أول الذكرى في رثاء الشيخ محمد سعيد الطنطاوي 

تذكرت البارحة قصيدةً عمرها تسعة عشر عاماً، نظمتها لأكبر أشياخي سنّاً، وأجلّهم قدراً، وأعمقِهم في حياتي أثرا، العالم الموسوعي، الوالد القدوة، الشيخ: محمد سعيد الطنطاوي رحمه الله، لأول صلتي به قبيل المرحلة الثانوية، ولم أكن ألتقي الشيخ في السنة غير مرة واحدة، ثم أبقى مشوقاً إلى اللقاء الآخر من السنة القابلة.

ولما عُيِّنت قاضياً في جدة، بقيت فيها تسع سنين ألتقي الشيخ في كل أسبوع مرة أو مرتين، وكنتُ لا أفتأ أسمع منه في كل زَورةٍ جديداً، وأخرج من عنده مستفيدا، وكان لي غناء الدهر، ومسرّة النفس، ومستراح الروح المتعَبة، ومدرسة جامعة ومكتبة عامرة لا يستنفد لآلئها سؤول، ولا يدرك أغوارها مبحرٌ غوّاص ولكن تأخذ الأفهامُ منهُ.. على قدر القرائحِ والعقولِ

وكم وَعظ الشيخُ فأبكى، وفاكه فأضحك، وفتح عينيّ على عوالم، وسار بي في أودية وشعاب، وصعد بي روابي وأبراجا، فيا وجدي على مجالس ما كنتُ أوثر عليها غيرها ولو أُعطيتُ بها ما أعطيت، وما قمتُ منها يوماً إلا وجدتني أرغب في الآخرة وأزهد في الدنيا وأشرف همةً في سائر فنون العلم وشعب الإيمان.

وقد كان الشيخ أحبّ الناس إليّ، وكنتُ أحب الناس إليه، أو من أحب الناس إليه، وأفضاله عليّ كثيرة، وأثره لا ينسى، وخبره لا يستوفيه مجلدان كبيران، لكني تذكرت الساعة قولَه أولَ ما زرتُه بعدما بعثتُ إليه القصيدة، ورآني معتمراً فسألني باهتمامٍ قبل أن أتمّ السلام: هل دعوتَ لي؟! وبغتني السؤال، فلم أعهد الشيخ يسأل أحداً شيئا، وإنما يُطلب من الشيخ وأمثاله الدعاء، ثم تذكرتُ عِدتي إياه في تلك القصيدة فأنشدت على الفور:

لكما ما بقيتُ مني وفاءً..

أصدقُ الحبِّ والدعاءُ الأكيدُ

فتمدّد الشيخ لمّا سمع ذلك على كرسيّه، واستنار وجهه وأشرق، وأدركتُ أنه إنما أراد أن يؤكد الوعد الأكيد، وأنه لم يحفل من القصيدة بغير هذا البيت، لأنه كان يَعُدّ نفسه في الموتى، وما يفرح الميتُ بشيءٍ فرحَه بالدعاء، وما يصل الميت من ثناء الناس شيء.

وفي ساعة السحَر من ليلة الوداع، رقِيتُ من صحن المطاف إلى مصابيح الحرم، وخفق القلب خفقة الأسف، وشدّ الفتى بيده يدَه الأخرى، وانهمرت من عينيه الدموع، لمّا رأى شيخه جسداً ممدّدا على الأرض، مسجّى فوق النعش بمشلح من مهابة وجلال، أوّلاً في صفّ الجنائز، كما كان أوّلا في مدارج السالكين وميادين السابقين.

ثم كنتُ فيمن شيّع الجنازة المهيبة إلى مقبرة المعلاة، أحمل النعش وأسمع صوت الشيخ في أذنيّ أشجى ما يكون وهو ينشد واعظاً نفسه المطمئنة:

أُؤَمِّلُ أن أحيا وفي كلّ ساعةٍ..

تَمرُّ بيَ الموتى تُهَزُّ نُعوشُها

وهل أنا إلا مثلُهمْ غيرَ أنّ لي..

