكوسى مربّى،؟ فصنعا (كوسا المربَّى) لكن المقادير كانت غير دقيقة أي على البركة كما قال ،وبعد الانتهاء من طبخه ،قال لي: طلع مثل الخشاف، والمربَّى بوجه عام تأكل منه قطعة أو قطعتين فتشبع أما مربَّى الكوسى الذي صنعناه فكنا نأكل كمية كبيرة ولا نشعر بها ،لأن المربَّى كما ذكرت صار كالخشاف وعبر- رحمه الله -عن ذلك باللغة الدارجة (انهلط).أي صار مائعاً فقد قساوته 

11- الشيخ ناصر الدين الألباني 

- قال لي مرة :خطبت الجمعة في مسجد الجامعة لأن الخطيب الذي كان سيخطب تلك الجمعة لم يحضر ،وأوردت في الخطبة الحديث المشهور عن حذيفة بن اليمان :لكل قول حقيقة ... وبعد الانتهاء من الخطبة والصلاة اصطحبني الشيخ ناصر وقال :هذا الحديث لم أعثر عليه في الكتب المعنية بذلك ،قال الشيخ سعيد :رجعت إلى شروح البخاري فوجدت الحديث الشريف ،وأدركت سبب غلط الشيخ ناصر وهو أنه حين كان يبحث عن الحديث كان يبحث عنه في (حارثة)في حين أن الحديث ورد بترخيم اسم حارثة أي ياحارث ،قال :لعل هذا كان سبباً في وهم الشيخ ،مع أن الشيخ ناصر من أهل الحديث ،

وللشيخ قصة طويلة مع الشيخ ناصر في رحلتهم البحرية إلى الحج ،حكاها كثيراً لكني لم أسجلها في الأوراق عندي 

12 -الدكتور هيثم الخياط 

- حدثني مساء يوم الثلاثاء 23/1/1425هـ،ونحن ذاهبون إلى مستشفى سليمان فقيه ،أنه كان مع محمد هيثم الخياط وعدنان السبيعي –والله أعلم- يدرسون الفقه عند الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت ،وأثنى على هذين الصاحبين كثيرأ قال :دخل الدكتور هيثم الخياط الجامعة وعمره خمسة عشر عاماً لنبوغه وتفوقه ،قال :ولا أنساه حين قام خطيباً في مسجد الجامعة يهدر هدراً،كان خطيباً مصقعاً بليغا فصيحاً ،ومما ذكره الشيخ عن هذا الرجل أنه حين كان صغيراً رآه الشيخ مرة وأراد أن يضيفه بقطعة سكاكر، فرفض وألح عليه الشيخ بأن يأخذها منه لكنه بقي رافضاً وحين سأله الشيخ عن السبب أجابه بأن أباه –وهو الدكتور المشهور حمدي الخياط الذي له فضل كبير في تعريبه الطب في سورية – علمه بأن لا يأكل شيئاً أبداً بين الوجبات ،فأعجب الشيخ به كثيراً ،ثم قال لي من أين تعرف الدكتور هيثم ؟قلت :زرته في الإسكندرية سنة 1985 مع أحد الأصحاب ،وكانت جلسة طيبة جداً ،أدركت أني أمام عالم كبير كان من الواجب أن أستفيد منه حين مكثت مدة طويلة في الإسكندرية ،فما عرفته إلا قبل مغادرتي مصر بأسابيع قليلة ، أما عدنان السبيعي فلم أجد في الورقة أمامي شيئاً عنه سوى العبارة الآتية :لم أعد أذكر وقت الكتابة ماحدثني عن هذا الرجل –

