الشيخ أحمد الشايط - العالم الفرضي الورع المتذمم
 
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ أحمد بن محمود الشايط
العالم الفرضي، الورع المتذمِّم
(1330هـ ـ 1371هـ) (1912م ـ 1952م)
رحمه الله تعالى

اسمه ونسبه:

هو العالم العامل، الفقيه الفرضي، الورع المتذَمِّم، أحمد بن محمود بن بكري الشايط، الحلبي مولداً ووفاة، الشافعي مذهباً، الشاذلي طريقة كما أفادني خالي الكريم الأستاذ المهندس محمد الشايط حفظه الله، وأنه رأى ذلك بخط الجدَّ رحمه الله: الشاذلي، مع أن الطريقة الشاذلية نادرة بحلب أو غير معروفة.

وعائلة الشايط هي إحدى فروع عائلة >قضيب البان< وهي عائلة حلبية شهيرة ينتهي نسبها إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولادته ونشأته:

ولد الجدّ رحمه الله تعالى في مدينة حلب عام 1331هـ = 1912م في محلة الضوضو من حيّ البلاط التحتاني، خلف الجامع المشهور فيها: جامع سليمان، ونشأ في أسرة متدينة، متوسطة الحال، تمارس مهنة التجارة، فوالده وأعمامه أصحاب دكاكين لبيع المواد الغذائية في تلك المحلة، مما كان لذلك أثر إيجابي في حياته المستقبلية، حيث عاش مضارباً متفرغاً للعلم وأهله.

وكان من إكرام الله له أن دار أهله كانت مشتركة بينهم وبين عائلة شيخ حلب وعلاّمتها فضيلة الشيخ محمد نجيب سراج الدين رحمه الله تعالى، بل كانت العائلتان تشربان من بئر واحدة مشتركة، وكان بينهما رضاع، ولعل هذه المجاورة الحسنة، والرؤية المباركة لفضيلة الشيخ الجليل، كان لها أثر في توجّه سيدي الجد إلى طلب العلم، وحبه له.

 طلبه العلم وملازمته لأشياخه:

التحق سيدي الجدّ أول طلبه للعلم بالمدرسة القَرْناصية إحدى مدارس حي الفرافرة، الحيّ الزاخر بالمدارس العلمية، ثم أُلحق طلابها بالمدرسة الخسروية، المدرسة الجامعة لطلاب المدارس الأخرى، وكان شيوخها ومدرِّسوها من العلماء الراسخين علماً وصلاحاً وتُقى، فتابع دراسته بها طالباً منتظماً إلى أن تخرج مع القافلة الثامنة فيها بتاريخ 9 من شهر ربيع الأول من عام 1352هـ، الموافق 1 من شهر تموز من عام 1933م، بتقدير الدرجة الأولى، وكان من زملائه في التخرج ذلك العام فضيلة العلامة عالم حماة وفقيهها الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى بتقدير الدرجة الأولى ممتاز.

ومما يُذكر عن سيدي الجدّ رحمه الله تعالى: أنه كان في سنوات دراسته لا يُدخل عليه شيئاً من رواتب المدرسة، إنما كان يأخذ الراتب ويُعطيه بأكمله لأحد زملائه فيها، ليستعين به على متابعة دراسته لا يُشغل عنها بفقره، أما الجدّ فكان ميسوراً بيسار أهله.

وكان لسيدي الجدّ ملازمة تامة لثلاثة من أعلام علماء حلب وأوليائها: فضيلة الشيخ محمد نجيب سراج الدين، وفضيلة الشيخ محمد سعيد الإدلبي، وفضيلة الشيخ ياسين سريو (الموقت) رحمهم الله جميعاً.

وقد اشتهرت صلته وفاقت لفضيلة الشيخ محمد سعيد الإدلبي حتى عرف به، وتدرج على يديه طالباً ومتعلماً حتى وصل إلى محل ثقته، ومن خَبَر ذلك:

أن من المدارس العلمية في حي الفرافرة: مدرسة الدليواتي، كان شيخها ومدرسها العلامة الزاهد الشيخ أحمد المكتبي الشافعي رحمه الله، ثم آل التدريس فيها إلى تلميذه الشيخ محمد سعيد الإدلبي الشافعي، فكان إذا عَرَض له ما يؤخّره عن حضور الدرس يُنيب عنه سيدي الجدّ، وهو شافعي المذهب أيضاً، وهو إذ ذاك في شبابه، وهذه ثقة غالية لها قدرها في حياة الجدّ.

