الشيخ محمد عدنان غشيم صفاتُه ونشاطُه (3)

1-  صفاتُه وأخلاقُه:

        كانَ ولا زالَ الشيخُ متوسط الطولِ، ملئَ الجسمِ، متوسطَ اللونِ يميلُ إلى البياض، لحيتُه تزيدُ عن القبضةِ بقليلٍ، إذا مَشى يمشي بوقارٍ وسكينةٍ، طويلَ التأمُّلِ.

متميزًا في قولِ كلمةِ الحق، متميزًا في علمِه وفتاويه، جمعَ بين الأصالةِ والمعاصرةِ، وهو متفردٌ على كثيرٍ من العلماء بأُخوَتِه للجميع، ومحبتِه للصغير والكبير، وتواضُعِه الجمِّ الذي ساعدَه على أنْ يسكنَ القلوبَ ويتربع عليها.

وقد عُرف عن الشيخِ تواضُعه ولطفُه ورفقُه وحرصُه على مخالطةِ الناس.

ومِنْ لطفِه وتواضعِه ورفقِه ما كانَ يُلاحظ من وقوفه للناسِ عنَّد باب جامعِ أبشير باشا بعد خطبةِ وصلاةِ الجمعة(1)، يجيبُ عن أسئلتهم ويحلُ إشكالاتهم، ولا يستطيلُ وقوفَه في حر الصيفِ أو بردِ الشتاء، الابتسامةُ لا تُغادر مُحياه، لطيف المعشر قريب النفس، تكسوه مهابةُ العالم في حديثه وشخصيتِه وسمتِه، غيرَ أنَّ سماحتَه وتواضعَه تُقربه منهم، رقيقَ القلبِ سريعَ البكاء.

ولمْ يصل الشيخُ إلى ما وصلَ إليه من مكانةٍ في قلوب الناسِ بمجردِ المصادفة، ولكنْ مَرَدُّ ذلك إلى توفيقِ الله عز وجلَّ أولًا، ثمَّ إلى ما كان يتحلى به من أخلاقٍ فذَّةٍ التزم بها، وحافظَ عليها طوال أيَّامه.

ولا بأسَ من الإشارة ِإلى بعضِ ما نعرفُه عنه من الأخلاقِ الحميدة فمِنْ ذلك:

1-  الحافظةُ النادرةُ التي كانت أقوى سببٍ في تحصيلِ ثروةٍ علميَّة واسعةٍ بُنيت على محفوظاتِه التي عَلِقت بذاكرتِه أثناءَ تعلمِه ومطالعاتِه وتدريسِه، فكانت الأساسَ القويَّ لمقدرتِه على استنباطِ الأحكام، ومعرفةِ الأدلةِ التي تُبنى عليها، وتخريج الأحاديث وأسانيدها، فأفادَ بذلك طلبةَ العلمِ فوائدَ جمة لمْ يبخل فيها على أحدٍ.

2-  ومِنْ أخلاقِه البارِزة: الإخلاصُ في العمل، فلم يكن يومًا طالبَ شهرةٍ، ولا باحثًا عن سُمعة، بل كانَ عملُه كلُه لله يبتغي ما عندَه، يجتهدُ في تحري الحق، ويجتهدُ في الدفاع عن الحق، لا يأخذُه في ذلك ضعفٌ، ولا يعتريه طمعٌ، ولم يُعرف عنه أنَّه تحدث عن أعمالِه على جلالتِها وكثرتِها.

3-  طهارةُ قلبِه، فكانَ لا يحملُ ضغينةً على من أساءَ إليه، ولا ينتقمُ مِنْ أحدٍ نالَه بأذى، بل كان ديدنُه الصفحُ والتجاوزُ، بل المحافظةُ عليهم، والدفاعُ عنهم أنْ ينالهم أحدٌ بما يعرف أنَّه باطل.

4-  وكانَ حفظه الله على حظٍ وافرٍ من الشجاعة، لا يَخافُ في الله لومةَ لائمٍ، ولا يترددُ في إعلانِ الحقِّ أيَّاً كان المخاطب به، ودافِعُه في ذلك مخافةُ الله وحرصُه على أنْ يخلص ذمتَه مِمَا علقَ بها.

