خواطر مهداة إلى الأستاذ محمد سعيد الطنطاوي

 

غضبتُ لـه لمـا رأيـتُ صفاتِـــهِ= بِلا واصفٍ! والشعر تَهْذِي طماطِمُهْ (1)

عندما انحدرنا إلى دمشق لطلب العلم وجدنا البيئة اختلفت علينا قليلاً أو كثيراً ، وكان جُلُّ أساتذتنا من المشايخ بالجبب والعمائم ، وقليل منهم يرتدي اللباس الإفرنجي ، وأستاذ الرياضيات يعتمر الطربوش الأحمر الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وكان لابسوه ينحسرون يوماً بعد يوم . وكان مظهر الأساتذة هؤلاء مفهوماً لا يثير في نفوسنا الغرابة والتساؤلات ، فهذا شيخ يدرسنا القرآن ، وآخر للتفسير ، وثالث للحديث ، ورابع للسيرة النبوية ، وخامس للنحو- والنحو آلة هذه العلوم وغيرها - وسادس للتعبير والإنشاء والخطابة وهكذا .. ثم أفندية للتاريخ والجغرافيا والقراءة والنصوص الأدبية ، وأفندي مصري للعلوم .

إلى أن دخل علينا في يوم من الأيام أستاذ لفت نظرنا وشدنا إليه كما لم يشدنا شيخ أو أستاذ آخر في هذه المدرسة التي كنا نرى فيها في سنتنا الأولى كل يوم شيئاً جديداً . رجل رَبْعَةٌ أقرب إلى الطول ، منتصب القامة ، قليل اللحم ، يرتدي لباساً لا هو بلباس المشايخ الذين رأيناهم ؛ ولا باللباس الإفرنجي الذي غزانا ، وقضى على كل خصوصية لنا . سروال إلى الكعب أو فوقه بقليل ، فوقه كنـزة صوف بقبة مفتوحة من أعلى ، ومغلقة بسحَّاب قصير مشدود إلى نهايتها أغلب الظن أن هذه الكنـزة قد صنعت خاصة للرجل ، وليست مشتراة من السوق . وفوق كل ذلك معطف طويل خفيف مفتوح الأزرار . 

وكان أكثر ما أثار فضولنا غطاء الرأس . فقد كان طاقية ليست مألوفة في بلاد الشام ، ليست طربوشاً ، ولا طاقية بيضاء ، ولا عمامة من العمائم التقليدية . وليست شيئاً مما يرى في شوارع دمشق التي تحوي كل عجيب . يمكن أن تقول إنها باكستانية . وقد شاعت هذه القلانس المسماة بالباكستانية في تلك الفترة تأثراً بالمد الإسـلامي الذي كانت تمثله الجماعة الإسلامية ، وأصبح كثير من أصحاب الاتجاه الإسلامي يلبس هذه الطاقية ، لكن طريقة لبس هذا الأستاذ لهـذه الطاقية تختلف كل الاختلاف عن الطريقة التي تبناها أولئك الرعيل .

فهي عنده غطاء فعلي للرأس ، وليست مجرد شيء يلامس ذروة الرأس ، ويتسنمها دون أن يدخل فيه ، كما كان حال الفيصلية الممسوخة التي أدخلها فيصل ابن الحسين عندما حكم في سورية والعراق ، تخلصاً من الطربوش الذي كان يراه رمزاً للاستعباد التركي بزعمه .

حينما دخل الأستاذ دخل بخطىً واسعة ، وبقامة منتصبة ، رافعاً صوته بالسلام بلغة وئيدة وبلثغة لطيفة بحرف الراء : السلام عليكم ورحمة الله . فنهضنا قياماً في مقاعدنا كعادتنا عند دخول أي أستاذ ورددنا التحية . فكان أول تنبيه منه أن لا نقوم له إذا دخل ، بل نكتفي برد السلام . وحينما سئل من قبل بعضنا : لماذا ؟ أجاب بأن القيام ليس من العادات الإسلامية ، وأن الرسول  علمنا الطريقة الشرعية للسلام ولرده ، وليس منها القيام ، بل نهى صراحة عن ذلك حينما قال : “ لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم ” وقال أيضاً : “ من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار ” . وعلى الرغم من هذه الحجج المقنعة إلا أننا بقي في نفوسنا شيء حول خروج هذا الأستاذ على المألوف ، فما معنى أن لا يثير هذه القضية غيره ، مع أن الآخرين ما شاء الله علماء وشيوخ ولا ينقصهم شيء ؟!

ثم بدأ بالحديث بلغة مسموعة وكلام مفصل تفصيلاً يفهمه كل من يسمعه ، وبأفكار متسلسلة حول الأمة الإسلامية وتاريخها وتاريخ رجالها وعلمائها . وأظن أنه أشار إلى أن للأمة الإسلامية تاريخين : تاريخ معتنى به ، وهو تاريخ الدول والممالك والحروب والمعارك ، ومجيء هذه الدولة على أنقاض تلك ، وهذا الحاكم بعد ذاك . وتاريخ آخر أعظم وأضخم وأصدق تمثيلاً لروح أمتنا وعبقريتها ودورها الحضاري ، ولكنه – واأسفاه – مهمل على المستوى الرسمي والاجتماعي ، على الرغم من وفرة مصادره وغزارة الآثار التي كتبت فيه ، وكيف أننا بحاجة إلى دراسة هذا التاريخ إذا أردنا أن نبني حياتنا العلمية والثقافية ومستقبل أجيالنا على فهم صحيح متكامل لأمتنا وما قدمته من خير للبشرية . وأفاض الأستاذ في هذه الناحية بكلام لا أستطيع تذكر تفاصيله ثم قال :

