ذكرى مرور ٩٥ عاما على وفاة العلامة الشيخ محمد بن جعفر الكتاني 

اليوم 16 رمضان الأبرك، ذكرى مرور 95 عاما لوفاة شيخ الإسلام، وعلم أئمة الأعلام؛ أبي عبد الله محمد بن جعفر الكتاني الإدريسي الحسني، رضي الله عنه، المتوفى بفاس في السادس عشر من رمضان عام 1345..

لم يكد يبلغ أحد من علماء القرن المنصرم، الشأو الذي بلغه شيخ الإسلام محمد بن جعفر الكتاني، قدس سره، من حيث إجماع الناس على فضله، وأخذ أكابر العلماء عليه في العالم، حتى المستشرقين، وزعامته الدينية الصوفية بحيث كان يسلك نحو اثنتين وأربعين طريقة، عدا ورده الخاص رحمه الله.

وقد كان فقيها مشاورا، في المغرب، مرجوعا إليه في النوازل والأحكام، من طرف الحكام، والقضاة، والمفتين، فمن دونهم، كما أذعن له الترك وحكام المشرق؛ وناهيك بعالم وقفت على رسالة من ملك مصر الخديوي عباس حلمي الثاني، يطلب منه التشفع لدى العثمانيين لتثبيته على حكم مصر، وأرسل له العثمانيون يطلبون منه التدخل لدى شريف مكة، من أجل عدم الخروج على الخلافة، ويستشفع به الزعيم أحمد الشريف السنوسي لملك السعودية عبد العزيز، من أجل المقام في الحجاز...الخ.

هذا العالم الفذ؛ كان قائما بالدعاية الواسعة لدى المجاهدين ضد الاستعمار في ليبيا، وفي المغرب، فكان يجمع لهم السلاح، والمال، ويقوم بالدعاية لفتوحاتهم، ويحرض الناس على إعانتهم، وهناك مراسلات طويلة مازال محتفظا بها حول هذا التاريخ المجيد...

هذا الفقيه العالم، الذي قام بنهضة علمية في المغرب، ثم رحل للحجاز فقام بنهضة علمية في الحجاز، ثم في الشام فقام بنهضة علمية في الشام، مزج بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعلم والفقه، ويكفي كتابه: "نصيحة أهل الإسلام بما يدفع عنهم داء الكفرة اللئام"، الذي جعله نصيحة لملوك العالم الإسلامي، وعلى رأسهم ملك المغرب حينه المولى عبد العزيز بن الحسن رحمه الله، والذي حدد أحد عشر سببا لتخلف المسلمين، وكيف الخروج منها...

هذا العالم الفقيه المجتهد، الذي كان يحرر المسائل الفقهية على طريقة الاجتهاد المطلق، مع احترام للمذاهب الإسلامية، واعتداد بعلوم الآلة وأقوال الأئمة المتقدمين والمتأخرين، بحيث درَّس جميع أبواب الفقه مرات وكرات، وأضاف وأفتى، واجتهد وأعطى، وحرر ونقح..

إمام الحديث في عصره، وأمير المؤمنين فيه، لم يكد يشتهر عالم بالحديث في زمنه إلى الآن، إلا وقد أخذ عنه، أو أخذ عمن أخذ عنه، وكتاباه "الرسالة المستطرفة في مشهور كتب السنة المشرفة"، الذي نظم فيه كتب الحديث والسنة على علوم المصطلح، و"نظم المتناثر من الحديث المتواتر"، الذي رد فيه على حداثيي عصره، واستدرك على الحافظ السيوطي وما أدراك ما الحافظ السيوطي، إلا نموذجين من إبداعاته، ترجما لعدة لغات، وجميع دارسي علوم الحديث والسنة عالة عليهما..

إمام التاريخ، ولو لم يؤلف سوى كتابه "سلوة الأنفاس، ومحادثة الأكياس، بمن أقبر من العلماء والصلحاء بمدينة فاس"، في ثلاثة مجلدات، الذي لم يؤلف في الإسلام على منواله، تحريرا ومرجعية، وترتيبا؛ لكفاه فخرا، وتبحرا، هذا وقد ألف مؤلفات عديدة في التاريخ، تعتبر مراجع في بابها...

هذا الإمام الذي كانت تصله الاستفتاءات من جميع بلاد المغرب، وشمال إفريقيا، وشنجيط، ومصر، والحجاز، واليمن، والشام، والهند، وجنوب شرق آسيا، وحتى داغستان، وكان يعرض في دروسه الدمشقية آراء المذاهب الأربعة، وأدلتهم، ويحررها تحريرا بحضور مفتي تلك المذاهب، فيذهلون من اطلاعه ومعرفته، وبيانه...

هذا العالم المتبحر في علم الأصول، والتفسير، والكلام، واللغة، والنحو، والبيان، والبلاغة، وما إليها من علوم الفلك والحساب والتوثيق، وغير ذلك، مع اطلاع واسع على الطب والصيدلة، يدل عليه كتابه العظيم الذي لم يؤلف مثله: "إعلان الحجة وإقامة البرهان، على منع ما عم وفشا من استعمال شعبة الدخان"، في مجلد نفيس...

هذا العارف الكبير الذي اجمع أهل الصلاح والولاية على حبه وتقديره وتقديمه، حتى قال إمام الشام الشيخ بدر الدين البيباني الحسني رحمه الله: "يا با؛ أنا ما رأيت ولا سمعت مثل سيدي محمد بن جعفر الكتاني"...

فرحم الله تعالى هذا الإمام الجليل، وأسكنه بحبوح جنانه، وبارك في خلفه وذريته بمنّه تعالى وكرمه، والحمد لله رب العالمين..