ذكريات مع المرحوم الشيخ محمد سعيد الطنطاوي

تغمد الله الشيخ سعيدًا بواسع رحمته ، وأسكنه فسيح جناته ، وحشره مع النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، وجمعنا به في مستقر رحمته على حوض نبيينا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نشرب من يديه الشريفتين شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا .

عرفته من أوائل الخمسينيات من القرن الماضي نلتقي به في جامع المرابط يلتف حوله بعض الشباب ينصتون له في دعوته وتوجيهاته الشائقة ، وسرعان ما يتعلقون به ويتأثرون به ويتلهفون لسماع عظاته وتوجيهاته ، فأسلوبه محبَّب وقريب الى القلب ،فقد كان نموذجا فريدا في شخصيته المحبَّبة . حاضر البديهة ، سريع الجواب على كل ما يسأل عنه ،لطيف المعشر ، قريبا إلى القلب .وقد كنت وقتها طالبا في معهد العلوم الشرعية للجمعية الغراء ننهل العلوم الشرعية على يد زمرة من العلماء كل في اختصاصه من تجويد للقران الكريم على يد الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت الحافظ ، والفقه الشافعي على يدي الشيخ عبد الكريم الرفاعي والشيخ أحمد البصروي والذي كان يلقب بالشافعي الصغير .وعلوم والحديث على الشيخ عبد الرحمن الزعبي الطيبي ، وعلوم التاريح والمنطق والعروض على يد الموسوعة التاريخية الشيخ نايف العباس .وكنت طالبا قد يطلق عليَّ بأنني مشاغب لحرصي على معرفة دليل ما أقرأ وكثرة أسئلتي لأساتذتي عن ذلك .وقد كان هذا التصرف وقتها غير مألوف لدى أساتذتي .وهذا ما جعلني لا أتعلق بأيّ أحد تعلق التابع دون سؤال وفهم .

لذلك كانت صلتي بالشيخ سعيد صلة المحب والمستفسر ولكن دون تعلق .فقد كنت أرى في الشباب من سني الكثير ممن يتعلقون ، تعلقا عجيبا ، وقد يقلدون تقليدا اعمى ، تعلق المحب المقلد. لذلك فقد كانت صلتي بالشيخ سعيد صلة المستفيد المحب دون تعلق ، وكان يحترم ذلك ويقدره .ودامت هذه الصلة سنوات . أزوره في داره ، وقدتعرفت عليه أكثر وعلى طبعه وخصوصيته ، كعدم رغبته في الزواج حرصا منه على ألا يظلم الزوجة ورعا من أسلوب حياته الشخصية ،فقد كان نباتيا ،لا يأكل الحوم ومستخرجات الحيوان . كثيرالعبادة وقيام الليل ،مكرسا حياته في الاطلاع والتقشف . فقد كان في زواجه ظلما للزوجة فآثر عدم الزواج .

صحبته في السفر . فقدرافقته في رحلة الحج صحبة والدي المرحوم الشيخ محد مراد الطباع ، والمرحوم الشيخ عبد الرؤوف الدقر . وثلاثة من الشباب حسن دياب، ومحمد مجير العمري، وعبدالمنعم الطباع .وعملا بقول سيدنا رسول الله :" إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا أحدكم ، ولذلك فقد كان اميرنا الوالد الشيخ محمد مراد .وكانت الرحلة في مطلع شهر أيار عام 1962م ، وكان الجو حارا، وقد طلب الوالد من الجميع أن يشتري كل منهم مظلة تحميه من حر الشمس وامتثل الشيخ سعيد واشترى مظلة ، ولكنه بطبعه المتقشف وحبه لتحمل المشقة تقربا إلى الله لم يفتحها ، ولكنه اشتراها امتثالا لأمرالأمير .

لقدكانت رحلة ممتعة ،وكان الشيخ سعيد نعم رفيق الدرب محبَّبا لطيف المعشر ، ملتزما بالسنة ويختار الأشد لنفسه دون إلزام غيره ،وكان لي رأي آخر ،أحاول أن أختار الأيسر . وكان يحترم رأيي ،ولكن الشباب المرافقين بعضهم يتبعه مقلدا دون مناقشة ، فقد كنت إذا وجد وسيلة ركب في التنقل أفضلها ، ويختار المشي ولو في الحر .

وقد كنت قريبا منه أداعبه ويداعبني، وقد تصارعت معه في الغرفة بمحبة في بعض أوقات الفراغ . فالمحبة والاحترام موجود ، ولا تكلف فيه .

