الشَّيخ محمد عبد اللطيف آل الشيخ مبارك

الشَّيخ محمد عبد اللطيف آل الشيخ مبارك 

1336 هـ – 1433هـ

(قدوةٌ وجامعةٌ للمكارم)

التقيته قبل ماينيف عن ثلاثة عقودٍ من الزمان رجلاً فاضلاً، وشيخاً وقوراً، وأديباً أريباً،لم تتغير ملامحه الدقيقة وتألق محياه عليَّ مذ عرفته ، سليل أسرةٍ عريقةِ الأصل،كريمة المحتد،حازت العلم والدين ، وجمعت الأخلاق والفضل ، ترك لقاءه في قلبي حينها أعمق الأثر، وقرأت في نبض محيَّاه الكثير الكثير ،كنت حينها أعمل مع الحرس الوطني السعودي ، ولم أكن أعلم ماستخبِّئ لي الأقدار بعد ذلك مع هذا الشيخ الجليل … ؟!.

وتمر الأيام مسرعةً بي لتحملني على مطاياها في رحلةٍ جميلةٍ لي في الأحساء تلك التي استوطنتني بلدةً طيبةً، ومعشراً كراماً، وأحبةً أوفياء .

أجل أحببتها وسكنت قلبي وفؤادي، و ألفتها واستوطنت مهجتي وروحي، كانت لي فيها قصصٌ وحكاياتٌ مع الكثير من أدبائها وشعرائها، وتوطدت لي علاقاتٌ و جمعتني لقاءاتٌ مع العديد من علمائها ورجالاتها،لأرجع بذاكرتي لمطلع عام ١٤١٣ هجري حيث اخترت هذا الشيخ الجليل محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ مبارك ليكون كفيلاً لي بعد صدور ترخيص عيادةٍ خاصةٍ لي في الأحساء باستثناء من قبل وزير الصحة حينها بفضل الله ، وكان اختيار الشيخ الفاضل الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ مبارك رحمه الله من توفيق الله سبحانه وتعالى لي .

وقد وافته المنية وانتقل الى رحمة الله تعالى في يوم الإثنين 26/4/1433هـ الموافق 19/3/2012م قبل مايقرب من سبع سنوات ، رحمه الله تعالى ،وأسكنه فسيح جناته ،وأحسبه يرفل في روضةٍ من رياض الجنة في قبره، فهذا حال التَّقيِّ النَّقيِّ الخفيِّ والرجل الصَّالح الصَّفِيِّ ،ولا نزكي على الله أحداً, لكن نشهد والله بما علمناه عنه، ومارأيناه وشهدناه من افعاله وأعماله وقد شهد له القاصي والداني قبل ذلك، وقد شيَّعه حشدٌ غفير من أهالي الأحساء ومحبيه من شتى البقاع والناس شهود الله في أرضه،وألسنة الخلق أقلام الحق، لأبدأ قصتي العملية معه ولقائي له قبل مايقرب ثلاثة عقود حيث ذهبت إليه وبادرته قائلا بحضور نجله النجيب والأخ الحبيب الدكتور قيس محمد عبداللطيف آل الشيخ مبارك حفظه الله حيث قلت له : سأكون تحت كفالتكم فما هي الالتزامات الأدبية من قبلي تجاهكم لقاء هذه الكفالة، وقصدت طبعاً الالتزامات المادية..

قلت ذلك بكل صراحةٍ ووضوح ابتداءً لأنهما أساس نجاح أي عملٍ مشترك، فأجابني والمروءة والفضل يتهادى من محياه المشرق وبادر بابتسامة قائلاً بلغة المطمئن الواثق : دكتور حنَّا عندنا خير وحلال ونحن لا نأكل الحرام).

وكأني به يعيش في حنايا وروح حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما طلب منه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدعاء له بأن يكون مجاب الدعوة فأجابه صلى الله عليه وسلم معلماً إياه والأمة كلُّها كيف يكون المرءُ مجابَ الدعوة بقوله:”يا سعد أَطِبْ مَطْعَمَك تَكُنْ مُجَابَ الدَّعوَة ” أخرجه الطبراني في الأوسط.

هو ما كان حريصاً عليه الحلال الطيب ،واللقمة الحلال رحمه الله تعالى فكان أن نمت شجرة علاقتنا ومحبتنا وأزهرت أغصانها وتفرَّعت لتثمر صروحاً طيبةً متميَّزةً تؤدي خدماتٍ جُلَّى في المجالات الطبية المختلفة حتى نالت في هذا العام ٢٠١٩ جائزة التميز والمرتبة الأولى لنوعية الخدمات الطبية المقدمة من قبلها لمراجعيها وتمَّ التكريم وتسليم الجائزة في الغرفة التجارية في الأحساء.

أجل تعاملت معه ، وعرفته واستكشفت معدن هذا الرجل الذي قلَّ نظيره ،ولا أقول والله إلا ما علمته عنه ، ولمسته فيه عن قرب.

أذكر أني ذهبت إليه ذات مرةٍ لأحدثه عن وضع شركة قلائد الدر وعن تطورها ونجاحها بفضل الله تعالى، ففوجئت به يقول لي: دكتور (نحنا شفنا الخير بوجهك) فعجبت والله من قوله ، وذهلت منه لأن هذا الجواب هو جواب أهل الفضل والمروءة الذين لا يريدون أن ينسبوا لأنفسهم شيئاً تواضعاً ورفعةً واحتساباً، والحقيقة التي هي كعين الشمس في رابعة النهار هي أني أنا الذي رأيت الخيروالفضل في وجه هذا الشيخ الفاضل المبارك رحمه الله وفي وجوه آل الشيخ مبارك النجباء حفظهم الله تعالى ورفع قدرهم في الدارين، وبارك بهم وبذراريهم الى يوم الدين .

