محمد فؤاد عبد الباقي المطربش العظيم خادم الوحيين

من أسوأ الجرائم التي غلّظ القرآن الكريم نتائجها، وشدد العلماء في الكلام عنها، وأنكروا على مرتكبها: جريمة القتل، تلك الجريمة التي تعكس نفسًا همجية مترخصة في النظر لقيمة الحياة الإنسانية، والتي يهون دونها هدمُ الكعبة، وذهب بعض العلماء إلى عدم قبول توبة مقترفها! وهي مع ذلك من أكثر الجرائم انتشارًا في زماننا!

ويتخذ القتل صورًا شتى يهتم بها الشرع، ويعاقب عليه القانون، وترفضها الفطرة الإنسانية! لكن من الصور التي ربما لا ينتبه لها الناس في غمرة العمل للذات، أو العصبية للاّفتات:

صور القتل المعنوي، بالتجاهل والإهمال، وربما بالجحد والإلغاء، وربما بالتشويه والتزييف والإهانة، وهذا النوع من القتل مؤلم شديد، لأن القتيل الذي أزهقت روحه قد استراح، أما الذي يقابل بالتجاهل فهو يُقتل كل يوم، ويداس على عنقه كل يوم، ويحتقر كل يوم.. وليس هذا شأن أهل المروءات والإنصاف، بل إنه حتى ليس من شيم (بتوع السيما) الذين يبدون أكثر وفاءً من بعض أهل الثقافة والالتزام: انظر لمقدمة "تتر" أي فيلم متخلفٍ أو تمثيلية هايفة، لتجدهم يكتبون أسماء كل المشاركين في "اقترافه" ابتداءً من النجمة الملعلعة، والبطل "اللي ما جبتهوش ولاّدة" وانتهاء بالمطيّباتية والفراشين، وعمال الكهرباء، والذي "عدل" كرسيًّا سقط على الأرض!

وهم لا يزالون يستمطرون شآبيب الرضوان على روح المقدس نجيب الريحاني، والحاخام داود حسني، ويحتفون باليهوديات كاميليا ونجوى سالم وراقية إبراهيم، ويكرمون "الراقصة" المحترمة تحية التحفجية، والست الكبيرة السنبلاوينية، ويستنزلون "ألف رحمة ونور" على نابليون، ولطفي السيد، وعلي عبرازق، وآسم أمين، والصحفي إياه الذي قيل إنه كان يطالب بإباحة البغاء بعد إلغائه، ويكتبون قصائد الغزل ومقالات الإشادة، وكتب الإعجاب بعبقرية كوميديانات البلاهة إسماعيل يس، والقصري، والنابلسي، والشاويش عطية، وعبرحيم بك كبير الرحيمية قبلي.

وإذا مرض واحد من هذه النخبة تكاتفوا لعلاجه على نفقة الدولة، في أكبر مستشفيات الدنيا، واهتموا، وكتبوا المعلقات المطولات..

وآه لو حصل أن نجمًا من نجوم الشباك، من صناع التاريخ "الصقافي" أصاب ضرسه وجع، أو انكسر أظفر الأصبع الصغير، في يده اليسرى؟!

ولا تعجب إذا رأيت هؤلاء المثقفين أنفسهم بعد أن تحكموا في حنفية الإعلام يقتلون مع سبق الإصرار والترصد كثيرًا من عظماء الأمة بالتجاهل والصمت، إن لم يكن بالتشويه الفكري، والتقبيح الإعلامي، أو باتهامهم بخيانات وطنية وخلقية، ولم يلتفتوا لهم؛ أيًّا كانوا!

حتى إن فضيلة العالم المجاهد الغيور الإمام شيخ الأزهر الشريف الشيخ جاد الحق رحمه الله مات دون أن تجد أسرته أسطوانة أوكسجين لإسعافه كما ذكر د. عمارة (في الوطن 25/9/1418ه).

وفي قرننا هذا ظهر عشرات المبدعين والعظماء من علماء الأزهر والدراعمة وخريجي جامعة فؤاد الأول، ممن كانوا غررًا في جبين الفكر، وشموسًا في سماء العلم والدعوة، نسينا أسماءهم وكتبهم ومواقفهم وجهادهم، في حين يرتفع من هم دونهم علمًا وسنًّا وفضلاً:

وإلا فأين من عالمنا محمد بك الخضري، ومحيي الدين عبد الحميد، والإسكندري، والغمراوي، وأحمد شاكر، والأودن، وعرجون، وحسنين مخلوف، وأبو زهرة، وعبد العظيم الشناوي، وعباس حسن، وعمر الدسوقي، وأحمد محرم، وباكثير، ومحمد أبو الوفا، وحفني بك ناصف، وأشباههم من المظاليم؟

ويذكّرني حفني بك هنا بفضيلة الإنصاف وإعطاء الناس حقوقهم، ومعرفة أقدارهم.

