ذكرياتي مع الشيخ المبجّل محمد سعيد الطنطاوي

(1343-1441هـ)

(1924-2019)

في يوم الثلاثاء الواقع في 25 محرم 1441هـ الموافق لـ 25\9\2019م، انتقل إلى رحمة الله ورضوانه عَلَم فذ من أعلام المسلمين، في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، وصلي عليه في اليوم التالي في المسجد الحرام، ودفن في مكة المكرمة التي أحبها وعشقها.

علمت بهذا الخبر المفجع في اليوم نفسه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي (وهذا من محاسن هذه الوسائل) فتأثرث كثيرًا به، وأخذت أراجع ذكرياتي معه خلال المدة التي عشتها في البلد الحرام، وقد كنت من أكثر الملازمين له، والمترددين عليه، والمستفيدين منه، والمتأثرين به، ورأيت أنه من الواجب الأدبي والخُلُقي أن أكتب عن جوانب من سيرة هذا الشيخ الألمعي الفذ الذي لم أرَ مثله.

أحب أن أبدأ ذكرياتي عن شيخي العظيم بقول حكيم الشعراء، أبي الطيب المتنبي: 

وأستكبرُ الأخباَر قبل لقائه=فلما التقينا صدّق الخبر الخُبْرُ

نعم لقد قرأت وسمعت عن أعلام وعلماء وقرأت لهم، وقد التقيت بكثير منهم في مكة المكرمة، في جامعة أم القرى وفي غيرها، وكنت أستشعر هيبتهم وعظمتهم من خلال كتبهم، ولكن هذا الشعور لم يلبث أن يفتر بعد التردد إليهم، إلا الشيخ سعيدًا رحمه الله تعالى فإني كلما ترددت عليه، أو تقربت منه، فإني أرى عجبًا، وأراه أكبر مما وُصف به.

في الشهر العاشر من العام 1975م وفدت إلى مكة المكرمة للالتحاق بجامعة أم القرى، مع إخوة أفاضل، وزملاء وأحباب، جمعتهم الدراسة الثانوية الشرعية في أزهر لبنان ببيروت، جئنا لنكمل دراستنا استجابة لمنحة كريمة من رابطة العام الإسلامي، قُدّمت لمفتي الجمهورية اللبنانية آنذاك، الشهيد حسن خالد –رحمه الله تعالى- وأقمنا في المبنى المخصص للرابطة في منى. وكان عمري آنذاك واحدًا وعشرين عامًا.

مجلسه في المسجد الحرام:

أول لقاء كان لي بالشيخ - رحمه الله تعالى- بين صلاتي المغرب والعشاء في المسجد الحرام، في مكان مواجه لحجر إسماعيل – عليه السلام- وكانت هذه عادة الشيخ، وكذلك عادة كثير من الشاميين يصلون في تلك الجهة. تعرفت على الشيخ مع زملائي، وانبهرت بشخصيته التي لم أعهد احدًا من المشايخ الذين عرفتهم في لبنان يتصف بها، أو بقريب منها.

وقع حب الشيخ في قلبي، فحرصت على حضور مجلسه في هذا الوقت في كل يوم تقريبًا أسأله، وأستفيد منه، وأسمع توجيهاته، وأتلقى من علومه وأفكاره، من خلال استفساراتي أو استفسارات الحاضرين، أو من خلال أسئلته للحاضرين يمتحن ذكاءهم، وعلمهم، وذاكرتهم، وشخصيتهم.

وفي أحد هذه المجالس مع زملائي اللبنانيين تلا علينا بيتًا من الشعر، وسأل يمتحننا: لمن هذا البيت؟ فلم نعرفه. ثم أنشد البيت الذي يليه، وسألنا: هل عرفتموه؟ فكان الجواب بالنفي، ثم مازال يلقي البيت تلو البيت يستنهض ذاكرتنا، ونحن نكرر عدم معرفتنا بالشاعر. ثم هوّن الجواب علينا، فقال: هو لشاعر لبناني معاصر، فمن هو؟ فلم نعرفه. فلما يئس من جوابنا قال: إنه الأخطل الصغير، فكيف تدّعون أنكم لبنانيون وطلاب علم ولا تعرفون هذا الشاعر العظيم؟ ولا تحفظون قصائده! ثم أخبرنا أن القصيدة مؤلفة من نحو 60 بيتًا، وأنه حفظها عندما كان في صف الكفاءة ( شهادة المرحلة المتوسطة) وأنه لم يراجعها منذ ذلك الوقت، وأنه تذكرها الآن لكوننا من لبنان، فتعجبنا من قوة ذاكرته.