كان منزله العامر، عامراً بحق حيث كان على الدوام مضافةً ومزاراً لا يخلو من زائريه ، كان كريم الوفادة ،حارَّ الُّلقيا، نديَّ الرَّاحات ، نار موقده لاتنطفىء.

أجل هكذا كان، وكان هذا حال زوجته المصون كذلك السيدة أم قيس ابنة الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل الشيخ مبارك رحمهم الله والتي كانت كمثله مضيافةً كريمةً أصيلةً نجيبةً قالت عنها زوجتي السيدة براءة ابنة اللواء عبد المعين الشيرازي الصَّباغ (أم أنس )وجدُّها لأمِّها مفتي مدينة حماة العالم الفقيه الشيخ توفيق الشيرازي الصَّباغ رحمهم الله، وكانت زوجتي أم أنس تحبها كثيراً وتُحب لقاءها، وتنشرح بزيارتها، وكان مجلسها كما تقول مفعماً بالود والانشراح ،عامراً بالودِّ والصَّفاء ،حافلاً بالفائدة والسِّيَرِ والأحاديث المفيدة بحيث أنك لا تريد أن تخرج من هذا المجلس حيث رحابة صدر صاحبته الَّذي يتسع للجميع مودةً وحباً ولطفاً وأنساً وأضافت محدِّثةً عنها: كانت امرأةً مثاليةً ، وأماً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وبما تحمله في حناياها من طيبةٍ وبشاشةً وحنانٍ وسماحةٍ ناهيك عن اللطف والترحاب وكرم الضيافة ، كانت دائمة السؤال عني وعن الجميع ،وحديثها الطِّيب بلاتكلف. وسؤالها بلهفةٍ وشوق عند حديثها معي كأنها تتكلم مع بناتها ،حنونةً، حكيمةً حليمةً ، ودُّها ومحبتها تتجلَّى لكل من يفد إليها بمجلسها العامر بكل خير وبرٍ وطيبٍ وأنس كمجلس الرجال، فمنزل الشيخ وما أبهاه بحسِّهم كان عامراً بشقَّيه بالأنس ،قبلةً للزُّوار من داخل البلاد وخارجها، تلقاه كخلية النحل طيلة أيام السنة ،رحمهما الله تعالى.

ومما حباه الله لهذا الشيخ: قلبٌ عامرٌ بالإيمان ، نديٌّ بالخير والبر، لسانه رطْبٌ دائماً بذكر الله ،تترقرق عيناه عند أي موعظة ،وتتندَّى روحه بذكر الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، تفتقده الآن والله زوايا مسجد آل المبارك في حي البصيرة في الهفوف وبخاصةٍ الزاوية الجنوبية الغربية منه، وتحنّ إليه ،لأنه كان يعمرها بصلواته وتلاواته، ويلهج فيها بدعائه وأذكاره، حيث كان حبيباً للقرآن والمسجد حتى لكأنه المقصود بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام عند حديثه عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لاظل الا ظله بقوله في روايةٍ لمسلم: “ورجلٌ قلبه معلَّقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود اليه ”

وأعلم يقيناً أنَّ يداه كانتا مبسوطتان للخير ,ممدودتان للبر،نديتان بالمعروف ،سخيتان لبناء المساجد رحمه الله تعالى

كان عظيم المقام ، ذا هيبةٍ ووقار ، بسيطاً في تعامله ، كبيراً في أعماله ،صريحاً لايحب المجاملة، تميزت علاقتي به وكانت متألقة على الدوام لأنها بنيت على المحبة والاحترام ، ووطدت بالثِّقة والتَّقدير ،وتألَّقت بالتعاون والإحسان .

كان محباً للشام الأرض التي باركها الله في عليائه ،وكانت تنفرج أساريره بذكرها ليتحدث عن ذكرياته فيها ويقول شام ياشام…. ويهزُّ رأسَه وكان من عادته زيارتها سنوياً والسُّكنى بالزبداني لعدة عقودٍ خلت.

وأحمد الله أنه مضى ولَم يدر بما حدث للشام والزبداني بعد وفاته.

وفي يوم وفاته كنت عازماً على زيارته في المستشفى وقلت لزوجتي ذلك، ففوجئت برسالة نجله الدكتور قيس يبلغني بوفاته وانتقاله إلى رحمة الله، فأرسلت له برسالة قلت فيها: رحمه الله وأحسن إليه فقد كان مؤمناً ،برَّاً،محسناً،سبّاقاً إلى الخيرات،وقدم إلى ربٍ كريمٍ عفوٍ غفور،والله يتولى الصالحين عظَّم الله أجركم وإنا لله وإنا إليه راجعون.

لأقول في الختام مانقل عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: (أعقل الناس من ترك الدُّنيا قبل أن تتركه، وأنار قبره قبل أن يسكنه ، وأرضى ربه قبل أن يلقاه، وصلى الجماعة قبل أن تُصلي الجماعة عليه، وحاسب نفسه قبل أن تُحاسبه).

وما أروعها من عظةٍ وموعظة ووالله لاأجد فيما قاله الإمام الشافعي إلا مسكوباً على شيخنا الفاضل صاحب هذا المقال رحمه الله وأحسن وفادته وجمعنا وإياه في مستقر رحمته والحمد لله رب العالمين.