وهو أمر ثقيل على النفوس، يحتاج إلى تدريب كبير، وجهاد للنفس عظيم، وليس مجرد دعاوى وشقشقات.. الإنصاف عمل صعب خصوصًا؛ إذا كان إنصافًا من النفس، أو شهادة لقرين أو منافس. وهو خصلة لا يقدر عليها إلا الموفقون.

وقد تفطّن لها سيدنا عمار رضي الله عنه حين تحدث عن ثلاث خصال يتم بها الحق: الإيمان بالله، والإنصاف من النفس، وبذل السلام للعالم، وإذا كنا الآن لا ننصف العلماء، ونبخسهم عطاءاتهم، وريادتهم، وسبقهم، إعجابًا بما عندنا، واغترارًا بتجاوزنا بعض أفكارهم، فما أتعسنا وأقبح دخائلنا!

إن حسن تقدير العظماء عظمة، لا يقدر عليها إلا العظماء:

كان الرافعي رحمه الله موظفًا في محكمة طنطا، وكان يكثر التغيب عن العمل لأسباب يراها وجيهة، ولما تكرر ذلك منه انتدب رئيسه في العمل مفتشًا إداريًّا ليحقق معه حول تقصيره، وقدر الله أن يكون هذا المفتش هو حفني بك ناصف، الأديب الكاتب الشاعر الخطاط، وهو مبدع يقدّر الناس، وينزلهم منازلهم، فلما ذهب إلى طنطا، وقابل الأستاذ الرافعي، رفع تقريره للإدارة، يأمرها ألا يُقيَّد الرافعي وأشباهُه بقيود الحضور والانصراف، والروتين الحكومي الوظيفي القاتل للهمة، والمثبط لروح العطاء؛ فالمبدع بطبعه ملول، يكره الرتابة، ويحب الانطلاق والحرية، لأنه يرى ذلك أعون له على العطاء والتحليق!

ومن الناس الذين أحس أنهم لا يزالون يقابلون بكثير من التجاهل والجحود المرحوم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي عليه رحمات الله ورضوانه "1882ه 1967م" ذلك المطربش الضخم الفخم، الذي خدم القرآن الكريم والسنة المشرفة خدمات جلّى، لم يطقها كثيرون غيره!

لم يتخرج من جامعة، ولم يحصل على شهادة عالية، كما كتب الأستاذ: محمد سيد بركة، مثل الرافعي والعقاد وابن باز وابن عثيمين، لكنه صنف فريد من الرجال القمم الشوامخ الذين تركوا للأجيال اللاحقة أعمالاً خالدة بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل إيمانهم العميق بخدمة كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

عمل في التدريس، والترجمة، ثم فرغ نفسه بعد ذلك للعلم، والتصنيف. ثم قام منذ أوائل القرن بما يقوم به الكمبيوتر الآن، حين حاول تيسير البحث في القرآن الكريم وفي دواوين السنة الكبرى بحيث يجد الباحث طلبته بكثير من اليسر، حتى إن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله لما أخرج عبد الباقي مفتاح كنوز السنة ذكر أنه كان يمكنه أن يوفر شطر عمره لو كان "المفتاح" قد ظهر قبل ذلك بعدة عقود. يقول هو عنه:

لئن كان كتابٌ من عند غير الله له أوفر نصيب من الصحة، لقد كان هذا الكتاب.. ووالله ما أقدمت على وضعه، وإرهاق نفسي، وإضناء جسمي، وإنهاك قواي في عمله، والدُّؤوب في ترتيبه وتنسيقه، وإعادة مراجعته مرات متعددة، إلا لما أيقنت من شدة الحاجة إليه، وفقدان ما يسد

مسده مما ألف في بابه.