2-  جرأتُه في قولِ الحق:

 قالَ حفظَه الله في لقائِي معَه: كنتُ مرة عندَ الشيخِ نجيب خياطة ودخلَ عليه الشيخُ أحمد المصري(2) وكنَّا نتذاكرُ في مسألةِ حديث «يا رسولَ الله متى جُعلت نبيًا؟ قال: وآدمُ بين الروحِ والجسد»(3).

فقال الشيخُ المصري: وهنالك روايةٌ «وآدمُ بين الماءِ والطين» فقلتُ له بأنَّ هذه الراوية قد حكمَ عليها الحفاظُ بالوضع.

فاعتبرَ الشيخُ المصري بأنَّ هذا اعتراضٌ كبيرٌ عليه وإهانةٌ لقدره، ولكنَّ الشيخَ نجيب رحمه الله دافعَ عن الشيخ عدنان وقالَ مخاطبًا الشيخ المصري: (بدلًا من أنْ تُشجع الشيخَ عدنان على قوله الحق ومطالعتِه لعلومِ الحديث تؤنبه؟).

وكانَ عمر الشيخ عدنان آنذاكَ لم يتجاوز التسعةَ عشرَ عامًا.

وحدثني كذلِك قائلًا:

«كانَ أحدُ الشيوخ يشرحُ حديثًا موضوعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل للشيخِ عدنان بأنَّ الشيخَ الفلاني يشرحُ هذا الحديث فكيفَ تقولُ أنَّت بأنَّه موضوعٌ؟

فقالَ لهم الشيخ عدنان: ميزانُ العلمِ ليسَ الشرحُ ولكنَّ ميزانه الصحة في إسنادِ الحديث من مصادرِه الصحيحة».

ونقلَ لهم كلامَ الإمامِ الشافعي «مَنْ لم يسأل مِنْ أين؟ فهو كحاطبِ ليلٍ يحمل على ظهرِه حزمةَ حطبٍ، فلعل فيها أفعى تلدغه»(4).

3-  قوةُ حافظتِه ومواهبِه الفطرية:

هذا ومِنَ المستفيضِ أنَّ الشيخ حفظَه الله كثيرَ الدأب على المطالعَة في مختلفِ الكتبِ وتدريسِها، وهذه المطالعةُ مصدرٌ غنيٌ لتنميةِ حصيلتِه العلميةِ وتوسيع أُفُقِه، أعانَه على ذلك ما عُرِفَ عنه من حدةِ الذكاء، ورجاحةِ العقل، و قوةِ الحافظة، والسبب في ذلك يرجعُ إلى توفيقِ الله أولًا، ثمَّ إنَّ الشيخَ لا ينفكُ عن الأذكار، لا يزالُ لسانُه رطبًا من ذكر الله، دائمَ الأذكار، وهذا يلحظه من شاهدَ الشيخ ولو للحظة، وهذه الحافظةُ كما قال: «نتيجة استمرار البحثِ والمراجعة، وأنا في كلِّ مناسبةٍ إسلاميَّةٍ كشهر رمضان، والأعياد، والحج، أراجعُ أحكامَ هذه المسائل وأجدِدُها في ذاكرتي»، وعنَّد نهاية كلامِه ذكرَ هذه الأبيات :

«وليسَ اكتسابُ العلم يا نفسُ فاعلمي=بميراثِ آباءٍ كرامٍ ولا صهـري

ولكنْ فتى الفتيانِ مَنْ راحَ واغتدى=ليطلبَ علمًا بالتجلُد والصبــر

فإنْ نالَ عاشَ في الناسِ ماجدًا=وإنْ هو ماتَ قالَ الناسُ بالغَ في العذر

إذا هجعَ النَّوامُ   أسبلتُ عَبرتي=وأُنشدُ بيتـًا وهو من ألطفِ الشِعـر

أليسَ من الخسرانِ أنَّ لياليًا=تمرُ بلا علمٍ وتُحسب من عمري» (5)

4-  نشاطُه وجهودُه في مجالِ الدعوة:

       لقدْ كانَ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأثرَ الكبيرَ في توجيه الشيخِ علمًا وعملًا، فتوجَّه نحو المنهجِ الصحيح، عملًا بالقرآنِ والسنة، مستعينًا بفهمِ الأئمَّة الأعلامِ من السلف الصالحِ دونَ تعصبٍ لأحد منهم أو عليه، وهو كما قالَ لي: «أقدمُ النصحَ لمن أعرفُ ولمنَ لا أعرف، وقد شاركتُ في السفر للدعوةِ إلى الله عز وجل في القرى مع والدي ومعَ الشيخِ  بكري رجب  والشيخِ أحمد القلاش  والشيخِ مصطفى مزراب  حيثُ كنتُ أسافرُ بصحبتِهم وخدمتِهم كلَّ يومِ اثنين، وأحيانًا يمتدُ سفرُنا إلى بعضِ المحافظات، وكنَّا نسمِّيها سفرة الدعوة والإرشاد).

