الشيخ الصالح حامد عسكر الصالح بأقلام محبيه وعارفيه (3)

لما بلغنا نبا وفاة الأخ العالم الصالح الزاهد المجاهد الشيح حامد عسكر الصالح، يوم الأحد 7 من صفر 1441 الموافق 6 تشرين الأول 2019 وكنت سمعت بعض أخباره، ولم أسعد بلقائه، وعلمت من محبيه أنه من خواص تلاميذ علامة حمص الشيخ محمود جنيد، وأنه كان مقربا من مشايخ حمص الكبار، ووقفت على مجموعة من الكلمات في رثائه ، ونشرت بعضها في حلقتين، ونتابع نشر بعض ما وقفت عليه من كلمات ومرثيات، وفي هذه الحلقة الثالثة ننشر كلمتين : إحداهما مرثية لتلميذه ياسر الضياء، والأحرى لتلميذه مازن محمد الشامي، ونرجو أن نقوم بشيء من الوفاء لهذا العالم الصالح الزاهد المجاهد..

كلمة رثاء للشيخ حامد رحمه الله

ما إن سمعت الخبر حتى تماثل أمامي

حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".

بالأمس كنتَ بيننا علما ينير بعلمه دروب العالمين، فلم تكن مجرد شيخ من المشايخ ، إنما ذاع صيتك الحسن وانتشرت سمعتك الطاهرة طهر المسك في أرجاء العالم.. وها أنت ترحل اليوم، ورحيلك خسارة لكل من عرفك، وخسارة أكبر لكل من لم يعرفك حق المعرفة..

إيه يا شيخنا ما أعظمك، مربيا عرفناك، متواضعا عهدناك، مرشدا وعيناك.. عرفتك منذ أن تعرفت عليك لم يتغير فيك شي ، إلا أن ذلك لم يزدك إلا تواضعا مع إخوانك وأحبابك وأبنائك، ينطبق عليك قوله تعالى: "أشداء على الكفار رحماء بينهم.."

بدأت أتعمق في شخصيتك وأحترمها أكثر

وأكثر من خلال دروسك ومجالستك

أحببناك في الله إي وربي، أبا ومعلماً، وأخا ومربيا فاضلا، وعالما جليلا، فكم استفدنا من علمك ، وكم تعلمنا وسمعنا منك شعار العلماء الذي وصفهم الله عز وجل بقوله:" الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا."

نعم، لم تفقدك حمص فحسب، بل كل العالم فقد بموتك مرجعا دينيا يستعان به في معظم المسائل والأحكام الشرعيَّة التي تحتاج إلى فقيه أصولي يفهم الواقع.. وقد كان التواصل معه سهلا يسيرا لا يتطلب وساطات ولا يخضع للتراتبية، بل كان من الممكن مهاتفته أو رؤيته شخصيا تحاوره بكل سلاسة وأريحية، يستمع إليك حتى تنهي كلامك ولا يقاطع حديثك أبدا، فيبلسم حيرتك بجواب يشفي الصدور وكلام تسعد له الحور..

أعتذر إليك شيخي، لم يسعفني عمري أن أكون بقربك في اللحظات الأخيرة ، فكم من سنة ضاعت وأنا في غفلة عن عالم موسوعة يعيش بيننا.. وعندما بدأت أعرفك أكثر عن كثب ، وقد كنت أقرأ في الكتب عن أدب العلماء وسمتهم وتواضعهم، فأشعر كلما التقيتك شيخي وحبيبي ، أنني أعيش في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم..

حقاً إن هذا الرجل غريبٌ في تواضعه والتزامه

أتساءل أحيانا: هل أنا محظوظ أنني حظيت بفرصة التعرف إلى الشيخ رحمه الله وغفر لنا وله وشرف العمل معه ، ولكن ما أعرفه حق المعرفة، أننا فقدنا علما وعالما جليلا، أقولها وبكل صراحة، وبخاصة أن كثيرا من أبناء هذه البلدة لم يعرفوا حقا قيمة هذا الانسان.. لذا فلسنا نحن فقط من فقدنا الشيخ، بل فقدته سوريا ، وكل أحرار العالم الذي حمل لهم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى قولا وفعلا .

قد قال الله تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".. هي آية بلسم للجراح، وهي ما يرضينا بقضاء الله وقدره، فإنا لله وإنا إليه راجعون..

هي الحياة، أمانة يهبها الله لمن يشاء ويستعيدها متى شاء "حتى إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ...."، فوالله إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون، عهدا منا وفاءً لروحك النقيَّة وجسدك الطاهر، وأدبك العظيم، وسمتك المهيب، ووقارك الراقي أن نواصل مسيرتك في الدعوة إلى الله تعالى، وأن نسير على دربك درب الرسول لا نحيد عن كتاب الله وسنة نبيه الكريم..

