الداعية المؤرخ الاستاذ محمد غسان بنقسلي

بسم الله الرحمن الرحيم

"يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي"

صدق الله العظيم

الداعية المؤرخ الاستاذ محمد غسان بنقسلي

(1934- 2019م)

ننعى الأستاذ الداعية أبو عمار محمد غسان بنقسلي الذي يعدّ من الرعيل الأول من أبناء الحركة الإسلامية في سورية. كان مضرب المثل في أخلاقه وعفافه وترفعه، شديد البر بوالديه، حريصا على التمسك بدينه وسنة نبيه، فبقي محافظا على صلاة الجماعة بالمسجد حتى أقعدته قدماه فلم يعد يقوى على المشي، وكان يصر على صيام رمضان حتى سنواته الأخيرة رغم كبر سنه ونحل جسمه.

وها هو يرحل عن الدنيا في بلاد الغربة بعد ان قضى جزء كبيرا من حياته مهاجرا في سبيل الله من بلد لاخر.

يقول الله تعالى: "ومَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"

فنرجو الله ان يكتب له أجر الهجرة في سبيله وأن يرحمه يكرم مثواه، وأن يجعل قراه الجنة.

مولده، ونشأته:

ولد الأستاذ أبو عمار في حي الجبيلة في مدينة حلب عام 1934م، ونشأ في كنف أسرة مسلمة ملتزمة. فوالده السيد محمد صبحي بنقسلي كان يعمل مستشاراً في القصر العدلي بحلب وتوفي في العام 1988م. أما الوالدة الفاضلة (رتيبة)، فقد كانت مدرسة، ومربية للأجيال في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي، وقد تعلم منها الدقة والانضباط في أمور حياته، وتوفيت رحمها الله عام 1982م. 

زوجه وأبناؤه:

زوجه هي السيدة الفاضلة نهلة الحفار ابنة الصحفي الأستاذ محمد فهمي الحفار صاحب الجريدة الحلبية "الجهاد" في عهد الاحتلال الفرنسي وجدها هو الشيخ العلامة الفقيه ياسين الحفار المدرّس في الجامع الأموي بحلب.

أما أبناؤه فلديه ولدان هما عمار وبراء وأربع بنات.

أشخاص كان لهم دور بارز في نشأته:

كان لبعض الأشخاص اثرا بارزا في بلورة شخصية فقيدنا الاسلامية اهمهم:

- الداعية المربي الأستاذ عادل كنعان الذي كان له الأثر البالغ في نشأة الأستاذ محمد غسان على الفكر الإسلامي الحركي والوسطي المعتدل حيث ظل ملازما له اثناء دراسته الإعدادية والثانوية والجامعية وحتى خروجه من سوريا.

- الشيخ المربي أحمد البيانوني الذي كان له أثرا وضحا في بناء الجانب الايماني والروحي لدى الأستاذ محمد غسان حيث كان يتردد منذ بداية شبابه على دروس الشيخ في مسجد ابي ذر.

دراسته، ومراحل تعليمه:

ولما بلغ سن التمييز أرسله والده للدراسة في مدارس حلب الشهباء حيث درس مراحل التعليم المختلفة فيها، ولما أنهى دراسته في ثانوية سيف الدولة بحلب توجه لإتمام دراسته الجامعية، فحصل على دبلوم المساحة ثم أكمل دراسة بكالوريوس التاريخ بجامعة دمشق.

أعماله،: 

بدأ الأستاذ محمد غسان مشوار عمله في مجال تخصصه الاول في الطبوغرافيا والمساحة في حلب حتى أكمل دراسة التاريخ فانتقل الى العمل في التعليم بتدريس مادة التاريخ في مدارس حلب.

وفي عام 1967م خرج الى الكويت وعمل رساما طوبوغرافيا ببلدية الكويت حتى العام 1973م، وبنفس الوقت قدم العديد من المقالات في إذاعة الكويت، ثم ما لبث ان عاد الى حلب وعمل مدرساً لمادتي التاريخ والجغرافيا في مدارسها وخصوصا مدرسة عبد المنعم رياض.

خروجه من سورية:

مع حملة الاعتقالات الأولى على رجالات الحركة الاسلامية في سوريا في عام 1967م خرج الأستاذ محمد غسان الى الكويت وبقي هناك حتى عام 1973م، ليعود الى حلب من جديد ليكمل مشوار الدعوة.

وفي سنة 1979م وبسبب اشتداد الملاحقات الأمنية على الاسلاميين، غادر البلاد مهاجراً في سبيل الله، هارباً بدينه إلى تركيا التي بدأ فيها دراسة الدكتوراه في التاريخ، ولكنه لم يكملها بسبب ترحيله منها سنة 1981م الى الاردن. 

وفي عام 1990م سافر الى الباكستان وعمل مديرا لأحد المعاهد العلمية هناك ثم مديرا للإدارة التعليمية في هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية بباكسان حتى عام 1996م وخرج منها الى الامارات العربية المتحدة وبقي فيها حتى تم ترحيله منها عام 1999م، حيث استقر بعدها في عمان عاصمة الأردن الى حين وفاته رحمه الله.

وكان رحمه الله منسجماً مع إخوانه متعاوناً معهم، متوازناً في العاطفة والفكرة، يرعى مصالح الدعوة، ويحافظ على حرمتها. 

وفاته:

انتقل الأستاذ محمد غسان بنقسلي إلى رحمة الله تعالى صباح يوم الخميس 21/11/2019م، في عمّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية ودفن فيها بعد سنوات من الهجرة والترحال والجهاد العلمي والدعوي والبذل والتضحية والعطاء.