كان مجلسه في المسجد الحرام يضم عددًا ( دون العشرة غالبًا) متنوعًا، من طلبة علم، ومن بعض الأساتذة، والمشايخ، من جنسيات متعددة، واختصاصات متنوعة، من المقيمين والزائرين والمعتمرين، يغتنمون فرصة وجودهم في الحرم المكي ليحظوا بهذه الجلسة المباركة النافعة.

وفي إحدى السنوات حضر الى الشيخ شخص سوري قادمًا من الولايات المتحدة، حيث يعمل فيها مديرًا في محطة إنتاج الكهرباء في إحدى الولايات، فتعرف على الشيخ، ثم تبادلا أطراف الحديث عن دمشق وأحوالها – ولم يكن معهم في هذا المجلس سواي- ثم سأله الشيخ عن عمله، وعن طريقة عمل المحطة، وأخذ الشيخ يناقشه ويستفسر منه، ويرد عليه في علوم الطاقة والكهرباء، وقد أُعجب هذا المهندس بمعرفة الشيخ بهذه الأمور العلمية الدقيقة، فقد كان يناقش وكأنه يمارس العمل في مثل هذه المحطة. أما أنا فلم أفهم كثيراً مما قالاه.

كان الشيخ مدة ُمقامه في منطقة العتيبية في مكة المكرمة (تبعد نحو 2 كم عن المسجد الحرام) يأتي ماشيًا إلى المسجد الحرام كل يوميًا قبل صلاة المغرب، فيطوف بالبيت، ثم يصلي المغرب، وركعتي السنة، ثم ست ركعات نافلة، ثم يجلس مستندًا إلى أحد الاعمدة مقابل حجر إسماعيل، فإن لم يجلس إليه أحد أمسك بالمصحف يراجع محفوظاته، وإن جلس إليه أحد -وهذا هو الأغلب- أعطى هذا الجليس أو الجلساء حقهم في الإفادة من هذا الوقت. ثم يصلي العشاء، ويصلي بعدها اثنتي عشرة ركعة، ثم يعود ماشيًا الى منزله.

ثم انتقل الى منطقة العزيزية ليكون قريبًا من مركز عمله في جامعة أم القرى، فسكن في مبنى استأجرته الجامعة للأساتذة. ثم بعد ذلك بسنوات ترك العمل بالجامعة فانتقل إلى حي آخر قرب الجامعة فكان يصلي في مسجد فقيه، وقلّ نزوله الى الحرم المكي.

كان حريصًا جدًا على شهود صلاة الجماعة، ويأخذ ضيوفه معه إلى المسجد، وإذا لم تجده وقت الصلاة في المسجد فهذا يعني أنه ليس في المنزل.

مجلسه في بيته:

منزل الشيخ رحمه الله تعالى منزل متواضع، لا ترى فيه مظاهر الحياة الحديثة من الأثاث الفاخر والأدوات الكهربائية، فغرفة الاستقبال مفروشة بالموكيت، وعلى أطرافها مرتبات إسفنجية رقيقة ليجلس عليها الزوار والضيوف.

وكان حَسَن الضيافة، كثير الكرم، يكرم زائريه بطعام الفطور أو طعام العشاء. إذا كان مجيئهم وقت الطعام، يحضر لهم الطعام بنفسه.

كان بيته مقصدًا للعلماء والأفاضل الذين يأتون إلى مكة، ولقد تعرفت في بيته على ثله من كبار الأعلام، أذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ عبدالفتاح أبوغدة، فقد التقيت به أكثر من مرة في منزل الشيخ، وكذلك تعرفت على الأستاذ سعيد حوى- فقد زار مكة المكرمة بعد خروجه من السجن- والأستاذ سعيد الأفغاني، وكان إذاك يشكو من مرض في ساقه، فقال له الشيخ سعيد ممازحًا: هذا يعني أنك أصبحت من الملوك.( لأن هذا الداء يسمى بداء الملوك) كما تعرفت على الدكتور محمد عجاج الخطيب، ود. محمد حسن هيتو ، ود. محمد منير الغضبان، ود. أحمد الكبيسي، والدكتور المجاهد الشهيد عبد الله عزام وغيرهم.

ولا بأس أن أروي شيئًا عن بعض هذه اللقاءات.

فبعد مغرب يوم السبت في 27\5\1408هـ، حضر إلى منزل الشيخ الدكتور عبد الله عزام، فلم يجده بالبيت فانتظر قليلًا مع رفاقه أمام الباب، ثم أتى الشيخ وكنت معه في صلاة المغرب ودخلنا جميعًا.