بقايا ليالٍ في الحياة أعيشُها

وكان الشيخ إذا قال: بقايا ليالٍ يمدّ بها صوته، ويموّجه، ويشير بيده يقلّلها، ثم يردف: من يقول كم ليلةٍ بقيت لي؟ كم يوم؟ الحياة عزيزة على كثير من الناس، لو قيل لأحدهم بقي لك خمس عشرة سنة، استقلّ ذلك، ولعلّ يومه أدنى من هذا بكثير!.

ولم يكن الشيخ من هؤلاء الناس، بل كان من الموت على غاية الأهبة، وما أحرز من متع الحياة ما يأسف على فراقه، وكان يقول: أثمن شيء في حياة الإنسان الوقت، حتى إن الحسن البصري يعرّف الإنسان أجود تعريف فيقول: ابنَ آدم، إنما أنتَ أيام، كلما مضى يومٌ مضى بعضك.

وكان الشيخ يقول ما مرّ بي تعريف للإنسان أحسن من هذا التعريف، وقد عرّفه كثير من العرب ومن غيرهم.

وحدثني الأخ الوفيّ: أنس بن نور الدين عدي، وقد رأيتُ من برّه بالشيخ وتحنّنه عليه وحسن صحبته له ما سرّني، أن الشيخ كان يردد قبل شهرٍ من رحيله بعدما أحاطت به الأوجاع وأقعده الكِبَر:

مَن مُجيري مِن حالكاتِ الليالي..

نُوَبَ الدّهرِ! مالكنّ ومالي؟

ولم نكن نسمعه ينشد ذلك من قبل، ثم إنه صار لا يفتأ يردد في آخر أيامه في لهفة واشتياق:

أبداً تَحِنُّ إليكمُ الأرواحُ..

ووصالكم ريحانُها والرَّاحُ

وقلوبُ أهلِ ودادكم تشتاقكم..

وإلى لذيذ لقائكم ترتاحُ

أما القصيدة التي بعثتُ بها إلى الشيخ فقد كانت من أول ما نظمت، ولولا محبتي لمن قيلت فيه ما أعدت نشرها، وهذه بعض أبياتها:

يُدرك القلبُ عندكم ما يريدُ

شكر اللهُ برّكم يا سعيدُ

ما لها أحرفُ القصيدةِ خجلى

ولسانُ القصيدِ خصمٌ عنيدُ

كلما خَطّتِ اليَراعةُ حرفاً

وجمت هيبةً وظلَّت تميدُ

ليت شعري وقد خَبَرتَ القوافي

كيف تُصغي لشاعرٍ لا يُجيدُ

حين ألقاكَ أيها الشيخ ألقى

علماً أطبقت عليه الشهودُ

عَرَفَت قدرك العلومُ فأضحت

وسواءٌ طريفها والتليدُ

قرّةَ العينِ، يا شقيقَ عليٍّ

طِبتَ دوماً، وطاب ذاك الفقيدُ

كم تمنّيتُ أن أراه، فأفضى

قبل أن يَهنأ الفؤادُ العميدُ

ما على من يراك ألا يراهُ

والليالي إذا مضت لا تعودُ

لكما ما بقيتُ مني وفاءً

أصدقُ الحبّ والدعاءُ الأكيدُ

إنّ هذا اللقاءَ في كلّ عامٍ

بعد طول الغيابِ عيدٌ جديدُ

أحمدُ الله حين أغدو إليكم

وعزائي إنْ رحتُ أنّي أعودُ

عشْ سعيداً مُنعَّماً كلَّ حينٍ

عملٌ صالحٌ وعمْرٌ مديدُ

أدام الله سعادة الشيخ السعيد، ورفع درجته في المهديين، وبلغه برحمته ورضوانه منازل الصديقين، وجزاه عن العلم وأهله خير ما يجزي عالماً، وأحسن إليه كما أحسن إلينا، وأعاننا على بره والوفاء له، وجمعنا به في الفردوس الأعلى، آمين.

-------- انتهى.