عناية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بكتب التربية رسالة المسترشدين نموذجاً (6)

10 ـ رسالة المسترشدين: 

وهي مدار بحثنا في هذه الرسالة

تعد رسالة المسترشدين، للإمام أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري في التربية والسلوك، وجل ما كتب المحاسبي في التربية والأخلاق والسلوك، من الكتب والرسائل المتقدمة والسابقة في هذا العلم، (علم التصوف السلوكي ـ السني ـ)، بل يمكننا اعتبارها من الرسائل المؤسسة له، ذلك أن مؤلفها الإمام المحاسبي هذا الإمام الزاهد الواعظ الفقيه المحدث المتكلم الناصح الأمين الداعي إلى الله بقلبه وقالبه ولسانه وقلمه المتوفى، سنة :243هـ، كان من علماء القرن الثالث الهجري، ومن الرعيل الأول الذين بدؤوا التدوين والتأصيل لهذا العلم، فالف الكتب والرسائل ـ ومنها هذه الرسالة ـ في فضائل الاعمال وتزكيتها، وفي إصلاح النفس وتنقيتها ترغيبا وترهيبا، ترشد التائهين وتردهم الى الجادة إذا ضلوا الطريق، (وأودعها غالي النصح، وأطيب الارشاد، وأوفى الموعظة، وأجلى التنبيه والايقاظ، وأخلص القول والبيان والتوجيه، في جمل مكنوزة بالعلم، تفهم سريعاً وتقرأ سريعاً، ولكن لا يستفيد منها قارئها تمام الفائدة، الا إذا قرأها في أناة وتدبر تام، جملة جملة، كالذي يكرر الشيء ليحفظه ويستظهره ويتدبره)(1). 

وهي رسالة حاوية جامعة وافية بإرشاد السالك للخير والباحث عنه، وموضوعها يندرج في التربية والتزكية والتذكير والوعظ والتبصر في حال العبد مع الله وحاله مع العباد، ثمّ مع نفسه في تخليها عن كل الرذائل، وتحليها بكل الكمالات. وتشتمل على جملة إرشادات ونصائح تتعلق بتربية النفوس وتهذيب للطباع، وأخذها بالالتزام بمبادئ الشرع الحنيف المستمدة من الكتاب والسنة، وما كان عليه الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، يقدمها المؤلف بلغة يسيرة سهلة بعيدة عن التكلف والتعقيد، وهذا ما يمكن ـن نطلق عليه (التصوف السلوكي أو السني) 

وقد سلك المؤلف في بعضها مسلك الاطناب والاسهاب، حتى لا يدع زيادة لمستفيد، وسلك في بعضها مسلك الجزالة والايجاز، مكتفياً بقصير الكلام عن طويله، وبقليله عن كثيره، اعتماداً منه على توجه نفس المسترشد المستهدي المتلهف، (فقد أوتي فصاحة لسان وبراعة بيان ونصاعة جنان حتى إذا حدثك عن الشيء جعلك كأنك تراه راي العين، وتحس به إحساس المباشر له، ولا ينفصم عنك حديثه، إلا وقد اقنعك بالحجة والبسك اليقين بما يقول، تشهده فيما يكتب مستوفيا الخطرات والخلجات، وقائما بالنذارة قيام صدق ويقين ومشاهدة وكثيراً، ما أبكاك فيما ناجاك، يتبدى لك إشفاقه عليك من النار وأهوالها فيما يوليك من نصح، ويخلصك من موعظة، وربما يطيل لك النفس في الاقناع، بما يدعوك الى فعله أو تركه إطالة الأب الرحيم، الخائف الوجل على ولده من شديد العذاب)(2) 

(أما بيان أبي عبد الله فهو من الطراز الأول، فصاحة وسلاسة وجمال أداء وحسن واستيفاء، له قلم سيال، وبيان أخاذ، ولغة ناضرة في الذروة من الفصاحة والاشراق، وله جمل وقطع من الكلام ما يشبع من تردادها وسماعها، لما حوت من دقة التصوير، وجزالة اللفظ، وأخذ القلب بمعناها، والسمع بمبناها، إن أطال لم يقل فضلا، وإن أوجز أصاب ولم يقصر) (3).)