رحب الشيخ رحمه الله تعالى بضيوفه كعادته، وقدم لهم واجب الضيافة، ثم تكلًم الشيخ عزام عن الجهاد في أفغانستان، وحثّ الشيخ سعيدًا، واستنفره للذهاب معه إلى بلاد الأفغان، والمكوث مع المجاهدين هناك، فإنهم بحاجة إلى أمثاله من الصالحين ودعواتهم.

لم يبد الشيخ اعتراضًا او رفضًا أو اعتذارًا، بل وافق، وقال: إني موافق أن أبقى طول عمري مع المجاهدين هناك، وأرى أن يكون ذلك عن طريق الجامعة (جامعة أم القرى). وطلب من الدكتور عزام أن يكلم مدير الجامعة د. راشد الراجح - وكان محبًا للشيخ – لانتداب الشيخ سعيد إلى الجامعة الإسلامية في باكستان وقال له : إن الأمر سهل، وإن المدير سيوافق، فإن لم يوافق، فعن طريق رئيس الجامعة د. عبدالله نصيف، وقال له : إني لا أعرف شيئًا عن الدنيا، من التأشيرة وتذاكر السفر ومعاملاته.. الخ، فتكفل الدكتور عزام بذلك 

ولم أدر ما حدث بعد ذلك.

وفي يوم الثلاثاء 14\5\1408هـ ، حضر إلى بيت الشيخ سعيد الدكتور محمد حسن هيتو ومجموعة من طلابه في جامعة الكويت ، وكان الشيخ قد اتفق مع د. هيتو أن يغديهم في مكان قرب عرفات لأن بيته لا يسع الجميع. 

صعدنا جميعًا إلى عرفات، وأحضرنا معنا كوسا وبصلاً وبيضًا، ولما أراد أن يطبخ تذكر أنه نسي الزيت في البيت، فنزلت معه في سيارتي لإحضاره، وفي فترة غيابنا تسلق د. هيتو مع بعض الطلاب إحدى التلال. ثم عدت مع الشيخ.

فأدركناهم في الركعة الأولى من صلاة المغرب، وأتممنا صنع الطعام. وكانت السفرة مكونة من بيض مع كوسا وبصل، وجبنة بيضاء، وحلاوة، وزيتون، ولبنة، وبرتقال، وموز، وتفاح، فأكل الجميع، وكنا 22 شخصًا، وسرّ الجميع بهذا الطعام اللذيذ من يدي الشيخ.

وكان مع د. هيتو ابن، له من العمر خمس سنوات، يحفظ 300 بيت من الشعر، وله أخت أكبر منه تحفظ 3000 بيت وأجزاء عدة من القرآن الكريم، فأبدى الشيخ إعجابه بذلك وقال: إنه لما زار باكستان مع بعض العلماء، وزاروا كلية الشريعة هناك، أحضروا لهم بنتًا عمرها ثماني سنوات، فقرأت عليهم عشرًا من آيات الذكر الحكيم غيبًا، وأحسنت تلاوة وأداء وتجويدًا وحفظًا. فقال الشيخ سعيد للعميد هذا شيء جميل، فالبنت تحفظ الآيات الني قرأتها حفظًا جيدًا.

فتملل العميد وانزعج قليلًا، ثم قال: إنها تحفظ جميع القرآن الكريم.

فظن الشيخ سعيد أن في الامر مبالغة، أو أن حفظها لجميع القرآن ليس جيدًا، فاختبرها فسألها من سورة النساء، وسورة المائدة، وسورة التوبة، والرعد، والحجر، والانبياء والعنكبوت.. الخ، فأجابت في الكل بلا تردد، ولا تلكؤ، ولا تلعثم. فتعجب من هذا الحفظ ومن هذه العناية بالتلاوة والأداء عند الأعاجم.

ثم حان وقت صلاة العشاء فقدم د. هيتو الشيخ سعيدًا ليؤمنا، فاعتذر الشيخ على عادته، فصلى بنا الدكتور، فقرأ من سورة الإسراء من عند قوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم..)

ثم تكلم الشيخ بعد الصلاة، وتحدث عن أهمية العلم وطلبه، وأنه ينبغي للمسلم أن يلم بثقافة عامة لكل العلوم، وأنه يتخصص في فرع من فروعه، فقال: ينبغي أن تعرف من كل شيء شيئًا، وأن تعرف كل شيء عن شيء. ويجب أن يوطد المسلم نفسه أن يختص في فن من الفنون ويتقنه إلى الغاية حتى ينبغ فيه، ويصير مرجعًا فيه لامته.

ثم أنشد الشيخ عددًا من القصائد الشعرية الجميلة، ثم أنشد بعض الطلبة شيئًا من الأناشيد الإسلامية.