وحصل مرة أن سيدي الوالد كان في عقد قران، وكان جلوسه بجانب فضيلة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله، وقام بتقديم الضيافة عدد من الشباب، منهم خالي الأستاذ المهندس محمد الشايط، فعرَّف سيدي الوالدُ فضيلةَ الأستاذ الشيخ أحمد البيانوني بخالي وقال له: هذا الأخ ابن عمي فضيلة الشيخ أحمد الشايط، فابتسم الشيخ مسروراً وقال له: نعم، عكاز الشيخ سعيد الإدلبي.

فالحمد لله الذي منَّ على الجدّ بأن عرف بشيخه، وربط اسمه باسمه:

من عاشر الأشراف عاش مشرفاً

أما صلته الوثيقة جداً بفضيلة العارف بالله سيدي الشيخ ياسين سريو رحمه الله: فتظهر من أول أيام شباب الجدّ، حينما أراد الزواج والتأهل، وتمَّ ذلك على يد الشيخ، فهو الذي دلَّه على ابنة صديقٍ له هو الحاج نديم الأوبري رحمه الله، فخطبها وتزوّجها، وهي سيدتي الجدّة المرحومة عائشة أوبري رحمهما الله تعالى.

وكان الشيخ ياسين مقدَّماً عزيزاً في نفس سيدي الجد، لا يعدو رأيه، ولا يخرج عن مشورته، فهو شيخه الروحي، وكذلك كان الجدّ محبَّباً إلى الشيخ، مدللاً عنده، بحيث إنه لما توفي الجدّ نقل فضيلة الشيخ نفسه وزوجته إلى بيت الجدّ بحي الفرافرة، وسكن فترةَ سنة ونصف إيناساً وتكريماً لتلميذه فقيدهم، إلى أن تزول عنهم وحشة الوفاة، تغمد الله الجميع برحمته.

أما الميول العلمية لسيدي الجدّ فكانت نحو علم الفقه الشافعي، وعلم الفرائض خاصة، وكان قد اشترك مع زميله فضيلة الشيخ حسن بركات، رحمهما الله، في طبع متن السراجية في علم الفرائض، وإذا ذكر الشيخ أحمد الشايط ذُكر بعلم الفرائض.

وكنت سمعت من فضيلة سيدي الوالد حفظه الله تعالى: أن الأستاذ الشيخ سامي البصمه جي ـ أستاذ الفرائض المتمكن في المدرسة الشعبانية ـ عرف أن الوالد صاهر عائلة الشيخ أحمد الشايط فقال له على البديهة: >ذاك الفرضي<.

أما تمكنه في الفقه: فيدل عليه ما سمعته من سماحة سيدي الوالد وهو: أن فضيلة الشيخ العالم الصالح الفقيه النحْوي الشيخ أحمد شهيد رحمه الله سأل الوالد: عمن أصهر إليه، فقال له: من ابنة الشيخ أحمد الشايط، فقال له: عمُّك هذا غلبني وغلب الشيخ سعيد الإدلبي، كنا مرة في زيارة الرجل الفاضل الوجيه الحاج حسن عتر رحمه الله بعد عودته من الحج، وسألنا عن حكم فقهي حصل معه في الحج، فأفتيته أنا والشيخ سعيد بقول، وخالفنا عمك الشيخ أحمد، فأفتاه بقول آخر، ثم تبيَّن لنا صواب فتوى عمك، وخطأ فتوانا، رحمهم الله تعالى، وصار الشيخ أحمد شهيد يكرر هذا القول على سيدي الوالد عند كل لقاء تقريباً.

 عمله وتجارته:

ترعرع سيدي الجدّ في بيت اكتساب وعمل، يمارس أهله التجارة، فنشأ بينهم بعقلية تجارية، لكنه أضاف إليها العقلية الشرعية، فكان شيخا تاجراً ـ وكان هذا مألوفاً في مدينة حلب وغيرها ـ وكان يحبّ أن يعيش من كسب يده، ويأكل من حرّ ماله، يتنزه عن راتب الدولة، وكان مما توجّه إليه المشاركة في معمل النسيج، وافتتاح متجر في خان الوزير يبيع فيه من هذه الأقمشة، ثم قام مع مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال لتأسيس أول معمل للإسمنت في مدينة حلب، فأقاموه، وكان هو عضواً مؤسساً في مجلس إدارته يحضره بزيِّه العلمي، وبعد انتهاء دورته الأولى لم يرشح نفسه للعضوية ثانية، لخلاف نشأ بينه وبين أعضاء مجلس إدارته يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 ورعه وتذمُّمه حرصه على اللقمة الحلال:

كان لسيدي الجدّ في كل جانب من هذه الجوانب قصص وأخبار.

