يوم في حياة عالم

لم أر مثل والدي في همته ودأبه وبذله نفسه للدعوة والتعليم وتلبيته من يدعوه من الناس للمشاركة في تعزية أو عرس أو إصلاح بين الناس...

ربما شارك في اليوم الواحد ثلاث مناسبات اجتماعية تضاف الى قيامه بأعباء الإمامة والخطابة والتدريس...

في يوم الجمعة كان للوالد برنامج حافل بالأعمال فقد كان يشرع في درس التفسير قبل صلاة الجمعة بنصف ساعة ثم يعود إلى بيتنا وهو مقابل للمسجد يفصله عنه شارع عريض يبدل قميصه الداخلي ويجدد وضوءه ثم يعتلي المنبر خطيبا خطبة لا تقل غالبا عن ثلث ساعة ولا تزيد عن نصف ساعة ثم يجلس لدرس الفقه بعد الصلاة يشرح بابا من ابواب الفقه معتمدا على ملخصات صنعها لنفسه وعلى ما تختزنه ذاكرته من مسائل الفقه وأدلته وقد يستغرق هذا من الوقت ساعة أو نصفها أو ثلاثة أرباعها ثم يجيب على الأسئلة الواردة عليه ثم يقوم من على كرسي الدرس لتكون له وقفة قد تطول هي أيضا وقد تقصر يجيب فيها عن أسئلة خاصة ويحل مشاكل خاصة ثم يمضي إلى الغداء في البيت ثم يرقد سويعة من النهار ثم يمضي إلى صالة أفراح للمشاركة في عقد زواج وقل أن حضر مناسبة إلا وقدمه الناس للكلام لعذوبة منطقه ورقة حواشيه وتخيره الألفاظ والمعاني التي تناسب المقام ثم يعود الى المسجد فيصلي المغرب والعشاء ويخرج بين العشاءين للمشاركة في تعزية أيضا ثم يمضي بعد العشاء للمشاركة في عرس وربما شارك في عرسين وقل أن يحضر عرسا إلا طلب منه أهله إلقاء كلمة قد تمتد إلى نصف ساعة ثم صار يخفف الى ثلث ساعة أو ربع ساعة احيانا وليس الوالد بحريص على الكلام ولكن الناس تطلب منه ذلك وترجوه فيستجيب وإذا حضر غيره من المشايخ وخصوصا أشياخه قدمهم على نفسه أو قدمهم بنفسه.. 

ثم يعود إلى البيت بعد منتصف الليل لتبدأ دورة جديدة من الهمة والعطاء يوم السبت إذ يصلي الفجر في المسجد ثم يتوجه ضحى إلى بلدتنا الأم أريحا وهي تبعد عن حلب سبعين كيلا ليلقي درسا في جامعها الكبير -حيث كان يدرس جدي رحمه الله- بعد صلاة الظهر قرابة الساعة ويجيب عن أسئلة أهلها ومن يفد إليها في بازارها الأسبوعي يوم السبت ثم يجلس إلى طلاب العلم فيقرؤوا عليه النحو والفقه والبلاغة وإحياء علوم الدين وصحيح البخاري في السنوات الأخيرة التي التفت فيها إلى الرواية والإسناد...

وكان له في عصر الثلاثاء درس ثان بالجامع الكبير بأريحا ولقاء يتجدد بطلاب العلم فيها...

وله في كل بوم درس او دريسان في مساجد حلب أيضا مع ما كان ينهض به من التدرس صباحا في المدارس الشرعية في الخسروية وفي دار نهضة العلوم الشرعية(الكلتاوية) ولم يكن أستاذا فحسب بل كان أستاذا قديرا وأبا رحيما وأخا كبيرا وكان درسه ماتعا وحديثه شيقا ينتظره الطلاب بفارغ الصبر فيقدح زناد شعرهم حتى قلت يوما:

جاءنا شيخ فقيه

حلت الأنوار فيه

قلت لا تعجب أُخَي

إنه الشيخ نبيه

وقد درس الفقه والنحو والتفسير والحديث والخطابة وغيرها ثلاثة عقود من الزمان، وقد تلقيت عنه شطرا حسنا من كتاب الإقناع في شرح متن ابي شجاع للامام الخطيب الشربيني وكتابه(آيات الأحكام ) الذي استفاده من كتاب روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ العلامة محمدعلي الصابوني.. وكان يأخذنا أحيانا في الصف السادس الأخير إلى مكتبة المدرسة فيطلعنا على الكتب ويبين لنا أهمية المراجع العلمية الأصيلة...

ولما تخرجت من المعهد الديني واشتغلت بالحديث وصحبت شيخنا المحدث عدنان الغشيم وشيخنا المحدث نورالدين عتر وغيرهما صار يسألني عن أحاديث تمر به أو يسأل عنها ويطلب مني تخريجها ودرجتها.. ولا عجب فالتواضع سيمته والرفق خليقته...

وكثيرا ما كان يقول لي: من ثبت نبت.. الثبات نبات..

اللهم ثبت والدي بالقول الثابت في الدنيا والآخرة وألبسه ثوب العافية وامسح عليه بيمينك الشافية وأمتع به الإسلام والمسلمين..

وقد نشر موقعنا سابقاً ترجمة موسعة لفضيلة الشيخ حفظه الله تعالى تجدها هـــنا