واستمرت تلك الأمسية اللطيفة في جو أقرب على البرودة منه إلى الاعتدال، إلى ما بعد الساعة 11 ليلًا.

وبعدها بنحو خمسة أشهر في 16\10\1408هـ حضر مجموعة من الشباب الكويتي (طلاب وموظفون) فدعاهم الشيخ إلى العشاء في المكان السابق قرب عرفات، وكان عددهم 38 شخصًا. 

وصلنا إلى المكان قبيل المغرب، فقدمني الشيخ فصليت بهم المغرب، فقرأت سورتي الضحى والشرح، ثم العشاء فقرات من سورة إبراهيم من قوله تعالى (ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة..) 

ثم تعشينا الجبن والزيتون، والحلاوة، ثم الشاي، والفاكهة.

ثم جلس الشيخ وتحلقنا حوله وأخذ يجيب عن أسئلة الحاضرين المتنوعة، وبقينا إلى ما بعد الساعة 10 ليلًا.

أتذكر من بعض أجوبته: ان المسلم ينبغي أن يطلب العلم حتى لا يتلاعب به الشيطان، فإنه لا يستطيع أن يضل العلماء، وضرب مثلًا لذلك قصة الولي الصالح عبد القادر الجيلاني مع إبليس حين قال له: أبحتُ لك ما حرمت على الناس...

ثم ذكر أيضًا أن الشيطان يزين البدع للناس، فلما نزل قوله تعالى: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا) صاح إبليس صيحة عظيمة، فاجتمع إليه الشياطين من كل حدب وصوب، وقالوا: ما هذه الصيحة؟ فقال: إنه نزلت هذه الآية. ومعنى ذلك أن أعمال الشياطين ووسوساتهم ستذهب هباءً باستغفار العبد. ثم قال إبليس اللعين: هل ترون من حلٍ لهذا الأمر؟ فقالوا: لا.

فقال لهم: لا تيأسوا، واذهبوا والتمسوا ما يعيننا على إبطال عمل المؤمن، فإني سألتمس، فذهبوا.

ثم بعد مدة صاح صيحة أخرى، فاتوا إليه فقالوا: ما هذه الصيحة؟ إنا لم نسمع مثلها إلا التي قبلها.

فقال لهم: هل وجدتم شيئًا؟ فقالوا: لا.

فقال: فإني وجدت. فقالوا: وماذا وجدت؟ فقال: أزين لهم البدع.

لذا فالإنسان الذي يتبع البدع، ويعتقدها دينًا فإنه لا يستغفر. وبذلك ضمن الشيطان عدم إحباط عمله وجهده.

هذه نماذج لبعض اللقاءات مع الشيخ، وكثيرًا ما رأيت عنده أساتذة يسألونه في الفيزياء والرياضيات، والجغرافية ويحل لهم استشكالاتهم، ويتعلمون منه.

وشهدت في منزله في العتيبية موقفاً أثار دهشتي، فقد جاء إليه موظف من قسم المحاسبة في رابطة العالم الإسلامي – سوري- ليسلم إليه شيكًا محولًا على أحد البنوك، لقاء مقالة كتبها عن الشهيد عزالدين القسام، في عدد لمجلة الرابطة خصته بالشهيد، واستكتبت لذلك عددًا من الاعلام في العالم الإسلامي. فما كان من الشيخ إلا أن ثار في وجه هذا الموظف، منكرًا عليه أن تدفع الرابطة مكافأة لمن شارك في التعريف بالقسام وبجهاده، فهذه الكتابة واجب شرعي لا ينبغي أخذ البدل عنه، وأنكر أيضًا أن تصرف الرابطة هذه المكافأة عن طريق بنك ربوي، ففيه توجيه للعلماء أن يعتادوا الذهاب إلى البنوك، وإذا رآهم العوام – وهم لا يعرفون سبب دخولهم- يظنون أن هؤلاء العلماء يبيحون فوائد البنوك. فعاد الموظف أدراجه خائبًا ومعه شيك ودفتر التوقيع بالتسليم. فقد كان – رحمه الله تعالى- شديد اللهجة على من يستسهلون أمر التعامل مع البنوك.

في مكتبته العامرة:

كان – رحمه الله تعالى- يحب طلبة العلم المجدين، يشجعهم ويحثهم ويكرمهم، ويحبب إليهم الاستزادة منه، وقد يساعدهم ماديًّا من غير أن يحرجهم أو يجرح كرامتهم.

فبعد انتهائي من مناقشة الدكتوراة عام 1407هـ، انقطعت عني المنحة الجامعية، وكنت مضطرًا للبقاء في مكة المكرمة بسبب الحرب الأهلية التي وقعت في لبنان- وكنت متزوجًا- وضاقت بي الحال، وعلم الشيخ بالأمر. 

ففي إحدى زياراتي المتكررة والمتتابعة له عرض عليّ ان أقوم بفهرست مكتبته على بطاقات، وأن يعوضني عن كل ساعة عمل، كما تفعل الجامعة عندما تستعين بالطلاب للعمل في المكتبة أو في المراكز العلمية لديها. ووافقت على ذلك، فكنت آتيه بعد شروق الشمس وأدخل مكتبته وأعمل فيها، ويذهب هو إلى عمله في الجامعة، ويقفل باب الشقة إلى أن يعود قبيل الظهر. واستغرق فهرستها عدة أشهر. فكان نعم المعين لي.

وكانت هذه المكتبة الضخمة تضم أمهات الكتب في الفقه بمذاهبه، والتفسير والحديث والتاريخ، والتراجم المتنوعة بحسب القرون أو البلدان أو العلوم، أو العامة، والمجلات (المجتمع، المسلمون وغيرها)

ومن طريف ما وجدت في أثناء ذلك على بعض الكتب، أن الأستاذ عبد العزيز الرفاعي أهدى كتيبه الصغير (ام عُمارة الصحابية الباسلة) إلى الشيخ فكتب في الإهداء:

إلى صاحب الفضل الكبير في مراجعة هذا الكتيب، وتدقيقه، فضيلة العلامة الجليل الشيخ محمد سعيد الطنطاوي – حفظه الله تعالى- في 15\1\1392هـ. وتحته نظم:

بُشّرتُ بالخير بشرى=تفوق كلّ بشارة

تسرني وهي منكم=فيها القبول أمارة

لاهُمّ فاقبل ويَسّرْ=واجعل رضاك التجارة

واجعل "سعيدًا" سعيدًا=وجنةَ الخلد دارَهْ

واعمُرْ به العلمَ (دنيا)=واعمُرْ (هناك) العمارة

وامدد له العمر مدًا=مع التقى والنضارة

فكتب إليه الشيخ ناظمًا:

عُمّرتَ عمرًا طويلًا=كعُمر أم عُمارة 

وعُمر حسان أيضاً=وفوق ذاك بشارة

بنيل ما تتمنى=فيه وما تختاره

وأهدى إليه أيضًا كتاب الفوائد لابن القيم فقال:

إلى الحصيفِ سعيدٍ=أُهدي كتاب الفوائدْ

قِلادةً من علومٍ=تُهدى لرب القلائدْ

عبد العزيز الرفاعي 20\12\1378هـ

فأجابه الشيخ رحمه الله تعالى:

أهديتنيه كتابًا=يُفيد أسمى الفوائدْ

يزيد فضلُكَ عندي=وأنت في الفضل رائدْ

فألف شكرٍ وحبي=لك على المدى "واجد"

عملي مع الشيخ:

كان لمركز البحث العلمي التابع لجامعة أم القرى نشاط كبير في إصدار كثير من أمهات كتب التراث الإسلامي، يشارك في هذه الأنشطة أعلام متفرغون يعملون في المركز، وأساتذة أعلام يحققون أو يؤلفون وهم في بلدانهم ثم يتبنى المركز إنجازاتهم وطبعا ونشرها.

وكان من ضمن المشروعات التي أراد المركز القيام بها، موسوعة أعلام مكة المكرمة من عصر النبوة إلى عصرنا. وتم تكليف الشيخ سعيد للقيام بهذه المهمة، وتُرك له أن يختار من يعاونه من أساتذة المركز ومن الطلاب. وكان لي الشرف أن يختارني الشيخ للعمل معه، واختار أيضًا الدكتور محمد منير الغضبان، وعملنا بهذا المشروع نحو السنة، وأسسنا مكتبة فيها المؤلفات في تاريخ مكة وتراجم أهلها. وبدأنا بقراءة هذه الكتب واستخراج ما يتعلق بمشروعنا وكتابته على البطاقات، ولكن هذا المشروع العظيم لم يتم، ولم أدرِ ما السبب؟ وقد سافرت بعد ذلك للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة.

استفادتي من الشيخ سلوكيًا:

كانت إفادتي من الشيخ خلال مقامي بمكة المكرمة لمدة 14 عامًا كبيرة، وكانت لقاءاتي معه زاخرة بالفوائد المتنوعة، وقد اقتبست من سلوكه، كما اقتبست من علومه، لذا فإن للشيخ – رحمه الله تعالى- فضلًا كبيرًا عليّ لا أستطيع أن أقوم بوفائه، وإن أثره فيّ لا يزال إلى يومنا هذا.