رحم الله تعالى الأستاذ محمد غسان بنقسلي وتقبل منه هجرته خالصة في سبيله ورزقه منازل الشهداء واسكنه الفردوس الأعلى.

أصداء الرحيل:

وكان لرحيل الاستاذ محمد غسان بنقسلي أصداءً واسعة بين الإخوان، فقد نعاه العديد منهم:

المحامي الداعية الأستاذ علي صدر الدين البيانوني فقال: 

عظّم الله أجرنا وأجركم.. ورحم الله أخانا الحبيب غسان بنفسلي.. فقد كان أنموذجاً يحتذى في الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، وفِي الصبر والثبات والوفاء.. وله فضل كبير عليّ إذ كان أحد الإخوة الذين كانوا سبباً في انتسابي لهذه الدعوة المباركة في أوائل خمسينيات القرن الماضي.

كان - رحمه الله - واحداً من مجموعة في حيّ الجبيلة الذي كنا نقيم فيه، وكنت يومها في المرحلة الإعدادية، وكانوا هم في المرحلة الثانوية في نفس المدرسة (ثانوية سيف الدولة)، وكانوا يتردّدون على جامع أبي ذر الذي كنا نسكن بجانبه، وكانت تجري بيننا حوارات ومناقشات.. وجدت فيهم أنمودجاً لما ينبغي أن يكون عليه الشابّ المسلم: صدقاً، ووعياً، وخلُقاً، وفهماً صحيحاً للإسلام.. وإيماناً بالإسلام كله، والتزاماً بما يؤمنون به، والدعوة إليه على بصيرة، بالحكمة والموعظة الحسنة..، وكان هذا مكملاً ومنسجماً مع ما نشأت عليه في أسرتي.

كنا نمارس الألعاب الرياضية معاً، ونقوم برحلات مختلفة..، ونناقش بعض الكتب الإسلامية التي نقرؤها.. كلّ ذلك زادنا ألفة ومحبة وانسجاماً.. 

الأخ غسان بنقسلي -رحمه الله-، درس التاريخ في جامعة دمشق، ثم عمل في التدريس في المدارس الإعدادية والثانوية في حلب..، وكان يعمل في الجماعة في صفوف الطلاب...

أسأل الله عز وجل أن يجزيَه عني، وعن إخوانه ودعوته خير الجزاء.. وأن يتغمّده بواسع رحمته..، وأن يسكنه فسيح جناته..، وأن يجمعنا به في مستقرّ رحمته.. تحت ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه.. مع الأنبياء، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين.. وحسُنَ أولئك رفيقاً.. وأن يلهمنا وأسرته الكريمة، وزوجته، وأولاده الصبر، والرضى، وحسن العزاء..).

وكتب في نعيه الأستاذ الداعية أبو الطيب زهير سالم فقال: 

انتقل إلى جوار ربه في مهجره في عمان الأخ الداعية غسان بنقسلي عن عمر ناهز الخامسة والثمانين عاماً.

والأخ أبو عمار -رحمه الله تعالى- من رعيل الدعوة الأول. التحق بركب جماعة الإخوان المسلمين منذ مطلع الخمسينات في القرن الماضي. 

وظل داعياً عاملاً مجاهداً من الرهط الذين يأخذون الأمر بجدّ وعزيمة والكتاب بقوة من غير شطط ولا تعسف طريق ..

ثم التحق بعد ذلك في ركب الهجرة والمهاجرين، فكانت له على طريق الحق جولات. كما كانت له مواقفه المشهودة في سداد الرأي، والثبات على الحق، والتصدي لمحاولات التغول من أي طرف جاء.

لقد كان الأخ غسان أخا الدرب الطويل عاشرناه، وخبرناه، وعرفناه، فألفناه، وأنسنا إليه أخاً خلوقاً ومرشداً رشيداً، ومعينا على الحق ونوائب الدهر ..

وفِي محطة الوداع الأخيرة على طريق الرحلة الشاقة الطويل لا نملك إلا أن نقول

إنَّا لله وإنا إليه راجعون

حسبنا الله، ونعم الوكيل

رحم الله أخانا أبا عمار، وتقبله، وتقبل منه، وألحقه بالأحبة محمد وصحبه

اللهم اغفر لأخينا، وارحمه، وطهره من خطاياه كما يطهر الثوب الأبيض من الدنس

اللهم إنه قد وفد عليك بعد طول سرى، وصبر فيك، ومصابرة، فاجعل قراه منك اليوم الجنة

والعزاء الخالص لأسرة الفقيد أنجاله وبناته وأصهاره.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

٢٣/ ربيع الأول / ١٤٤١ه

ورثاه الشاعر الاستاذ محمد الخليلي، فقال:

إلى روح المربي الفاضل محمد غسان بنقسلي (أستاذ والدي):

يا موتُ إنَّا لا نهابُكَ إنَّما=نزدادُ إلفاً بالرِّباطِ تذمُّمَا

ما ماتَ من تركَ الغداةَ أشاوساً=أشبالَ عزٍ إنَّ فيهم ضيغما

هذا (البراءُ) نتاجُ بيتٍ بالهدى=قد صاغَهُ، وسَقَاهُ منهُ أنعُمَا

بيتٌ على التقوى تأَسَّسَ بِنيَةً=فأخوهُ الاخرُ في العرينِ تعلَّمَا

يا آل بنقسلي تسامواْ مَحْتِدَاً=فنِجَارُكُم في النَّاسِ أضحى مَعْلَمَا

ما ماتَ من قد كان يزرعُ عمرَهُ=في النَّاسِ حبَّاً للمكارمِ وانتِمَا

ما زالَ حياً- لم يمت- بنوالِهِ=(فمحمَّدٌ) كان الغداةَ معلِّما

رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.