سليم عبدالقادر زنجير .. أديبا ومفكرا وإنسانا


د. عامر البوسلامة
سليم عبدالقادر زنجير
(1954- 2013)
 
هو ابن حلب الشهباء؛ ففيها وُلِد ونشأ، وشبَّ وترعرع، وتعلَّم وعلَّم، ولعل حاضنتها الجماليَّة، بطبيعتها الخلابة، ذات البساتين، وبِرَك المياه، وسحر الملامح، ساعدت في دفْع موهبته نحو الظهور بسرعة، فنشر في (حضارة الإسلام) و( الشهاب) و(منار الإسلام).
 
عرفته المساجد بالإبداع، ومسجد الروضة، أحد أهم هذه المساجد، وعرف الجامعات وأروقتها (حتى صار مهندسًا) لمع اسمه مبكِّرًا، في عالم الشعر المُنشَد، الذي كان علامة من علامات الصحوة الإسلاميَّة في سورية، خصوصًا في النصف الثاني، من سبعينيات القرن الماضي.
 
سليم يكتب، ويُشارِك في التلحين، وأبو الجود يُنشِد، وأبو دجانة يَصدح، وأبو راتب يُغرِّد، والناس تسمع بلهف وشوق، وتَصِل هذه الإشراقات لدير الزور، فنسمع هذه الأشرطة المنشَدة، فتترك بصماتها الجميلة، في أعماق النفس حنينًا وتأثُّرًا وشوقًا.
 
وكان لتك الفترة ذوقها وأَلَقها وروعتها، وحِسُّها الدافع، نحو الخير، والمبشِّر بوعد الله القادم، على موائد الصلاح؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، إنها سنة الله تعالى التي لا تتغيَّر، وقانونه الذي لا يتبدَّل، على مرِّ الأيام، وتغيُّر الأحوال.
 
ماضٍ وأَعرِف ما دربي وما هدفي
والموت يَرقُص لي في كلِّ مُنعطَفِ
مضى الذين شَغاف القلب يَعشَقُهمْ
من الأحبَّةِ مِن حولي فوا لَهفي
فلم أجدْ غير دربِ الله دربَ هدى
وغير يَنبُوعها نبعًا لمغتَرِفِ
 
من هنا، كان لوسائل الوصول إلى هذه الغاية، طرائق متعددة، ووسائل متنوِّعة، ولعل قالب ما يعرف بالتوجيه غير المباشر، أثره الذي قد يوازي أثر التوجيه المباشِر، وربما فاقه في بعض مفاصِل الأداء؛ ((إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة)).
 
سليم زنجير كتب الشعر، وأصدر بهذا مجموعات معروفات، كما كتب الرواية، وسطَّر النثرَ؛ فوُلِدت مجموعة (القادمون الخضر)، وتَحدَّث عن أصالة الفكرة وعمقها، من خلال منظومتها الأخلاقية وحَمْل الأجيال لها، فكان (نعيم الروح)، وصدَق من وصَفه بأنه: رائد الأدب الإسلامي، في فن الأنشودة.
 
الجيل الذين خلَصت نفوسهم من حظوظ نفوسهم، هو الجيل الذي يُعتَمد عليه، وهم الصفوة التي يُبنى عليها الأمل، في دروب الرجاء، هم الذين تخفَّفوا من أحمال النفس، وألقوا عن كاهلهم ثِقلَ عبادة الذات، بكل ما فيها من دوائر الإقعاد، ومفاصل الشرود، فكانوا بوزن الريشة مادة، لكنهم بوزن الجبال معنى؛ ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾[الشمس: 7 - 9].
 
عرفنا الأستاذ (أبو الخير) لا يحب (الفخفخة)، ولا يَهتم بالأشكال، رغم اهتمامه بمظهره، وعنايته بهندامه، كان يؤكِّد دومًا على مبدئية التميُّز الإسلامي، في كل شيء (كونوا بين الناس كالشامة)، لا يَذكُر نفسه، ويتجنَّب معالم تضخُّم الذات، بكل ما حملت من معاني الصغائر والكبائر، ولا أكون مبالغًا إن قلت: بأن الأستاذ - بما عرَفناه عنه - كان ناكرًا لذاته، محبًّا الخير لإخوانه، وما تسطيره إحدى رواياته باسم أخ حبيب عليه، إلا نمط مؤكِّد على طرف من هذه الحقيقة الأصيلة في تربية الرجل.
 
عرفنا فيه التواضع، رغم كل دواعي الركون إلى النفس ظهورًا، قد تجلَّت في مواهبه، لكن أبى أن تكون مادة للنفس الأمارة بالسوء، لتَبرُز بهيكل (الأنا) وشخصنة مطالب الدنيا، فلا تلك عرفناه بها، ولا الأخيرة ظهرت عليه علاماتها، ((ومَن تواضَع لله، رفعه الله)).
 