إن قوة شخصية الشيخ لابد أن تؤثر فيمن يجلس إليه، فكيف بمن يتردد إليه ويلازمه!

فمن خلال لقاءاتي به صححت كثيرًا من سلوكي، في أخلاقي مع الناس، وفي عبادتي لله تعالى، وفي طريقة تفكيري، تقمصت كثيرًا من شخصيته، بلا شعور مني، فمن ذلك: أنه كان يحث الطلاب الذين يجالسونه على الالتزام بمذهب واحد، وعدم التنقل بين الآراء المختلفة اتباعًا للأسهل، ويذم ذلك ذمًا شديدًا، وكثيرًا ما يستشهد بشعر أبي البركات التكريني (ت599هـ) في وصف أحد الفقهاء الذي كان يتنقل بين المذاهب لنيل منصب دنيوي:

ألا مُبْلغًا عني الوجيهَ رسالةً=وإن كان لا تُجدي لديه الرسائلُ

تمذهبتَ للنعمان بعد ابن حنبلٍ=وذلك لما أعوزتك المآكلُ

وما اخترتَ رأيَ الشافعي ديانةً=ولكنما تهوى الذي هو حاصلُ

وعما قليلٍ أنت لاشك صائرٌ=إلى (مالكٍ) فافطن لما أنا قائل

يورّي بمالك خازن جهنم والعياذ بالله.

(ثم وجدت هذه الأبيات في البداية والنهاية لابن كثير في وفيات سنة 599هـ. وفي ترجمة الوجيه الواسطى في سير أعلام النبلاء 22\88)

وهذا ما دفعني إلى الالتزام بمذهبي الحنفي، وعدم الخروج عنه إلا لضرورة أو حاجة ماسة، فلم أعد أدخل إلى مكة المكرمة متجاوزًا الميقات إلا باحرام، ولم أجمع بين الصلاتين في السفر، ولا أعانق القادم من سفر، ونحوها من المسائل.

وقد شهدت عنده شابًا حنفيًا ذكر أنه دخل مكة ثمانية مرات قادمًا من المدينة المنورة بلا إحرام، فما زال يعظه، ويبين له حرمة مكة، وعدم التساهل في التنقل بين المذاهب، حتى اقتنع الشاب فذبح ثمانية خراف جزاء لذلك. ثم لما علم الشيخ بذلك أعانه بنصف ثمنها.

ولعظيم فضله علي أهديت له كتابي: جهود المرأة في رواية الحديث في القرن الثامن الهجري، وهذا نص الإهداء:

(إلى بقية السلف الصالح، علمًا، وهديًا، ودلًا، وخُلُقًا، ومعاملة. إلى الشيخ الذي يصدع بالحق بلا مواربة. 

إلى من وجدت عنده من العلم، والبصيرة، والتفكير المستنير، ما لم أجده عند غيره، وانتفعت به ما لم انتفع بسواه.

إلى العالم الرباني، والمربي الفاضل، والعامل الصادق.

إلى من كان خير عون وناصح، وأفضل دليل مرشد، في زمن قلّت فيه الأعوان، وعُدم الناصح الصدوق، وندر فيه الدليل المستبصر.

إلى فضيلة الشيخ محمد سعيد الطنطاوي، اعترافًا بفضله، وشكرًا على بذله، وتقديرًا لجهده، أهدي هذا البحث المتواضع)

استفادتي العلمية منه:

أما استفادتي الثقافية والعلمية من الشيخ- رحمه الله تعالى- فحدث ولا حرج، وبالرغم من أن الشيخ لا يسمح بالقراءة عليه إلا أن من يجالسه يجني فوائد كثيرة، من خلال إجاباته عن أسئلة الحاضرين، او تعليقه على بعض ما يثار، أو من خلال توجيهه، أو امتحانه لأذهان الحاضرين.

فمن خلال لقاءاتي بالشيخ واستماعي لما يقول حُبب إليّ قراءة كتب التاريخ والتراجم، والموسوعات الأدبية، واهتممت بحفظ تاريخ وفيات الأعلام، وتجرأت على قراءة الكتب الموسوعية، وانكسر عندي حاجز الرهبة الذي يحول بين الطلبة وبين قراءة الكتب متعددة الأجزاء.

وبعد إنجازي لرسالة الماجستير(وكان عنوانها : بدر الدين العيني وأثره في علم الحديث) أهديته نسخة منها، وبعد مدة وجيزة أخذ يناقشني في بعض ما ورد فيها، وما ينبغي أن يضاف إليها، فشكرته على ذلك.