ومن قصصه مع الدكتور هيثم ماحدثني به حين زرته في جدة ،سلمت عليه ،فرد السلام ،وقلت له: نحن في شوق إليكم فأجاب :وأنا في أشد الشوق – وتجاذبنا الأحاديث الخفيفة السريعة مراعياً مرضه ثم قلت له :دعوة صالحة منك ياشيخنا ،فقال :ابنة عبد الرحمن الباني اسمها داعية ،وأمها مصرية وليست سورية ،أعدت عليه طلب الدعاء لابني مصطفى المريض قائلاً له :عنده انزلاق غضروفي فقال :كان عندي انزلاق غضروفي ،قالوا :لابد من عملية جراحية ،فجاء إليَّ الدكتور هيثم الخياط ،وقلت له :ما نسبة نجاح العملية فقال :لاتتجاوزالعشرين في المائة ،فقلت له :إذا كان نسبة نجاحها بهذا الشكل إذن لاداعي لها، فما الحل الآخر قال له:الاستلقاء على لوح خشبي لمدة شهر ،فقال الشيخ هذا أحسن ،قال :وحين التزمت بذلك كان يزورني الكثير من الضيوف المتنوعي المشارب ،وكنت أطرح عليهم فكرة توحيد التيارات الإسلامية ،فكانوا يعدونني بقبول هذا المشروع ،وانتقل الحديث عن صاحب له ذكرناه في هذه المقالة هو عدنان بيازيد ،فالشيخ يحبه قال :هو الآن في أمريكا ،قال هما عدنانان :عدنان بيازيد وعدنان هواري كلاهما فاضلان،وشعرت أنني أثقلت الجلوس عند الشيخ فودعته ملحاً عليه بالدعاء لنا وللمسلمين

وسألته في إحدى الزيارات عن كتاب "في سبيل العربية "للدكتور محمد هيثم الخياط ،هل يوجد في مكتبته ،فاستغرب كثيراً وقال لي :هل للدكتور كتاب بهذا العنوان قلت له :نعم قال :لاأعرف أن له كتاباً بهذا العنوان ، لعله لم يرسل لكم نسخة ،إن الكتاب مطبوع .

13- الشيخ وهبة الزحيلي 

كنا ننتظر دورنا في مشفى سليمان فقيه لتصوير الشيخ صورة رنينية طلبها أحد الأطباء ،فمما حدثني به أنه درّس الشيخ وهبة الزحيلي في المعهد العربي الإسلامي ،وفي جلسة أخرى قال : كان الشيخ وهبة طالبا من جملة الطلاب ،وهو بنشاطه ودأبه على مذاكرة العلم واستظهاره بهمته العالية وصل إلى ما وصل إليه . 

14-الأستاذ ياسين الطربوشي 

-في شهر رمضان ،سنة 1421هـ سرت معه بعد صلاة المغرب في مسجد فقيه، إلى منزله وفي الطريق أخبرني أن من أساتذته أستاذ كبير اسمه ياسين الطربوشي من النبك، - والله أعلم - تعلم منه طريقة التشجير،وهي طريقة كما قال تعليمية رائعة ـ لقد تأثربه الشيخ ،فصار يطبقها في تدريسه مادة الكيمياء،وقد تلقاها الطلاب بالقبول والثناء ،وسألته كيف كنت مع طلابك ؟فقال :لقد كنت معهم شديداً ودوداً،أحب الانضباط والنظام ،ولكي أعلم الطلاب ذلك كنت أطرد أي طالب يتأخر عن الدرس،وعملت في المدرسة الشرعية- مقابل مسجد التوبة،وكانت لي حلقتان علميتان ،أبدأ بعد صلاة الفجر بحلقة للقرآن الكريم ،وأُتبع ذلك بحلقة أخرى للحديث النبوي