لزم الشيخ رشيد رضا، وأفاد منه، ثم تطلع إلى ترجمة كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي فأرسل إلى الدكتور فنسنك Wensinck يطلب منه إذنًا صريحًا بالترجمة باعتباره مؤلف كتاب (مفتاح كنوز السنة) Handbook Of Early Mohamedan Tradition واستجاب له الدكتور فنسنك، ولم يكتف بالموافقة فحسب بل أرسل إليه الفصل الأول من المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، فاطلع عليه، ووجد به أخطاء كثيرة، فضمنها كشفًا أرسله إلى الدكتور فنسنك، فسُر لذلك، وطلب منه فنسنك تصحيح (بروفات) المعجم، ومضى في ذلك إلى آخر حياته. 

وقد تخاطف العلماء هذا المعجم أول ظهوره، حتى إنه كان يباع قبل أكثر من خمسين سنة بخمسة آلاف ريال سعودي، كما سمعت من بعض المشايخ والمعمَّرين، حين كان الآلاف الخمسة هذه تساوي ثروة كبيرة فعلاً.

وقد بقي هذا المعجم زمنًا طويلاً الذراع الأيمن لطلاب الحديث النبوي الشريف، حيث جمع أحاديث الكتب الستة إضافة إلى الموطأ ومسند أحمد وسنن الدارمي!

وقد حدث أن الشيخ محمد عبده في مطالعته للقرآن الكريم كان يأتي بالآيات المتشابهات، وسأله الشيخ رضا أنّى له هذا؟ فأجاب الشيخ محمد عبده بأنه يستعين بكتاب عنده باللغة الفرنسية لمؤلفه (جول لابوم). 

وبعد موت الشيخ محمد عبده بحث الشيخ رضا عن الكتاب في تركته فلم يعثر عليه، وأفضى بما في نفسه إلى الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، فقال له: هذا الكتاب عندي باللغة الفرنسية، فطلب منه أن ينقله له، فرحب بذلك، وقام بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، وقدمه إلى الشيخ رشيد رضا سنة 1924م! وفي سنة 1934م جاء أحد أقارب الشيخ محمد رضا وعرض عليه، طبع الكتاب وفعلاً تم طبعه (عن: أ. محمد سيد بركة).

كما جمع عبد الباقي رحمه الله الأحاديث المتفق عليها في "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان"، وصنف معجم غريب القرآن، كما فَهْرسَ موطأ مالك، وسنن ابن ماجه، وصحيح مسلم، وخرّج وحشّى الكشاف، وصنف (تيسير المنفعة بكتابي مفتاح كنوز السنة) والبخاري ومسلم، ثلاثة أجزاء، و(معجم غريب القرآن) وفهرس (موطأ الامام مالك) و(سنن ابن ماجه) و(صحيح مسلم) وأضاف إليها شروحًا، وخرج الأحاديث والشواهد الشعرية في كتاب (شواهد التوضيح والتصريح لابن مالك) وخرج أحاديث (الأدب المفرد للبخاري). وله (جامع الصحيحين) و(أطراف الصحيحين)، و(جامع المسانيد) و(المسلمات المؤمنات: ما لهن وما عليهن، من كتاب الله والحكمة)، وأشرف على تصحيح (محاسن التأويل) في سبعة عشر جزءًا للسيد جمال الدين القاسمي. وكان يقول الشعر في صباه.. 

يقول عنه الأستاذ أحمد تمام رحمه الله: 

أطال الله في عمر محمد فؤاد عبد الباقي حتى بلغ العقد التاسع، لكنه ظل متمتعًا بصحة موفورة، ونشاط لا يعرف الكلل، وحياة منتظمة أعانته في إنتاج الأعمال التي يحتاج إنجازها إلى فريق من الباحثين، وبارك الله فيما كتب، فانتشرت كتبه شرقًا وغربًا، وعم الانتفاع بها، وظل يؤدي رسالته حتى لقي ربه في سنة (1388 ه/1967م). ليموت رحمه الله عن 86 سنة قضاها في خدمة القرآن والسنة، ويترك لنا زادًا لا غنًى لأحد عنه.