فمن ذلك: أن إدارة الأوقاف بحلب عَرَضت للبيع عقاراتها الوقفية وقفاً ذُرّياً، وممن تقدم لشراء عقار يسكنه هو الحاج نديم الأوبري ـ الرجل المبارك ـ عمّ سيدي الجدّ، والد زوجته، ولما كان المشهور عن جمهور أهل العلم عدم جواز ذلك، امتنع الجدّ رحمه الله عن زيارة عمّه الحاج نديم، بل إنه منع زوجته ـ سيدتي الجدّة ـ عن زيارة أهلها، لئلا يتمتعا بمكان غير شرعي، ثم أذن لها بالزيارة، خوفاً من قطيعة الرحم.

ومن ذلك أيضاً: حرصه على اللقمة الحلال، حتى إن شيخنا سيدي الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله كان يصفه بهذا الوصف ويقول: كان رحمه الله متذمِّماً، كان يأتيني أحياناً ويقول لي: كُلْ من هذا فإنه حلال.

وحرصه على الحلال ومراعاته للذمة هو السبب الذي أفضى به إلى ترك عضوية مجلس الإدارة في معمل الإسمنت.

وقصة ذلك: أنهم ـ كغيرهم حتى زماننا ـ خلال اجتماعاتهم تُقدَّم لهم ضيافة القهوة والشاي ونحوهما من ميزانية المصنع، والميزانية من مال الشركة العامة لكل المستثمرين، وهذا تصرُّف في مال عام بغير إذن أصحابه، فعارض الجدّ هذا التصرف ورغب أن يكون من مال الأعضاء المستفيدين من هذه الضيافة، وامتنع هو عن الأكل والشرب، ومجلساً بعد مجلس، ومرة بعد مرة، لم تكن منهم موافقة، ولا كان منه تراجع، فارتأى عدم تجديد ترشيحه، وآثر البعد عنهم والتفرغ العلمي، وهذا الورع معروف عن غيره من علماء بلدنا، والحمد لله.

ومن ذلك أيضاً: وهو معدود من أخباره مع العلم وطلابه: أنه كان رحمه الله يحرص على كرامة طلاب العلم، من أن يبقى أحدهم في عوز مادي، فكان يسدّ حاجة من يعرف فيه ذلك، عن طريق غير مباشر، ومن جملة ذلك ما أخبر به سيدي العلامة الرباني الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله تعالى لوالدي، أن الجدّ كان يعطي لسيدي الشيخ عبد الله معونات مادية لمن يثق به من طلاب العلم.

ومن ذلك أنه كان يتخيَّر طالب علم بين الحين والآخر، ممن يتوسم به الخير والصلاح، والنباهة والنجابة، ليرسله إلى الأزهر فيكرمه بتفريغه للعلم ومتابعة طلبه، وكان ممن وقع اختياره عليه: فضيلةُ شيخنا العلامة الأجل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى، إلا أن الأمر لم يتمّ، بسبب التورع الشديد الذي كان عند سيدي الجد، والسبب هو ـ كما سمعته من شيخنا رحمه الله ونحن معه في السيارة ـ أن جدي زار شيخنا في غرفته في مسجد المستدامية ـ من أحياء حلب القديمة قريباً من قلعة حلب ـ وكان قد وضع شيخنا على الطاولة >المصباح المنير< وتحته >المنجد في اللغة<، فاستاء الجدُّ لذلك، تورّعاً منه أن يجعل طالبُ علم مرجعاً له في اللغة العربية لغةِ القرآن الكريم كتابَ رجل نصرانيّ!! وخشي أن يكون لهذا ما وراءه من تسامحات أخرى، لا سيما إذا بَعُد شيخنا عن بلده ومشايخه، فاعتذر الجدُّ لشيخنا عما وعده به، ويا ليته لم يعتذر، وسافر شيخنا بعد ذلك على حسابه، وبقيت علاقة الودّ والإخاء بينهما مستمرة، والحمد لله.