15-قصة الشاب النصراني الذي أسلم على يد الشيخ سعيد –كرَّمه الله ونعّمه - 

باتت هذه القصة مشهورة معروفة عند أحباب الشيخ ملخصها أن الشيخ حين كان في بيروت ،راح –على عادته أينما حلَّ يدرّس الشباب الدروس المدرسية مع دروس في التوجيه الإسلامي دون مقابل ،وفي أحد الدروس جاءه الطلاب واستأذنوه لحضور طالب نصراني يرغب سماع دروس الشيخ ليستفيد منها،فسمح الشيخ له بالحضور وحضر الطالب واسمه (ماكس) قال الشيخ سعيد : كان الطالب يسأل أسئلة علمية بحتة، وحين نصلي يجلس بعيداً عنا، وفي إحدى المرات سأل الشيخ ماذا تصلون ؟فأخبره الشيخ بأننا نصلي إحدى الفروض التي فرضها الله علينا، قال الشيخ : حين انتهينا من الصلاة نظرت إليه فرأيته يصلي معنا ، -وهناكان الشيخ يبكي كثيراً ويتوقف قليلا عن سردها - , ثم اختلى الشيخ به ،وقال له: سأسميك اسما لا يدل على معتقدك هو مشترك وهو إسكندر قال الشيخ ثم حاربه أهله كثيراً وبقي مسلماً وغادر لبنان .

16-وثمة قصة ثانية جرت في الشام بين الشيخ وطالب نصراني ،لقد كان الشيخ إذا طلب منه أحد الطلاب مراجعة ورقة الامتحان يقول له: إذا كان كلامك صحيحاً فحقك تأخذه تماماً ،وإذا كان غير صحيح فسوف تأخذ (صِفراً)-أي لادرجة لك - قال الشيخ: جاء الطالب النصراني يريد مراجعة ورقته فقال له الشيخ :أتعرف الشرط ؟ فقال :أعرفه فراجع الشيخ الورقة معه وتبين له أن كلام الطالب صحيح ،فأعطاه حقه كاملاً، فقال الطالب للشيخ :إذا كان الإسلام هكذا فأنا سأسلم وهنا بكى الشيخ بكاء طويلا ،وما دمنا مع الشيخ وطلابه فلنذكر أيضاً أنه كان يطلب من الطلاب التحضير والإعداد للاختبار في رأس كل شهر هجري والغاية منه كما قال الشيخ هو تذكير الطلاب بالشهور العربية الهجرية وحفظها مسلسلة خوفاً من نسيانها ولكي يتمسك الطلاب بها ويعتمدونها بدلاً من الشهور الميلادية .

- هذا بعض مما سمعته من الشيخ ،وأرجأت ما حدثني به عن شخصيات أخرى ذات آثار في الاتجاهات الإسلامية ، إلى مقال آخر لعلي في المستقبل أنشره ،لتكون حكاياته عنهم جزءاً من تاريخ الشيخ العلمي والفكري والدعوي ،ولا شك أن غيري من أحباب الشيخ قد سمع هذه القصص منه ببعض زيادة أو نقصان ،بل قد يكون عندهم الكثير مما لم أسمعه منه ،فحبذا نشرها قبل أن تُنسى في معمعة هذه الفتن الهوجاء ،أو يصيب أصحابها الكسل والملل،فتهمل ،ولا تستصغرنَّ يا أخي شيئاً ،فإشارات الشيخ قد تكون أبلغ من العبارات ،وحقاً لو دبجنا كل ما سمعناه من الشيخ من أقوال وحكم ونصائح لجاءنا ،علم غزير ،وماء عذب نمير ، فهو فيما أحسب عالم وليٌّ ليس له الآن بين الدعاة نظير ،وجزى الله خيراً كل من كتب عن الشيخ ،ولقد أفاد الدكتور صالح المعتوق حفظه الله حين خص أقوال الشيخ النافعة بفقرة خاصة ،وليت أحد الإخوة يجمع أقوال الشيخ التي كان يرددها كثيراً في ممعجم خاص به - رحمه الله -،ومما سمعته أيضاً:

لاترقِّ نفسك إن لم يرقوك - من أدمن الطرق فتحت له الأبواب - صفِّ النيّة ونم في البرية - يحبني كلُّ صاحبِ سريرة نقية 

17-ومن الأشعار التي سمعتها منه كثيراً ،وكان يترنم في إنشادها :

- الطُّرقُ شتى وطرقُ القوم مفردةٌ=والسالكون طريقَ الحقِّ أفرادُ 

- لايُعرفون ولا تُدرى مقاصدُهم=فهم على مهلٍ يمشونَ قُصَّادُ 

- والناسُ في غفلة عما يُرادُ بهم=فجلُّهم عن سبيل الحق رُقَّادُ 

ولو تأملتها ،وقارنتها بحال الشيخ سعيد وأوصافه ،لرأيت كأنه يعبر بها عن حاله وحياته ،ومنهجه، وهذه الأبيات لاأعرف قائلها ،وقدذكرها الشيخ جمال الدين القاسمي في مجلة المقتبس ، أما البيت الذي كان يردده كثيراً حين قامت الثورة في سورية فهو :