5-  المنهجُ الذي يتبُعُه في خطبةِ الجمعة:

         تميزتْ خطبةُ الجمعةِ عند الشيخ حفظَه الله بالمعالجاتِ العميقَة للمسائلِ الحياتية الحادثَة، مع ملاحظةِ الاختصارِ والإيجازِ، وكانَ له حفظَه الله أسلوبه المتميزِ في الخطابة، الذي يلحظُ معه سامعَه إخلاصَ الشيخِ لله تعالى، وشدةِ نُصحه للناس، وتميزتْ خُطَبه بأنَّه كانَ يرتجلُها ولا يقرؤها من ورقة.

       فكانَ مسجدُه مُتجهًا لطلاب العلم(6) ولعددٍ من وجهاءِ الناس، إضافةً لعامَّة النَّاس، فكانَ المسجدُ على صغَره يَغُصُ بالمصلين، وقدْ قالَ حفظَه الله عَنْ منهجِه في الخطبةِ: «منهجي في خطبةِ الجمعة هو الإكثارُ من نصوصِ حديثِ رسول صلى الله عليه وسلم حيثُ إنَّ لي رغبة في إسماعِ العوامِ الأحاديثَ النبويَّة».

الخاتِمةُ وفيها وصيتُه لطلبةِ العلم:

احرِصْ يا طالبَ الحديثِ -أعانني الله وإيَّاك-على حِفظِ ما حصلتَه مِنْ العلمِ بالعملِ له ونشرِه.

 واحرِصْ على ما تُحصله بجهدٍ واجتهادٍ في الطلبِ على تقوى اللهِ تعالى والبعدِ عن المعاصي.

 وليكنْ لكَ فيمن سبقَ مِنْ أهلِ العلمِ قدوة فاقرأ سيَرَهم، وانظرْ جهدَهم، وتأمَّل في أعمالِهم.

 ولا تنقطعْ عَنِ المطالعة وإدامةِ النَّظر في الكتب وملازمةِ المشايخِ المختصين بهذا العلم، والسؤالِ عن كلِ ما يعترضك مِنْ إشكالات، والإكثار من الرِحَلِ وملاقاةِ العلماء.

 وقديمًا قالوا: «منْ لا يرحلُ لا يُوثقُ بعلمِه»، والتقليل من الاختلاطِ بالنَّاس، كما قال الإمام ابن معين عندما سُئل ما تشتهي في هذه الحياة فقال: «بيت خالٍ وإسنادٌ عالٍ»(7).

وأخيرًا

أُوصي طلبةَ العلمِ والنَّاس جميعًا بمعرفةِ منزلةِ العلماءِ وفضائلِهم وأنَّ ندافع عنهم في حياتِهم وبعد مماتِهم وأنْ نُذَكِّر الناسَ بقول ابن عساكر: «لحومُ العلماءِ مسمومة»(8)، وأنْ ننصحَ الجميعَ بالرجوع إلى العلماءِ حالَ الفتنةِ لأنَّهم أعلمُ الناسِ بحالِها، وأنْ لا ننجرِفَ وراءَ الأفكارِ المنحرفةِ التي تُهلك الأممَ قبلَ أنْ تُهلكَ النفوس.

الحلقة الثانية هــــنا

=====-

([1]) أفادني بذلك الشيخ أمين تبليس إمام جامع أبشير باشا.

(2) هو الشيخ أحمد بن محمود المصري، ولد سنة: 1884م، إمام وخطيب مسجد تلبوغا (ساحة الملح) توفي سنة: 1984م، كُتب ذلك على قبره في نفس مسجده ولم أجد له ترجمة في كتب التراجم.

(3) «مسند أحمد»: 4، 66.

(4) «الكامل في ضعفاء الرجال»: 1، 206.

(5) «غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب»: 2، 444.

(6) وقد وكلَني مرة بخطبة عيد الفطر وحضرها بنفسه.

(7) «فتح المغيث بشرح الفية الحديث للعراقي»: 3، 338.

(8) «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري»: ص 29.