الشيخ حامد الصالح في جوار ربه الكريم

 

كان في بداية شبابه شاباً عادياً، لكن العناية الربَّانية أدركته فنقلته من ميادين الملاعب إلى رحاب المساجد وحلقات العلم، ليصبح من أهل العلم والفقه وطلابه المتميزين.

- عرفته في حلقات شيخنا فقيه حمص وعالمها الشيخ المربي محمود جنيد رحمه الله تعالى، لا يتخلف عن أي درس من دروسه، وفي الصف الأول في حلقات المسجد.

ربما كان مغموراً بعض الشيء في البداية، لكنه سرعان ما تألق في طلب العلم، وانفتحت قريحة ذهنه بحيث صار معيداً لدرس الشيخ يقرأ عبارة الكتاب قرب الشيخ.

وفي هذه المرحلة كان له في قبو منزله غرفة كبيرة، جعلها لبيع بعض الكتب، ولكنها كانت أيضاً مكاناً لتعليم الطلاب علم الفقه وغيره من العلوم، وبعض منهم كانوا من طلاب كلية الشريعة وقد استفادوا جداً من تدريسه وتعليمه، حتى أن بعضاً من طلاب العلم من مدينة حماة استفادوا منه أيضاً.

- مرض شيخنا الشيخ محمود جنيد عدة أشهر في إحدى السنوات، فلازم الشيخ حامد خلالها حلقة الشيخ أبي السعود عبد السلام رحمه الله تعالى مقرئ حمص ومحدثها في جامع حمص الكبير فتعلم لديه تلاوة وتجويد القرآن الكريم _ وكان الشيخ أبو السعود قد تجاوز التسعين _ إلى أن شفى الله تعالى الشيخ محموداً فعاد إلى حلقته مرة أخرى، لكنَّ الشيخ حامدا لم يفارق الشيخ أبا السعود، بل بقي يتردَّد إلى منزله القريب من بيتنا، ولعله استفاد كثيراً خلال تلك الزيارات الكثيرة من علم الشيخ أبي السعود وأدبه.

- لازم الشيخ حامد أيضاً دروس شيخنا الشيخ عبد الوكيل صافي بن الشيخ أحمد صافي رحمهما الله، التي كان يقيمها في منزله صباح يوم الجمعة، فلم ينقطع عنها كما أعلم، وكان الشيخ عبد الوكيل عالماً ومربياً ورحيماً وكريماً رحمه الله تعالى.

-كذلك نهل الشيخ حامد من علم الشيخ الفقيه اسمعيل المجذوب ولازم دروسه وكان الشيخ اسمعيل يقدمه على بقية الطلاب كما أخبر بذلك غير واحد.

- آخر عهدي بالشيخ حامد:

رأيته آخر مرة عام 2010 خلال إجازتي الصيفيَّة حيث ترددت لزيارته في مكتبة الأنصار التي أسَّسها قرب جامع حمص الكبير لتكون سبب الرزق ببيع الكتب النافعة، ولتكون أيضاً مكاناً لإفتاء الناس فيما يحتاجونه.

وقد رأيته آنئذٍ عاكفاً على أحد كتب المذهب الحنفي الكبيرة الصعبة مدققاً ومحققاً في عبارته.

صفاته الخَلْقية والخُلقية:

كان ربعة من الجسم نحيلاً، أسمر اللون مشرباً بصفرة، معروق الوجه ذا لحية خفيفة، تلتمع عيناه من شدة الذكاء مع طيبة في نظراته وفي قلبه، رشيق الحركة، طاهر الخلق، عفيف اللسان، قليل الكلام، لا يخوض فيما لا يعنيه، مع هدوء في النفس وسكينة ووقار في ظاهره وباطنه، مكثراً من ذكر الله تعالى، ممسكاً بالمسبحة في غالب أحواله وحدَّثني أكثر من واحد أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.

موقفه من الشأن العام:

مع أن الشيخ حامد الصالح لم يقم بالتأليف كما فعل غيره، ولم يكن ذلك الواعظ الذي تمتلئ المساجد بالحضور لديه، أو ذلك الخطيب الذي يهزُّ أعود المنابر، لكنه عندما حلَّ في حمص ما حلّ، لم ينزو في قوقعة مسجده أو بين ثنايا أوراق كتبه، بل شارك العامة في معاناتهم وما قاسوه من حصار وضنك عيش، ولم تأخذه في الله لومة لائم، إلى أن كتب الله تعالى عليه الهجرة، فهاجر مع بسطاء الناس وفقرائهم.

لم يحصل على جاه ولا مال ليعيش آخر أيامه بين أولئك المهاجرين، ثم يختاره الله إليه فجأة وفي سنِّ الكهولة تاركاً في قلوب طلاب العلم ومحبيه الحسرة والحزن على فقدان طالب علم حقيقي ملتزم بما تعلمه وأخذه من علم وآداب، وها هي الألسن اليوم تدعو له بالرحمة والمغفرة وعلو المقام عند الله تعالى.

رحمك الله أيها المتفقه في دين الله...

رحمك الله يا من كنت لا تخوض فيما لا يعنيك...

رحمك الله يا هادئ النفسِ يا وادع الفؤاد...

رحمك الله يا ذاكر الله يا ثابت الجنان...

رحمك الله، لحقت بالعلماء الذين سبقوك، ولعلك الآن في رحابهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وأفرغ الله الصبر والسلوان على أهلك وأولادك وأخلفهم خيراً بعد فراقك...