ربما فقدناك جسدا لكنك ستبقى في القلوب حياً..

في كل قلب تنــــبض الحـــسراتُ=ودماً تسيل بوجـــنتي العـــــبراتُ

وبأسطري تبكي الحروفُ بحرقة=وتنوحُ حيرى في فمي الكلماتُ

لا الشعر يسعفني لأرثيَ شيــخنا=كلا ولا الفصحى ولا الأبـــياتُ

فركبتُ بحر مشاعرٍ مكلـــومـــــة=بسفين أحـــــزاني ومــــا مَرساة

ويلوح طيفك باسما مـــتــــــوردا=ولنــــــوره تــــتـــنـــورُ المشكاة

فأُكَحّلِ الجفنَ القريحَ ببدره=لتزول عني تلكم السكراتُ

تبكي دروسُ العلم فقدَكَ سيدي=والفقهُ والمحرابُ والآياتُ

بتنا عطاشى العلمِ نرتشف الأسى=هل بعد فقدك كوثرٌ وفراتُ ؟

بتنا يتامى العلم بعدك سيدي=فالعلم دون العالِمين شتاتُ

للعلم عشتَ فكنت نبراسَ الهدى=وإلى القلوب تغور منك عظاتُ

تمشي بكل تواضع وسكينة=وبك ارتقت فوق السُّها راياتُ

لله درك ! فــــــي فـــــــؤادك رقــــةٌ=لكــــن علـــــى الحق المبين ثباتُ

لـــــم تخـــــــش إلا الله جل جلاله=فلأنت فيك من الصِّحابِ صفاتُ

ولـــقــــــد ثــــويت ببقــــعةٍ ميمونة=فيها الهـــــدى والخيـــــر والبركات

إن غاب شخصك في الدنى عن أعينٍ=ولْهــــى بحــــبـــــك فاللــــقا الجنات

محبك ياسر الضياء

الشيخ حامد عسكر الصالح 

لم يعمَّر سوى أربع وخمسين عاما بين ميلاده ١٩٦٥ ووفاته في ٦/ ١٠/ ٢٠١٩ ولكن حياته كانت حافلة بالعطاء فلهجت الألسن بمدحه وأجمعت على صلاحه وفضله.

هو ثمرة طيبة من ثمرات الشيوخ الآباء، الذين حملوا البلد ( حمص) حين ألقت عليهم ثقلها بالفتوى والتربية والتعليم. وكادت المشافهة للعلماء وثني الركب أمامهم أن تفقد، ولكن همته وشغفه في تحصيل العلوم هوّن عليه الأمر، فحاز على ثناء الشيوخ الآباء وتوافقوا على الإشادة به.

وهذا كان المدخل - بعد ما حباه الله من صفات نفسية وخلقية - إلى نشر العلم..

كان واحدا من جيل امتحن بضروب من البلوى تهجيرا واعتقالا وتعرضا لفتنة المال والجاه، وتميز بثباته وجلده.

ولم يكن طلاب العلم في حمص في فترة الثمانينيات والتسعينيات من الكثرة كما هي الآن..

لقد انتشر العلم الشرعي في حمص بعد التسعينات وتكاثر طلابه وصار كثير منهم ملء العين بعلمه وصلاحه وقدرته على أداء أمانة العلم وتبليغه للناس.

وما أمله من الشيوخ الآباء الذين تقدم بهم العلم والسن ان ينقلوا المشعل بتسليمه إلى تلك الأيادي التي أحبت العلم فأحبها، وأن تفسح لهم الطريق ليأخذوا حجمهم في الدعوة ونشر العلم.

وما أظن أن طالب العلم الذي تعب على نفسه بالتحصيل يعجزعن قراءة اللباب او الإقناع أو مقدمة ابن الصلاح اوقراءة كتب الحديث وشروحه كالفتح وشرح مسلم او شرح متن الورقات أواللمع....

يجب أن يشيع العلم وأن يصنع هؤلاء على أعين الشيوخ الآباء، ولن يضار الشيوخ إذا تبرعوا بزرع الثقة في طلبة العلم المبرزين بوسائل منها :حضور دروسهم، ونشر حسناتهم، وتقويم تجاربهم...

وفاة الشيخ حامد - رحمه الله- يجب أن تدفعنا جميعا إلى التفكًُّر في الجيل التالي الذي عليه حمل الراية، وعلى الشيوخ الآباء تسليم الراية لمن سيقومون بأداء هذا الواجب المقدس....

رحم الله الشيخ حامد وتقبله في عليين وعوض أهله خيرا..

بقلم الشيخ مازن محمد الشامي- الطائف

الحلقة الثانية هنا