 مرضه ووفاته:

ابتدأ المرض بسيدي الجدّ بمرض البواسير، وصار يعاني منه كثيراً فذهب مع زميله الأستاذ نديم الموقع إلى الدكتور أحمد الصيرفي للعلاج، فتبين أن به الورم الخبيث (السرطان) فأخبر الدكتورُ صديقَه نديم الوقع بخشيته أن يكون معه ذاك الورم، وأمره بمتابعة معالجته، إلا أن الصديق آثر عدم إخبار الجدّ بجليّة الأمر، خوفاً على شدة وقوع الخبر على نفس الجدّ، فكان ما كان من انتشاره في الأمعاء الغليظة، مع آلام شديدة، زادت يوماً بعد يوم، اضطر معها للسفر إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، للعلاج في مستشفاها، إذ لم يكن غيره آنذاك.

إلا أن الأمر فات، والقدر وقع، وكان ما كان، حيث شُدَّ رحمه الله أسير آلامه مدة سنتين، عانى فيهما ما عانى، وخاصة في أشهره الأخيرة حين لازم الفراش وهو دون الأربعين، يموت موتاً بطيئاً بين زوجته الشابة وأطفاله الصغار، والموت بين الصغار ألمه صعب ومضاعف، لكنه كان في صبر ومصابرة، واحتساب للأجر عند الله الكريم، وقد سمعت من السيد الفاضل الصالح أبي ياسين محمد سريو رحمه الله تعالى يحكي عن الجدّ أنه عندما كان يعوده، يسأله عن حاله فيجيبه: الحمد لله، من قرارة فؤاده، ويمدّ بها صوته.

وهكذا إلى أن وافاه الأجل قبيل ظهر يوم السبت 16 من شهر ذي الحجة من عام 1371هـ الموافق 6/ 9/ 1952م.

ومن أخباره وهو في هذه المرحلة: أن ابنته الصغرى ـ وهي سيدتي الوالدة حفظها الله ـ كانت تأتيه في مرضه، وهي دون السنتين من العمر، فيجلسها في حجره، وتلعب بلحيته، فيدعو الله تعالى لها ويقول: إن شاء الله تتزوَّجين بشيخ له لحية، فأجاب الله دعاءه، وتزوجت من والدي، أمدّ الله في عمرهما بعافية.

مبشراته:

روى مسلم في >صحيحه< عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: >لم يَبْقَ من مبشِّرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها الرجل أو تُرى له<، وأصله في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأحفظ لسيدي الجدّ مبشِّرتين، الأولى قبيل وفاته، والثانية بعد وفاته.

أما المبشِّرة الأولى: فمن جدَّتي رحمهما الله، قالت: رأيت في المنام أن باب الدار يُطرق، فخرجت وقلت مِن وراء الباب: مَنْ؟ فإذا به فضيلة الشيخ محمد سعيد الإدلبي رحمه الله تعالى، فسألني: الشيخ أحمد موجود؟ قلت: نعم، قال: قولي له: أنا ذاهب إلى البستان فليلحق بي. قالت: فتوفي بعد ثلاثة أيام.

أما المبشرة الثانية: فمن سيدي أبي ياسين محمد سريو (الموقت) رحمه الله، وهو يحكيها عن الرجل الصالح المبارك الحاج محمد بن الحاج حسن عتر، وهو والد الشيخين الكريمين الأستاذين الدكتورين نور الدين عتر، وحسن ضياء الدين عتر، يقول الشيخ أبو ياسين: إن الحاج محمد عتر رحمه الله كان من عادته أن يرى في المنام غالب أصحابه بعد وفاتهم، ويسألهم عن أحوالهم ومآلهم، وممن رآه بعد وفاته: الشيخ أحمد الشايط، قال الحاج محمد عتر: فسألته: ما فعل الله بك يا شيخ أحمد وما حالك؟ فقال: أنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

رحمه الله تعالى، وتغمده برضوانه، وجعل الخلف الصالح في ذريته، وألحقنا به على خير حال من غير ابتلاء ولا افتتان ولا امتحان. والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

نشرت 2018 وأعيد تنسيقها ونشرها 15/2/2021