الشيخ بشير غلاونجي

عالم جليل تفتقده المنابر وتبكيه المآذن

في الرابع والعشرين من شهر آذار/مارس عام 2009 ميلادي، لقي فضيلة الشيخ بشير غلاونجي ربه راضيا مرضيا بعد حياة حافلة بالدعوة والعلم والعمل الخيري ، وشيعته الالاف من منزل والديه بجوار جامع الحموي في مدينة جبلة الساحلية ، مسقط رأس الفقيد ، في جنازة مهيبة شارك فيها جمهور كبير من علماء الدين في سوريا ، الذين أدوا صلاة الجنازة على روح الفقيد الطاهرة في جامع السلطان ابراهيم بن أدهم بجبلة ، حيث ووري الشيخ غلاونجي الثرى في المقبرة المجاورة للمسجد ، مودعا بدموع المحبين .

ولد العلامة الشيخ بشير غلاونجي عام 1922 ، نشأ وترعرع في بيت علم ودين ، اذ تلقى اول دروس الفقه والتفسير والحديث على يد والده الشيخ عبد الله الذي كان يعمل اماما ومدرسا وواعظا . ثم أكمل تعليمه في كلية التربية والتعليم بطرابلس لبنان، وكلية اصول الدين في جامعة الأزهر بجمهورية مصر العربية .

تميزت حياة العلامة الراحل بالعطاء الكبير في مختلف مجالات علوم الدين ، كالعقيدة والفقه واصوله والوعظ والارشاد والدعوة ، واشتهر فضيلته خلال عمله مفتيا لمدينة جبلة ومحافظة اللاذقية، إذ كان يستقبل جموع المستفيتين من الناس ، سواء في بيته اوفي القاعة الخاصة الملحقة بجامع السلطان ابراهيم بن أدهم ، ويجيب على كافة اسئلتهم واستفساراتهم ، شفويا وخطيا ، ويبعث بنسخ منها الى الادارة العامة للافتاء في دمشق .

عرف سماحته بين الناس وذاع صيته من خلال دروسه النافعة وخطبه الرائعة بمسجد السلطان ابراهيم بن أدهم بجبلة ، وهو نفس المسجد الذي كان يخطب فيه الشيخ الشهيد عز الدين القسام قبل انتقاله الى فلسطين للجهاد في ثلاثينيات القرن الماضي ، وكان الشيخ غلاونجي يلقي خطبه ودروسه باسلوب يتميز بالبساطة والسلاسة ، كما عرف الشيخ بارشاداته الوعظية للحجيج خلال مرافقته لحملات الحج والعمرة ، كواعظ ومرشد ديني . 

تبنى العلامة الراحل منهج التيسير في الفقه ، وعرف بآرائه الفقهية المعتدلة ، وفتاواه الرضية ، التي تقوم على أسلوب التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم ، وتعتمد مبدأ ربط الفقه الاسلامي بالواقع العملي للمسلمين ، وقد استفاد منه تلامذته علما وخلقا ، لانه جمع اضافة الى سعة العلم وعمق المعرفة وتنوع الثقافة ، سموا في الادب والخلق والمعاملة الحسنة ، فقد عرف عن الشيخ غلاونجي صفاء النفس ونقاء السريرة والتفاني في حب الخير ونصرة الحق ، كان يسعى لخدمة الناس جميعا ، دون تمييز او تفريق ، إلا بالتقوى والعمل الصالح ، يقضي حاجاتهم ويرعى مصالحهم ، ما قصده أحد في حاجة إلا بذل أقصى جهده ، رغم اعبائه ومسؤلياته ، مقدما من خلال هذه الاعمال الفاضلة ، المثال الصالح للانسان المسلم والقدوة الحسنة للداعية الحق ، تاركا في نفوس تلامذته ومحبيه نموذجا طيبا ستبقى ذكراه في قلوبهم وافئدتهم . كما كان الشيخ متواضعا ومحبوبا من قبل الجميع ، تربطه علاقات واسعة وقوية بجيمع اطياف المجتمع ، عاش حياته يخفف الالام عن الناس ، يشاركهم همومهم وافراحهم ، ويواسيهم في احزانهم ، يخفف الامهم ، ويعيد مرضاهم .

وكان للعلامة غلاونجي ايضا اسهامات واضحة في الحقلين الخيري والانساني من خلال تأسيسه ورئاسته لجمعية البر والخدمات الاجتماعية بجبلة ، وشهدت الجمعية في عهده نشاطا ملحوظا وازدهارا لافتا ، فقد قامت هذه الجمعية بتقديم مساعدات ومعونات مادية وعينية لمئات الاسر الفقيرة ، تسد حاجتهم وتدفع فاقتهم ، وانبثق عن الجمعية دار الصناعات الحرفية التي تعلم الفتيات الخياطة والحياكة والاشغال اليدوية بالاضافة الى مركز صحي يقدم خدمات علاجية للفقراء مجانا ، كما قام العلامة الراحل بتأسيس جمعية رسمية لترميم المساجد واصلاحها ، واختير من قبل جمعية الهلال الاحمر السوري ليكون ممثلا لها

زار الشيخ العديد الدول العربية والاسلامية ، فقد سافر الى فلسطين قبل احتلال الاسرائيلي لها وصلى بالمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة ، كما زار قبرص بدعوة من الجالية السورية فمكث فيها خمسة عشر يوما يلقي خلالها الدروس والمحاضرات ، وزار الاردن وتركيا واجتمع بعلمائها وتحدث معهم .

وكان سماحة العلامة الكبير قد زار ايضا دولة قطر في يناير/كانون الثاني عام 2002 ، مشاركا في مؤتمر الدوحة للعلماء حول الاسلام والتراث العالمي الذي عقد على هامش اجتماع وزراء الثقافة للدول الإسلامية، وقدم محاضرة قيمة بفندق شيراتون الدوحة بعنوان "الاسلام حافظا للتراث العالمي " .

وقام الشيخ غلاونجي خلال حياته بتأليف كتاب يقع في حوالي ثمانين صفحة بعنوان " البيئة من منظور الاسلام " بالاضافة الى مؤلف اخر عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، ومخطوط عن حياة السلطان ابراهيم بن أدهم الذي يعتبر رائد المتصوفين في التاريخ الاسلامي .

رحم الله شيخنا وعالمنا الجليل وأسكنه الفردوس الأعلى وحشره مع الذين أنعم الله علهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ، وعوض الله الامة الاسلامية عنه خيرا وخلفه في أهله وذويه بخير ما يخلف عباده الصالحين .