ليت شعري من على الشام دعا=بدعاء صادق قد سُمعا 

وكنا نلح عليه لكشف الضر والكرب لأهل سورية ، فيرد :

كيف نرجو إجابةً لدعاء=قد سددنا أبوابها بالذنوب 

وبالجملة يستفاد من حكايا الشيخ وقصصه التي كان يكررها وأقواله التي كان يرددها ،ما يأتي :

أن مصادر تكوينه العلمي متنوعة ، فالحكمة ضالته ،لذا جاءت ثمراته العلمية - المخصوصة ببعض القصص التي حكيناها مع مواقفه من بعض العلماء الذين ذكرناهم وأقواله فيهم – نافعة متعددة ،منها الشرعي ،ومنها اللغوي ،ومنها التاريخي ،ومنها الإجتماعي التربوي .

يبدو من هذه القصص والأحايث أنه كان منفتحاً على جميع الاتجاهات الفكرية الإسلامية ،متفقاً معها في الغاية ،ومشاركاً لها في الوسيلة .

ونحن قومٌ سرى في كل معمعة=لله بالله صادينا وغادينا

تميزت هذه القصص بالتنوع ،ولا شك أن ترداد الشيخ لها ،يدل على اقتناعه بفوائدها وعوائدها لما تتضمنه من مضامين راقية ،وأداف سامية ، الأمر الذي يفيد اتصاف الشيخ بالدقة في الاختيار ،وهي صفة تحلى بها في حياته العامة وحياته العلمية ،وهذه الخصيصة عنده ،يعرفها كل من صاحب الشيخ وعرفه ،وكان – أعز الله شأنه في الدنيا والآخرة - حريصاً على غرسها في أصحابه وطلابه :

لنا العقلُ طِرزٌ والحقائقُ بُردةٌ=ودينُ الهدى نهجٌ ومعناه مَشربُ 

تمتع رحمه الله بقوة الحافظة وحدة الذكاء ،ونباهة الفكر ،فكان يحكي هذه القصص كما هي في مصادرها ،مع إجادة عالية في إلقائها ،وأحيانا يذكر المصدر الذي ذكرها .والأمر يسير جداً ، عند من يتخيل صفحات تاريخ الطبري صفحة صفحة كما لو أن الكتاب أمامه .هذا شيخ حير الأفكارا 

ظهر أن الشيخ إذا اعتقد بصلاح العالم أو الشيخ ،فلا يهمه بعد ذلك اختلاف الناس فيه ،فنفع الإسلام والمسلمين هي أسمى غاية عنده ،ولو أجراه الله على يد أي واحد من خلقه ،والأمر كما قال الرواس :

وما هِمتي دنيا وأخرى وإنني=سوى الله في الدارين لاأتطلّبُ

لاتكاد تشعر في قصصه بأي مدح لنفسه أو ثناء على عائلته ،فالأنا عنده مقتولة ،فليس له غرض من هذه القصص والمواقف إلا التربية والإرشاد وبيان الحق ،وكأني بالشيخ : 

يقول تحققوا بالصدق دينا=ففي الصدق السلامةُ والسلام 

أخيراً قال أبو المواهب الشاذلي :أهل الخصوصية من العلماء الأولياء مزهود فيهم أيام حياتهم ،متأسَّفٌ عليهم بعد مماتهم ،وهناك يعرفُ الناس قدرهم حين لم يجدوا عند غيرهم ما كانوا يجدونه عندهم .

- رحم الله الشيخ على ما أجاد وأفاد ،وأنزل على قبره شآبيب الرحمة وسحائب المغفرة والرضوان ،ونفعنا به وبعلومه .اللهم آمين.

الحلقة السابقة هـــنا