وعلى سبيل المثال في اختلاف الرأي أردنا النزول الى جدة ، وكنا في مدينة الحجاج قرب جدة .وخرجنا منها متوجهين إلى جدة وكنا خمسة سعة سيارة أجرة ، وفجأة اوقف الاخ مجير العمري سيارة لنركب فيها ، رفض الشيخ سعيد الركوب وقال: هنالك باص قريب نركب فيه ، وقد كان بيننا وبين الباص مسيرة عشر دقائق . وأجرة التكسي ريالين ، وأجرة الباص لخمس ركاب لا تزيد عن نصف ريال .فركبت مع الأخ مجير وذهبنا إلى الفندق واغتسلنا وغيَّرنا ثيابنا وانتظرنا قرابة الساعة حتى وصل الشيخ سعيد والأخوين اللذين اتبعاه .وعندم وصلوا . سألته: ما فعلتم ؟ أليس للوقت قيمة ؟ . فلم يجب ولم يغضب . ولكنها رغبة لديه في اتباع الاكثر مشقة ابتغاء المثوبة . وهذا ما كنت اختلف معه فيه ، ولكن بمحبة واحترام لراي الآخر .

بعد عودتنا من أداء فريضةالحج ،يسَّر الله لي افتتاح ثانوية السعادة بإدارتي بموجب قرار مدير التربية في دمشق رقم 202 تاريخ 10.10. 1962م . وكان الشيخ سعيد حفظه الله قد أكرمني الله مع زمرة من كرام أساتذة دمشق بافتتاح هذه المدرسة بشكل كامل ومتفوق بإذن الله قكان يدرس مادة الكيمياء . وكان محبَّبا من طلابه ، وكان رحمه الله إذا سمع أذان المؤذن يترك الدرس ليؤدي الصلاة ثم يعود فيعوض على الطلاب ما فاتهم .

طلابه في جامع المرابط يلتفون حوله ويقلدوه ويقلده كثير منهم تقليدا أعمى . فقد كان حنفي المذهب ويدعوهم ليتفقهوا على فقهاء الأحناف . وقد طلب مني بعضهم في عام 1971

أن يقرؤوا معي فقه الاحناف . فاخترت لهم كتاب تحفة الفقهاء ، وهوكتاب يعتني بذكر الدليل .وقد حققه أستاذ مصري كان أستاذا في كلية الشريعة في دمشق الدكتور زكي عبد البر . وبعد عدة دروس، ومع حرصي على مناقشة الدليل ، تغير مفهومهم الفقهي وابتعدوا عن التعصب الفقهي ، حيث تنوروا عن أسباب التنوع الفقهي تبعا للدليل ، وذهب عنهم التعصب الأعمى .

في عام 1971م خرجت مع ثلة من لجنة بناء جامع عبد الله بن رواحة في ساحة باب مصلى في حي الميدان، وكنت عضوا معهم لاداء فريضة الحج واللقاء مع بعض السوريين لجمع التبرعات لهذا المسجد ، وبالفعل وبعد أداء فريضة الحج واللقاء بمجموعة من الخيرين وقد جمعنا مبلغا لا بأس به عرضت عليه ضرورة الذهاب إلى الرياض للقاء بعض السوريين هناك وتأمين مبلغ آخر ايضا . فذهبت الى الرياض وكان الشيخ سعيد يقيم فيها ، وحجزت في فندق لأقيم فيه وما إن سمع بي الشيخ سعيد والتقى بي سالني: أين تقيم؟ فقلت له: قد حجزت في فندق كذا فذهب معي إلى الفندق واعتذر إليهم وحمل حقيبتي وأخذني معه الى بيته ، فخصص لي سريرا ، وكان ينام على الأرض ، وقام في اليوم التالي بإعداد طعام خاص بي دعا إليه بعض السوريين الجوار ، وقد رأيته يضع في الطعام سمنا حيوانيا عربيا ، فقلت: ما هذا ياشيخ سعيد هل غيَّرت طبيعة طعامك؟ فقال: لا ولكن إكراما للضيف ، وقدم مبلغا لابأس به تبرعا لبناء الجامع ،وقد لا حظ الحضور كرم الشيخ سعيد .

ذاكرة الشيخ سعيد وتتبعه أخبار معارفه فريدة من نوعها ، فقد كنت كلما حانت لي فرصة أداء شعيرة الحج أقوم بزيارته في منزله ، وفي حجتي عام1995م وعندما زرته قال لي: هذه حجتك الخامسة . وكأنه يعدُّ عليَّ حركاتي . تغمده الله بواسع رحمته فقد كان نعم الاخ ونعم رفيق الدرب ، ونعم العالم المتمكن ، ونعم الجواد الكريم، ونعم الزاهد في حطام الدني ، ونعم الراغب والساعي لمرضاة الله . جمعنا الله به في مستقر رحمته مع من سبقنا من عباده الصالحين ، وإنا لله وانا اليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .