الشيخ عبد الله إبراهيم آل الشيخ مبارك

الشيخ عبد الله إبراهيم آل الشيخ مبارك

1340-1435هـ

الأخلاق الكريمة الفاضِلة هي التي تٌظهر معادنَ الرِّجال , وتُبيِّنُ خاماتهم، وتُميِّزُ بعضَهُم عن بعض , وهي حِلْيَةُ أهل الفضل ، وزينةُ أهل العِلم ،وسَمْتُ الكرام من الناس.

والمروءة هي تلك الخُلَّةُ الكريمةُ والخَصلَةُ الشَّريفةُ التي تدفع صاحبها للوقوف على مكارم الأخلاق ،وجميل العادات , وإقالة العثرات ، وندى الرَّاحات بذلاً للمعروف ، مع السَّماحة والصَّبر ،والطَّلاقة والبِشْر، أجل تلك هي المروءة وتلك هي التي قال عنها الإمام الماوردي بأنها تجمع أدب الدنيا والدين ،وأنَّها من شواهد الفضل ،ودلائل الكرم ،فهنيئاً هنيئاً لمن كانت المروءة طبعُهُ، والأخلاق الفاضلة سيرتُهُ ،وكان سلوكه حَسَناً وإحساناً بين النَّاس ،فجوهر الدِّينُ المعاملة، وجوهر المروءة التضحية وقد قيل في الأثر لادين إلا بمروءة ،ولامروءة إلا بتضحية ،أجل هو ذاك ولكن أهلها يستعذبون مافيها رغم تكلفته وعنائه ، ويحبون غرامها رغم مشقَّته وعذابه، ونعما قول الشاعر في حال أربابها:

تلذُّ له المروءةُ وهي غُرْمٌ = ومن يهوى يلذُّ لهُ الغرامُ

وقد روى الصَّحابيُّ الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

“ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق “رواه الترمذي وقال حديث حسنٌ صحيح

وهذا ماتُتَرْجِمُهُ المروءةُ من أفعال ،وتصنعهُ من مكارم الأخلاق ،وما أجمل ما يُنسب للإمام علي ابن أبي طالب كرَّم الله وجهه قوله :

لله در فتىً أنسابُهُ كَرَمٌ = ياحبَّذا كَرَمٌ أضحى له نَسَبَا

هل المروءةُ إلَّا ما نقوم به = من الذِّمام وحفظِ الجارِ إن عَتَبا

 وكأني بما تحدَّثت به آنفاً قصدت الحديث عن رجلٍ فاضل ٍ، وعالِمٍ جليل ،وشخصيَّةٍ نادرة ، ذات وجاهةٍ في أسرته ومجتمعه ،ومكانةٍ في بلده ووطنه ، كان عنواناً للمروءة والفضل ، ومثالاً للسماحةٍ والبذل ،وكأن شاعر الحوليات زهير ابن أبي سلمى قصده مع هرم بن سنان بقوله :

 اذا حال حَوْلٌ لم يكُنْ في ديارِهِ = من المال الا ذِكْرُهُ وجَمَائِلُهْ

ترَاهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً = كأنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذي أنت سائِلُهْ

 إنَّه الشيخ الفاضل ،والعالم الجليل، عميد أسرة آل الشيخ مبارك، الشيخ عبد الله إبراهيم آل الشيخ مبارك رحمه الله، وطيب ثراه ،فما لقيته مذ عرفته منذ أكثر من ثلاثة عقود إلا متهلَّلَ الوَجْهِ , مُشْرِقَ المُحَيّا بابتسامةٍ متألقةٍ ما أُحيلاها تبعث الحبَّ والرِّضى والأُنسَ والسُّرور لكل من يلقاه، ويتسع صدره رحابةً لزائريه لتراه كأنه واحةٌ للأنس وروضةٌ الودُّ فيها يفرش أزهاره ،ويضُوع ُطِيبهُ ، لتأنس بلقياه بِحسِّه ،،قبل حلولك بين ضيوفه ومجلسه ، والحال أنَّهُ يُقابل ضيوفه بكل الاحترام والودّ ،ويلقاهم بكلِّ التقديرٍ و التَّرْحاب ،هكذا ببساطةٍ ،ودون تكلُّف لأستحضر هنا قول شاعر النيل حافظ إبراهيم في حديثه عن مكارم الأخلاق كأنه يقصده بقوله:

 إنِّي لتُطربني الخِلالُ كريمةً = طَرَبَ الغريب بأوْبَةٍ وتَلَاقِ

ويهزُّني ذِكْرُ المروءةِ والنَّدى = بين الشَّمائل هزَّةَ المُشْتَاقِ

فإذا رُزِقْتَ خليقةً محمودةً = فقد اصطفاك مقسِّمُ الأرزاقِ

والنَّاسُ هذا حظُّهُ مالٌ , وذا = عِلمٌ وذاك مَكَارِمُ الأخلاقِ

 أجل هكذا عرفته حشداً من مكارم الأخلاق، رجلاً فاضلاً ،يُجَسِّدُ المروءةَ والفضلَ بأخلاقه وأفعاله , لا ينساه من يلقاه ،وضيءَ الوجه، طَلْقَ المُحَيَّا ، مُنفرجَ الأسارير ،ابتسامتُهُ لا تُفارقه ،،ذا هيْبةٍ ووَقَارٍ، قليلَ الكلام ،كبير َالمقام ،حَسَنَ الإِنصات ،طبعُه ُالحِلمُ والأََناةُ كأنه يحكي ويُحاكي أمير قبيلته أشجَّ بني عبد قيس الذي قابل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلَّم وأثنى عليه وعلى أخلاقه فكأني أراهُ محيياً ذكراه بأخلاقه،متصفاً بالخصلتين اللتين يحبهما الله ورسوله

 ذاك الذي أُحدِّثكم عنه هو الذي طلبه عندما كان شابَّاً العالم الجليل , والقاضي الفاضل ،فقيه المالكية الشيخ عبد الله عبد العزيز آل الشيخ مبارك الذي كُلِّفَ بالقضاء في الظهران بأمر من جلالة الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله حيث طلبه الشيخ ليكون معه في محكمة الظهران لما رآه منه من حُسن خُلُقٍ ونجابة ،وماتبدَّى منه معه من أدبٍ ونباهة ، فكان أن عمل معه ابتداءً كاتباً في محكمة الظهران ليترقى بعدها حتى أضحى المدير الإداري في محكمة الظهران وكان لعلمه وفضله يخطب الجمعة في الجامع الشرقي في الظهران ،وينوب عن عمه القاضي الفقيه الشيخ الجليل عبد الله عبد العزيز آل الشيخ مبارك في حال غيابه في جامع الظهران ولما سمع عمه القاضي عن نية شيخنا ورغبته بالزواج عرض عليه كريمته الفاضلة شريفة عبد الله آل الشيخ مبارك لما عرفه عنه ورآه من أخلاقه وسيرته فتزوجها وكانت نعم الزوجة الصالحة ،والسيدة الأصيلة الكريمة، التي تُعينُ على نوائب الدَّهر،كما كانت قليلة المطالب، وتعين على مكارم الأخلاق ،و حسن الضيافة.

 كان رحمه الله مرهف الحس ،مضيافاً، كريماً ،مولعاً بمكارم الأخلاق ،،شديد الإيثار، كثير العطاء ،قريبا من الفقراء و المساكين، ذا سماحةٍ وكرم دون إسراف ،جواداً بما لديه دون تكلُّفٍ، هكذا كان حاله حيث كان سواءً في الظهران حيث بيته مضافة لايخلو من زائريه ،به جزء مستقل مخصص للضيوف ،وله مجلس يومي لضيوفه في الظهران ،وهذا حاله أيضاً في الأحساء حيث مزرعته أم فريش ومجلسه اليومي فيها قبيل المغرب وفيها دار ضيافة لزائريه من المملكة وغيرها.كما حاز على محبة وتقدير جميع من عمل معه وجاوره وتعامل معه وقد رأيت بعضاً ممن كانوا يعملون معه في الظهران يزورونه في المجلس.

 كما أقام بشخصيَّته الفريدة ،ومكانته الرفيعة ،وتعامله النَّادر علاقاتٍ مُتَمَيِّزةً مع وجهاءَ وأعيانٍ من كرام الناس فضلاً ومكانةً من داخل المملكة وخارجها وكانت صلاته بهم لا تنقطع ،وزياراته لهم لا تفتر من جميع مناطق المملكة والخليج .

 وكان يقول ناصحاً لابنه د. ابراهيم بن عبد الله آل الشيخ مبارك حفظه الله : ( يا ولدي خلِّي سراجك قدَّامك، وقَدِّم فعل الخير الآن قبل أن يفوتك ولات ساعة مندم )

كان رحمه الله همُّه الآخرة ،كثير الصمت ،طويل التفكر ،كبير المقام ،كثيرالعطاء ، الكرمُ عنده مِنحةٌ ومِنَّةٌ من الله هداهُ ويهديه إليها ونعمةٌ يشكرهُ عليها ، تحكيه قصصٌ كثيرةٌ عنه ويُفصِحُ نتاج مزرعته من التمر والرطب والتين والعنب والورد الأحسائي عنه حيث يُقدِّمه كهدايا لضيوفه ومعارفه ويأخذه بنفسه إليهم ولبيوتهم ولا أنسى ليلةً قدمت بها إليه في مزرعته أم فريش فلما هممت بالخروج تبعني بكيسين من الورد الأحمر الذي يضجُّ بعبقه، فتبسم ضاحكاً وأعطانيهم بيديه وفهمت قصده من أسارير وجهه ،ولطف فِعله ،ودماثة خُلُقِه قاصداًبذلك كيس ورد لكل بيت ….رحمه الله

كنت أشعر معه بقربٍ وودٍ، وأحظى منه بكبير تقديرٍ واحترام ،وكم حضرت في مزرعته أم فريش من حفلات زواج ،و أُمسياتٍ عامرةً بالأنس والسُّرور يميس فيها النخل وعذوقه مع الشعر والقصيد لأتذكر قصيدةً كنت قلتها في زواج الدكتور محمود محمد آل الشيخ مبارك أستاذ القانون الدُّولي في جامعة الملك فيصل حفظه الله الذي جاءني إلى العيادة ليدعوني تفضلاً وكرماً إلى عرسه ذاك العرس الذي لاأنساه حيث كان مهرجاناً للخطابة وساحةً غنَّاء لفُنُون الأدب والشعر، وقد تميَّز بحضور وجهاء كثيرين من جميع ربوع المملكة والخليج العربي وكان بحق عرساً لاينسى في أم فريش حيث قلت في قصيدةٍ لي عنوانها تباريك ونباريح انتقيت لكم منها وكان مطلعها:

من جِلَّق الشَّامِ أشعاري أُغنِّيها= من قاسَيون وطَوْد المَجدِ أُلقيها

من قُبَّةِ النَّسْرِ في الأمويِّ شامِخةً=تُعانِقُ الأهل في الأحساء تَفديها

من ربوة الغوطةِ الفيْحاءِ أُرْسِلُها = نبضاً زكيَّاً مِدادُ القلب يرويها

 *****

هذي القلوب أتتكم وهي عامرةٌ = بالحُبِّ والودِّ في أسمى معانيها

والحَفْلُ ريَّان ُما أبْهاهُ مؤتَلِقاً = كأنَّما زَفَّتِ الأحساءُ أهليها

والبدرُ يُشْرِقُ يُعطي كُلَّ بهجتِهِ = فَكُلُّهُم رَحِمٌ بالوصْلِ يُدنيها

وكُلُّهُم لهْفَةٌ للضَّيْفِ شيمِتُهُم = طَلاقَةُ الوجْهِ بِشْراً في نواديها

وشائج جُدِلت بالبرِّ حبكتها =ورحمةُجُبِلتْ بالودَِ تُنديها

وفرحةٌ ضَمَّتِ الأحبابَ غامرةً= ماأَجملَ الوصْلَ عُرْساً في أماسيها

ماأَبْهَجَ الحَفْلَ والأنوارُ تَغْمُرُهُ =بَدْراً مُضيئاً ضَحُوكاً في لياليها

ماأَقرب القَلْبَ إنْ بالحُبِّ صِبْغَتُهُ =وأَعْذبَ الودَّ صفواً في مآقيها

وأَرْوَعَ الزَّهرَ منثوراً بساحَتها= والمِسكُ والطِّيبُ يسري في نواحيها

يُدَغْدِغُ الجَمْعَ مِزْمارانِ حِسُّهُما =هذي الأَهازيجُ (أُمُّ فريشَ) تُحْييها

لِتُشرقَ الرَّحْمَةُ المُهْداةُ فيض هدىً=والسَّعْدُ يَغْمُرُ والأطيارُ تُسليها

وقبيل وفاته بأيَّام زرته بعد خروجه من المشفى حيث استقبل زائريه في مجلسه وكأنَّ يودَّعهم وكان مشرق الوجه إلا أن الإرهاق والتعب قد بلغ منه مبلغه فقد أزف الرَّحيل واقترب الوصول وهذا ماكان منه في حياته ،كانت بتوفيق الله زاخرةً بكل خيرٍ وبرٍ وبَذلٍ ومعروف ،وكان فيها مُجَسِّداً للسماحة والمروءة والفضل ومكارم الأخلاق هكذا عرفناه أي والله ولانزكي على الله أحداً رحمه الله وطيَّب ثراه ،وأحسنَ مثواه وتقبَّله في علِّيِّين و الحمد لله ربِّ العالمين.