ولم يكن لمثل هذه الأعمال العظيمة أن ترى النور لو لم يكن وراءها صبر شديد، وعزيمة قوية، ودقة متناهية، وحياة منضبطة، وتوحيد للهدف، وتجرد وإخلاص، وهكذا كانت حياة الرجل، كما كتبت ابنة أخيه اللامعة الأستاذة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد رحمها الله تصور حياة عمها بقولها:

"وحياة الرجل الخاصة تدخل في باب الغرائب، فنحن نسميه صائم الدهر، فكان يصوم الدهر كله لا يفطر فيه إلا يومين اثنين هما أول أيام عيد الفطر، وأول أيام عيد الأضحى، وطعامه نباتي، وكان يصوم بغير سحور.. أي إنه يتناول وجبه واحدة كل 24 ساعة، وكان محافظًا في كل شيء، فزيه يتكون من البدلة الكاملة صيفًا وشتاءً.. وكان زاهدًا في الاجتماعات والتعارف، يفسر هذا وكأنه يعتذر: إن التعرف إلى الناس، تقوم تبعًا له حقوق لهم والتزامات واجبة الرعاية والوفاء، وليس عندي وقت لهذا، ولا أنا أطيق التقصير فيها لو لزمتني".

ومما عرفته عنه أنه كان شاعرًا، أدرج اسمه في موسوعة البابطين لشعراء العربية، ومما أوردته

من شعره قصيدة بعنوان: صحا القلب:

صحـا القـلـب مـن ذكرى حـبـيب ومـنزلِ.....وبـات عـلى وعـد مـن السّعـد مقبــــلِ

فلـم يـتطرَّبنـيْ غزالٌ مـــــــــــــــربَّبٌ.....ولـم يُشْجِنـي قـدٌّ ولا طَرْفُ أكحـــــل

فقِدْمًا سَلاهُ القـلـب وانفك هـــــــــازئًا.....بـمـا بث فـيـه مـن جـوى وتـمـلـمــــــل

وإن لـم يـزن عبـد الـحـمـيـد قصـــــائدي.....فلا كـنـتُ فـي هـذا الـمقـــام بأول

وكـم لك فـي إغفـاءة الفجـر يـقـــــــظة.....لـتـرتـيل آيـات الكتـاب الـمــــــــنزَّل

تـمخّض عـن فكْرٍ يذبُّ عـن الـحِمـى.....ويحـمـي حـمـاه عـن عــداةٍ وعذَّل

وقال في قصيدة عنوانها: الله أكبر: 

الله أكبر! هـذا الـمـجـدُ والــــــــحسبُ.....وذاك قـولـي! عـداه الـمـيــــــنُ والكذبُ

سمـوتَ بـالعـرش حتى مـا يـطـــــــــاوله.....سـواك تسعـده الأرمــــــــــــاحُ والقُضُب

بـلغت مـنه الـذي يشفَى الفؤاد بــــــــه.....فلـيس يثْنـيك عـنه الـحــــــــادثُ الأشِب

رقيـت أعـلى مـراقـيـه وقـــــــــد عجزتْ.....عـن نَيْلهـا عَجَمُ الأمـلاك والعـــــــــرب

قـدمت فـيـهـا ثلاثـيـنًا ومـــــــا فتئتْ.....تـرجـوك يـا خـير مـن تزهى بـــــه العُصَب

كرَّسْتَ نفسك فـي تأيـيـــــــــــــد مَنْعَتِهِ.....ولـم يُثَبِّطْكَ لا لهــــــــــــــوٌ ولا لعب

شـيّدته بـالـحِجـا والـحِلـم فـالـــــتَزَمتْ..... أسـاسه واستـوى الأوتــــــــــادُ والطُّنُب

كـم مـرةٍ كـاده الخُوّان فــــــــــارتصدت.....لكـيـدهـمْ خِيرة الإخـــــــــوان والصُّحُب

حتى استقـروا وقـد بـاؤوا بخـيبتهــــــم.....يشفـيـهـم الـمضنـيـان، الــــبؤسُ والكرب

وأنـت أنـت عـلى العـرش الـمـصـون حـــوا.....لَيْكَ النجـوم الـدراري عـنك لا تجـــب

لكن من يهتم الآن بعبد الباقي؟ من كتب عن سيرته؟ 

من تحدث عن أعماله العلمية، ونوّه بخدماته الجليلة التي نحن عالة عليها، متأكلون منها، في الوقت الذي تطاردنا فيه صور وأخبار الكابتن أحمد لوبيز، والهداف شوسي، والسنترهاف باك لولي عبده؟

لكم أتمنى على الله تعالى أن يهيئ بعض ذوي الهمة، لكي يعدوا تراجم منصفة عن هؤلاء المنسبين، ويترجموا لهم، لعل ذلك أن يكون سدادًا لجزء من حق نبخسه..

وويل للمطففين.