وعندما كلفني بترتيب وترقيم مكتبته، نقلت كل ملاحظاته واستدراكاته التي كتبها على النسخة.

ثم تشاورت معه لاختيار موضوع لرسالة الدكتوراة، وبعد محاورات ومشاورات وقع الاختيار بتوجيهه- رحمه الله تعالى- على أن يكون عنوان الرسالة: علم الحديث في مكة المكرمة في العصر المملوكي.(خدمة للبلد الذي أقمت فيه)

وفي أثناء تحضيري للرسالة، كنت كثيرًا ما ألجأ إليه عندما يشكل عليّ امر يتعلق بتاريخ مكة وأسماء أمرائها، وعادات أهلها، فكنت أحضّر السؤال بشكل متقن وجيد، فأجد عنده الإجابة الشافية الوافية، وكنت أشعر كأنه كان يحضر الأجوبة قبل مجيئي!

لقد كان يحفظ أسماء أمراء مكة وتواريخ وفياتهم، من أول الإسلام إلى أيام الدولة السعودية، ويعرف أخبار كل ذلك، وهذا ما كان يدهشني ويبهرني، لأن تلك الفترة (العصر المملوكي في مكة المكرمة) شبه مجهولة عند الباحثين، فكنت أجد عنده من العلم وكانه متخصص في ذلك العصر فقط.

شخصيته ومناقبه:

كان- رحمه الله تعالى- عالمًا ذكيًا ألمعيًا عبقريًا، أعجوبة في الحفظ وفي حضور الذهن، قلَّ أن ترى العيون مثله.

كان زاهدًا، ورعًا، عازفًا عن الدنيا وزخرفها، كثير الصدقة، صادعًا بالحق، لا يخشى في ذلك إلا الله، كما كان صاحب دعابة. فمن ذلك كان يسأل الشخص: هل سمتك أمك أم أبوك؟ فيجيب المسوؤل: أمي وأبي (مثلًا). فيقول له: إنهم مجرمون، ثم يدرك المسؤول بعد ذك أنها دعابة (لأن من يسمم الآخر مجرم). كان واسع الاطلاع في كثير من العلوم الشرعية والأدبية واللغوية وعلم الفيزياء والكيمياء، والفلك والرياضيات والجغرافية.

حافظًا للتاريخ الإسلامي في جميع مراحله، في جميع بقاع العالم الإسلامي.

عارفًا بالأنساب، والشعر وكثيرًا ما يتمثل به.

كان عميق الفكر، ينكر أشد النكير على من يعتمدون على الظاهر، وسأذكر مثالًا لذلك طريفًا:

روى لي أحد معارف الشيخ، أن الشيخ سعيدًا كان يسكن أول قدومه إلى مكة المكرمة، في منزل أخيه علي، في حي أجياد، قرب المسجد الحرام.

وكان منزل الشيخ علي كثيراً ما يتردد إليه العلماء وطلبة العلم، ويكون منزله صالونًا ثقافيًا، يضم مشارب متنوعة من جنسيات متعددة.

ودار النقاش في أحد المجالس في موضوع الأخذ بالظاهر، وهل المكلف مخاطب بالظاهر أم بالباطن، وطال النقاش والجدال، والشيخ سعيد مستمع لا يتكلم. فقال الشيخ علي لأخيه: قم يا سعيد وضع إبريق الشاي على الغاز

قام سعيد ثم عاد وجلس

وبعد نصف ساعة قال الشيخ علي: أين الشاي يا سعيد؟ فقال له: أنا وضعت الإبريق على الغازكما قلت، لكنك لم تقل عبئه بالماء، وضع الشاي والسكر، ولم تقل أشعل الغاز، ولم تقل ضع الشاي بعد غليه في الأكواب، فأنا عملت بظاهر قولك، وغير مكلف بأكثر من ذلك.

فكان هذا أبلغ رد على من نصر القول بالأخذ بالظاهر فقط.

أقوال يستشهد بها ويكررها:

هناك بعض الجمل، والعبارات وأبيات من الشعر سمعت الشيخ يستشهد بها أكثر من مرة، في خلال مواعظه وتوجيهاته، وتعليقاته فمنها:

1- اسلك سبيل الهدى ولا يضرك قلة السالكين، واترك سبل الضلاله ولا يغرنك كثرة الهالكين.

2- قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: إذا مرّ عليّ يوم لم أزدد فيه بعلم يقربني إلى الله، فلا بورك لي بطلوع شمس ذلك اليوم.

3- وكثيرًا ما يتمثل بقصيدة القاضي الجرجاني في العلم ومنها:

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما=رأوا رجلًا عن موقفِ الذل أحجما

إذا قيل هذا موردٌ قلت قد أرى==ولكن نفس الحر تحتمل الظَمَا

ولم ابتذل في خدمةِ العلم مهجتي=لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم=ولوعظموه في النفوس لعظما.... الخ

4- وكثيرًا ما كان يستشهد بأبيات من لامية الطُغرائي المليئة بالحكم، ويحث على حفظها والاطلاع عليها، حتى دفعني ذلك إلى حفظها، وإلى اقتناء شرحها، وهو بعنوان: الغيث المُسْجَم في شرح لامية العجم لصلاح الدين الصفدي، في مجلدين، وهو شرح موسوعي لأديب موسوعي، فمما كان يكثر الاستشهاد به منها:

أصالة الرأي صانتني عن الخَطَلَ=وحِليةُ الفضل زانتني لدى العَطَلِ

مجدي أخيرًا ومجدي أولًا شَرَعُ=والشمسُ رَأْدَ الضحى كالشمسِ في الطَفَلَ

هذا جزاء امرئ أقرانُه درجوا=من قبله فتمنى فُسحة الأَجلِ

غالى بنفسيَ عرفاني بقيمتها=فصُنتها عن رخيصِ القَدرِ مُبتَذلِ

ترجو البقاءَ بدارٍ لاثبات لها=فهل سمعتَ بظلٍ غير منتقلِ

فيم اقتحامُك لُجَّ البحر تركبهُ=وأنت يكفيك منه مَصّةُ الوشَلِ

قد رشحوك لأمر إن فطنت له=فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

ويفيض في شرح الابيات، مع توجيه تربوي يبهر السامع ويجذبه، ويشده إلى الاطلاع على القصيدة وشرحها (وهي مؤلفة من 58 بيتًا).

لقاء بعد انقطاع:

غادرت مكة البلد الحرام بعد إقامة دامت 14 سنة، في الشهر العاشر من عام 1989، وذلك للعمل في كلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي، ومكثت فيها 14 سنة أيضًا، وانقطعت أخبار الشيخ عني إلا لمامًا.

ثم عدت إلى بلدي لبنان وتعاقدت مع جامعة بيروت الإسلامية في الشهر العاشر من عام 2003,

وفي عام 2005 عزمت على أداء شعيرة الحج، وهناك اتصلت بزميلي د. عبد الله نذير ليأخذني إلى منزل الشيخ.

فأدركنا الشيخ بعد الشروق متجهًأ إلى منزله في حي العزيزية، فأعدنا التعارف، وسررت كثيرًا بهذا اللقاء الذي ردّ اليّ روحي، ووقفنا على بوابة المنزل، وامتحنني الشيخ – على عادته- قائلًا: من هو العالم الذي وُلد سنة 701هـ؟

فتفاجأت بهذا السؤال، لأن العادة أن يُسأل عن تاريخ الوفاة لا الولادة، فأخذت أعمل فكري في أعلام القرن الثامن الهجري وتواريخ وفياتهم – وهم كثر- ومن يمكن أت تكون ولادته بهذا التاريخ. ثم رجحت بينهم في فكري، وقلت: ابن كثير. فقال: صح، انت صالح حقًا. ثم دخلنا بيته وتناولنا طعام الفطور وتجاذبنا أطراف الحديث في الكتب والعلماء.. الخ

ثم في شباط عام 2014 أديت مناسك العمرة، واتصلت بالأخ عبدالله نذير ليأخذني إلى منزل الشيخ،- وكان الشيخ قد غير منزله واعتراه المرض- فذهبنا إليه بعد العصر، فوجدت شيخًا قد ضعف بصره جدًا، وشاب يمسك به لينتقل في منزله، فأشفقت عليه، ورحمته، وعرّفته بنفسي فلم يتذكرني، وأخذنا نتحدث ويشارك هو في الحديث، وعند مغادرة المجلس تذكرني، وقال لي: انت الذي فهرست لي مكتبتي ورتبتها؟ فقلت: نعم. فأخذ يشكرني.. ثم ودعناه وانصرفنا. وكان هذا آخر العهد به.

رحم الله الشيخ سعيدًا، وجزاه عني خير ما جازى شيخًا عن تلميذه، وأرجو أن يجمعني الله تعالى به في الجنة مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. 

هذا ما جاد به القلم وسنح به الفكر، وهو غيض من فيض، ولكن الذاكرة لم تعد تسعف الآن بأكثر من ذلك، وأرجو أن أكون قد سددت ثغرة يسيرة في ترجمة هذا العلم المبجل.