فصيح العبارة، من غير تنطُّع، موسوعي الثقافة، ببُعد عن التشدُّق، جامع بين ثقافة التراث، مجتنِبًا الثرثرة، مع معرفة بالواقع، بلا تعال، حقًّا إن الأستاذ "سليم" كان مثقَّفًا ثقافة شاملة، لم تظهر فيها اختلالات ما يُعرف بالثقافة العوراء، بأي لون من ألوانها، أو شكل من أشكالها، بل كانت أصيلة متينة، رغم تحديثها المستمر، بالوقوف على كل جديد نافع.
 
وسامحه الله ورحِمه، إذ وعدني مرة أن يَكتُب لي إجازةً في الفقه، حيث كتب له مِثلَها فقيه العصر الزرقا - رحمه الله - وهذه إشارة إلى ثقافة التوازن التي كان يتمتَّع بها الأستاذ سليم وبكل جدارة.
 
المرء بحُسن خُلُقه، يبلُغ درجةَ القائم الصائم، وحُسْن الخُلُق علامة قَبُول، ودليل رضا، ومؤشِّر قَبُول وفتح في عالم الكرامة، والاستقامة عين الكرامة، وفي هذا يقول نبينا - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين -: ((أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الذين يألَفون ويُؤلَفون، وإن أبغضكم مني مجلسًا يوم القيامة، الثرثارون، المتشدِّقون، المتفيهقون)).
 
فكان فقيدنا الحبيب - رحمه الله - من ذوي الخُلُق الحسن، الذي يبتعد عن الأحقاد والإحن، ويتجنَّب الشرور والفتن، ولا يَقترِب من حالقة الدين، بل يعمل على إصلاح ذات البين، ورَدم الهُوَّة بين المختلفين، ويسعى في لمِّ الشمل، ويسهر على تقريب وجهات النظر، يحب إخوانه جميعًا، ويقف على مسافة واحدة منهم جميعًا، حرب على العصبيَّة بكل صُنوفها، ينأى بنفسه عن الاصطفاف غير المبصر، يبذُل قصارى جهده؛ من أجل الوِفاق والتوافق، وأعظم ساعة عنده، هي تلك الساعة التي يُقرِّب فيها بين أخوين متباعدَين، ويزيل فيها إشكالاً بين اثنين، لسبب من الأسباب، لا تسمع منه إلا الكلمة الطيبة، ينتقي كلماته انتقاء دقيقًا للتعبير عن مُراده، حيث يزن الكلمة بميزان الذهب؛ حتى لا يَنِدَّ منه لفظ يُعكِّر أحدًا، أو يصدر منه ما يكون سببًا في فُرقةٍ أو شتات، أو جرح في غير محله، ((ورب كلمة يُلقيها المرء لا يُلقي لها بالاً، تهوي به في جهنم سبعين خريفًا))، مع ذوق رفيع، وألمعية نادرة، ومُلَح دائمة، لا تكاد تنتهي الأولى، حتى تأتيك الثانية، حقًّا لقد كان إلْفًا مألوفًا، يحبه كل مَن عاشره، ويشعر بالأنس به كلُّ مَن خالَطه، وما رأيتُ أحدًا، إلا ويُثني عليه، رُغْم أنَّا كنا فريقَ عملٍ، تَمُر علينا قضايا ومسائل، ووجهات نظرٍ، وأخْذ ورد، واجتهادات ونوازِل، ويبقى أبو الخير محل ثناء إخوانه، وتقديرهم له.
 
الابتسامة لا تكاد تُغادِر محيَّاه الجميل، وكأني به يتمثَّل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((تبسُّمك في وجه أخيك صدقة)).
 
عَذْب الحديث، حُلو الكلام، جذاب الحكاية، لا يَمَل مُجالِسُه حديثَه، يسمع مجالسه منه طيب الكلام، فلا تخرج منه كلمة سوء، أو لفظة نافرة، أو جملة مُخِلة، لا يسمح لأحد أن يغتاب أحدًا عنده، وإن ذُكِر أخ بسوء، ذبَّ عنه، ونافَح عن موقفه، من باب حُسْن الظن بالأخ، وهو غائب، فيحمل كلامه على أحسن محمل، أبو الخير - رحمه الله - من النوع الذي تأمنه في الظاهر والباطن، والسِّر والعَلن، في حضورك وفي غيابك، لا يخدع، ولا يخون.
 
كل هذا قد يُكلِّفه ما يُكلِّفه، فلم يكن يُبالي - على دقَّته في الاختيار للألفاظ والأشياء والأدوات - بموقف المقابل المخالِف، وفي النهاية يكتب الله له التوفيق، ويَقذِف الله في قلوب الناس حبَّه.
 
ذو فكر نيِّر، ورأي حصيف، ونظر سديد، لا يعرف التهور إلى فكره طريقًا، يُعالِج أموره بهدوء واتزان، التروِّي سمْتُه، وعدم الغضب في معالجة الأمور سبيله، ووسطيَّة الفكرة منهجه: ((وما كان الرِّفق في شيء، إلا زانه، وما نُزِع من شيء إلا شانه)).
 أشهد أنه من أهل الرأي الذين فقدناهم.