وقد أعجب الشيخ بالرسالة ومؤلفها، فألزم تنفسه بتحقيقها، وتقديمها لإخوانه وأبنائه من طلبة العلم، لتكون لهم هادياً ومرشداً في طريقهم وسلوكهم إلى الله.

موضوع الرسالة: 

رأينا فيما سبق أنّ الرسالة رسالة توجيه وإرشاد للسالكين طريق الهداية، وهي في مجملها تدور في محور التصوف وقبل الخوض في الحديث عن جهود الشيخ في تحقيق الرسالة، والعناية بها، لا بد لنا من وقفة وجيزة على معنى التصوف وتاريخه وبيان منهج (التصوف السلوكي، السني) الذي ألزم الإمام المحاسبي نفسه فيه وسار في نهجه ودعا إليه

فما التصوف؟ وما معناه؟ وماهي مذاهبه ومدارسه والمراحل التي مرّ بها في الثقافة الإسلامية؟

أما معناه في اللغة فقد ذكرت المعاجم العربية أكثر من معنى له، فمنهم من يرد الكلمة إلى الصفاء، ومنهم من يردها الى الصوفة، ومنهم من يرى أنها نسبة إلى أهل الصفة، أو إلى صوفيا (اليونانية)، وإن كان أكثرهم يرد الكلمة الى الصوف المعروف، وينسبون من يلبس الصوف زهداً وتقشفا إلى الصوفية، واشتقت كلمة التصوف من فعل صوّف جعله صوفيا، وتصوّف صار صوفيا، أي تخلق بأخلاق الصوفية، والصوفية فئة من المسلمين المتعبدين، واحدهم الصوفي.

واختلف العلماء المسلمون في تعريف التصوف الاصطلاحي، فعرفه بعضهم بأنه: (علم يعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية)(4) وقال بعضهم: (التصوف استعمال كل خلق سنيّ وترك كل خلق دني)

ويذكر العلامة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية في تقريظة للطبعة الأولى لهذه الرسالة، عدداً من التعريفات الجميلة الماتعة المفيدة للتصوف نختار منها قوله: ( والتصوف الإسلامي تربية علمية، وعملية للنفوس وعلاج لأمرض القلوب وغرس للفضائل واقتلاع للرذائل وقمع للشهوات وتدريب على الصبر والرضا والطاعات، وهو معرفة لله ويقين، وتوحيد لله وتمجيد، وتوجه إلى الله واقبال عليه، وإعراض عما سواه، وعكوف على عبادته وطاعته، ووقوف عند حدوده، وتعبد بشريعته، وتعرض لنفحاته وهباته، التي يخص بها أولياءه وأحبابه فضلاً منه وكرماً)، ثمّ يخلص إلى القول: (فالتصوف كما ترى لبّ الشريعة، وروحها وثمرتها وحكمتها، وقد قال سيد الطائفة الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدى به بهذا الأمر والطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم)

وقد مرّ التصوف بمراحل متعددة منها:

أولاً: مرحلة الزهد. 

والزهد خلق دعا إليه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾، كما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، دلّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبّني الناس ، فقال : ( ازهد في الدنيا يحبّك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس )(5) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أزهد الناس بل هو القدوة المثلى في الزهد، ثم اشتهر بالزهد عدد من أصحابه منهم الخلفاء الراشدون وأهل الصفة وأبو ذر الغفاري وغيرهم، وزهد النبي وأصحابه والتابعين لهم بإحسان يتجلى في الزهد في الدنيا والابتعاد عن ملذاتها رغم حصولها عندهم في كثير من الأوقات من جهة والاقبال على العبادات والطاعات منطلقين من حبهم لله سبحانه وتعالى ورجائهم لما عنده 

ثانياً: مرحلة التصوف السني:

والتصوف السني ظهر في القرن الثاني الهجري وأكثر من مارسه ودعا إليه وعرف به كانوا من العلماء الفقهاء أو المحدثين الذين كانوا يقفون عند حدود الشرع ويلتزمون بالقرآن الكريم والسنة المطهرة منهاجا في عباداتهم وآدابهم واخلاقهم وسلوكهم مع حرصهم الشديد على مراقبه أعمالهم الظاهرة والباطنة وزهدهم في الدنيا وتزكية أنفسهم مع الصدق والإخلاص مبتعدين عن الشطحات المرفوضة والتفسيرات الفلسفية للإيمان بالله وصفاته متمثلين طريق الشرع الرباني وسائرين على نهج الهدي النبوي الذي تلقوه من شيوخهم العلماء المحدثين 

ويعد الحارث المحاسبي من أوائل من نهج هذا النهج في عباداته وسلوكه وفي كتبه وتآليفه، بل يمكننا أن نزعم أنه زعيم هذا المذهب الصوفي (السلوكي السني) غير منازع، ذلك انه شيخ الجنيد، والجنيد هو شيخ الطائفة، أو رئيس القوم كما يطلقون عليه، لم ينحرف في عملية التأويل، ولم يغال فيها كما فعل بعض المتصوفة السنيين، وأنه حاول أن يؤصل وحدة المذهب السني عامة بوجهيه الأثري والصوفي، فهو شافعي المذهب وتلميذ الامام أحمد 

وقد صرح الشيخ عبد الفتاح بالتزام المحاسبي بهذا المذهب في التصوف فقال: ( وللشيخ أبي عبد الله المحاسبي ـ رحمه الله تعالى ـ نهج حسن طيب ، وأنّ تصوفه الذي دونه في كتبه راعى فيه ما جاء في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأعمالهم بحسب علمه وفهمه وما نجد في كتبه ـ مما وقفت عليه ـ شطحات أو شيأ من التصوف الفلسفي إنما يقوم تصوفه رحمه الله على الدعوة الى تصحيح العلم والعمل، ومراقبة الله تعالى وتزكية النفس، وتطهيرها من الأدران وتقريبها من رضوان الله عزّ وجلّ وبتعبيرآخر : لم أر المحاسبي يكتب أو يتحدث إلا فيما تحته عمل، وهذا منهج شرعي شريف ، يشكر ويثاب عليه ‘ن شاء الله )(6) 

ثالثاً: مرحلة التصوف الفلسفي 

لم تتأخر مرحلة التصوف الفلسفي في الظهور عن المرحلة السابقة بل ربما تبدو معاصرة لمرحلة التصوف السني فقد ظهرت هذه المدرسة متأثرة بعلم الفلسفة والكلام التي دخلت الى ثقافتنا نتيجة اختلاط مجموعة من الشعوب والأجناس مع العرب المسلمين (الفرس والهنود والروم...)، وازدهار حركة الترجمة فتأثر التصوف بالأفكار الأجنبية الضالة كالغنوصية والهرمسية وأفكار الشيعة والرافضة المبتدعين. فتغيّر مفهوم العبادة والزهد، وشوهت الفلسفة العقيدة الصافية والحب الإلهي الخالص وظهرت العقائد الفاسدة كالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وتسرب إلى التصوف الكثير من الخرافات والخزعبلات.

وهكذا نجد أنّ حالة الزهد والسلوك والتزام الشريعة التي نجدها في رسالة المسترشدين متقدمة على التصوف الفكري والفلسفي المنحرف. 

ولعل الشيخ في تحقيقه لرسالة المسترشدين أراد أن يبن النهج الصحيح، الذي انتهجه المحاسبي في رسالته فألزم نفسه بنشرها، والعناية بها، وإخراجها للناس إشاعة للنفع بها، والاستفادة من إخلاص مؤلفها وصلاحه وبالغ علمه وورعه، وصدق تذكيره بالله تعالى.

يتبع

 1 مقدمة الطبعة الأولى للرسالة ص.38

2 المصدر السابق ص. 41 

3 المصدر السابق ص.59 

4 حاشية الرسالة القشيرية لزكريا الأنصاري .ص 316 

5 رواه ابن ماجة

6 رسالة المسترشدين. ص. 58.

الحلقة الخامسة هـــنا