إن المادة التي سنتناول فيها هذا الجانب من تاريخنا هي ( والتفت إلى السبورة وكتب في وسطها بخطه النسخي الواضح الجميل ) : أعلام الإسلام . وأشهد على نفسي أنني كنت أسمع بـهذا المصطلح حينذاك للمرة الأولى ، وأنني بدأت أحاول مطابقة هذا العنوان على ما سبق وعرضه الأستاذ حتى أفهم العلاقة بينهما ؛ فلم أفهم . ولعل الأستاذ أدرك ذلك مما ارتسم على وجوهنا ، فلم يبق هذا المصطلح غائماً ، بل بدأ بتحليل هذه العبارة لندرك مدى انطباقها على الموضوع فقال :

إن أعلام : جمع عَلَم ، والعلم في أصل اللغة : الجبل ، كما قال تعالى : { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ } [ الرحمن : 24 ] ، أي السفن التي تسير في البحر ، والتي تشبه الجبال ، وكما قالت الخنساء :

وإن صخـراً لتـأتُّم الْهُـداةُ =بـــه كأَنهُ عَلَمٌ في رأســه نارٌ

  أي جبل أوقدت في قمته نار ليراها السائرون في الصحراء من بعيد . وهكذا العلماء هم بالنسبة إلى غيرهم من الناس من حيث المكانة والظهور والشرف كالجبال بالنسبة إلى الأرض من حيث العلو والارتفاع .

والعلم أيضاً : الراية لارتفاعها حتى يراها الناس في الحرب ويلتفون حولها .

هكذا إذن فهمنا أنه سيدرسنا هذه المادة على المنهج وهي مادة “ أعلام الإسلام ” ومنذ ذاك صرنا ننتظر هذه الحصة الأسبوعية الوحيدة بفارغ الصبر . 

ما الذي كان يشدنا إلى ذلك الأستاذ : هو أم مادته ؟ الآن وبعد هذه السنوات الكثيرة التي تحاول ذاكرتي طيها القهقرى أرى أن انتظارنا كان في الحقيقة للأستاذ – مع عدم التهوين من المادة نفسها - . وأقول بكل اطمئنان : إن تعلقنا في الحقيقة كان بالأستاذ وأسلوبه وطريقة تعامله معنا ، لأن هذا التعلق هو نفسه الذي وجدناه حين درَّسنا الأستاذ موضوعاً آخر بعيداً كل البعد عن الموضوع الأول ، وهو موضوع "الفيزياء والكيمياء" في المرحلة الثانوية . وكذلك فإننا حين أصبحنا في الصف الثامن جاء أستاذ آخر ليحل محله في تدريس مادة "الأعلام"، فنَفَّرَنا هذا الأستاذ الفاضل من هذه المادة ؛ كما نَفَّرَنا من كل مادة درَّسَناها من قبل ومن بعد،كالقراءة والنصوص والحديث . ولم نصْحُ من ذلك النفور إلا عندما عاد الأستاذ سعيد إلى تدريسنا هذه المادة ، فأعطيت القوسُ باريها من جديد ، بعد سنتين من انقطاعه عنا .

هناك عدة نواح كانت تجذبنا إلى الأستاذ سعيد الطنطاوي لم نكن نجدها عند غيره من المشايخ والأساتذة - على فضلهم - ومع إقراري بأنني لا أستطيع حصر هذه النواحي ، ولا إيفاءها حقها من التفصيل ؛ فلابد من الإشارة إلى بعضها ، لعل في ذلك عبرة ودرساً لمن يضطلع بقضايا التربية والتعليم ، ولمن يعتني بأساليب الدعوة الناجحة ، فقد كنا نشعر أننا قريبون من الأستاذ ، والأستاذ قريب منا ، ولا يفصلنا عنه ذلك الحاجز النفسي الذي كان يفصلنا عن الآخرين ، ويتجلى هذا القرب في استعداد الأستاذ الدائم للإجابة على الأسئلة أو الاستفسارات التي تطرح عليه . وحتى لو كانت حصته آخر الحصص ، وقبيل انتهاء نـهار الدراسة ، وبعد أن يكون التعب قد أخذ حقه من الأساتذة والطلاب على السواء ؛ كان – حينما يخرج من هذه الحصة ومن غيرها – لا يُرَى ماشياً في ساحة المدرسة وحده أبداً ، بل كان يُرافَق من جماعات من الطلبة إثر جماعات كل منهم حريص على أن يسأل أو يستمع . وحينما نكون معه في الدرس كان الوقت يمضي بسرعة، فطريقة إعداده وأسلوبه في الإلقاء ، وغنى المادة المعروضة لا يترك لنا مجالاً للتشاغل والملل أو الشرود . هذا إلى مشاركة في موضوعات شتى ، فمن استشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف ، إلى اقتباسات من أقوال العلماء وأخبارهم ، إلى استشهاد بالشعر العربي واختيارات لما يناسب المقام .

وبالنسبة لي كانت معرفتي بالأستاذ نقطة تحول في حياتي ، فقبله لم يكن عندي اهتمام خاص باللـغة والأدب ، كان الشعر والأدب بالنسبة لي درساً من الدروس ، وواجبـاً من الواجبات لا أكثر . ولكن حينما جاء الأستاذ ، وبَـهَرَنا بكثرة محفوظه وجودة إلقائه ؛ كان ذلك حافزاً لي للاهتمام بهذا المجال . لقد كنت قبل معرفتي بالأستاذ كغيري أفرح كثيراً حين يطلب منا مدرس النصوص الأدبية أن نحفظ بضعة أبيـات فقط مما هو مقرر من كل قصيدة ، ونتجاهل الباقي ، ولكن الأستاذ أفهمنا أن القصيدة جسـم متكامل يشوهه الانتقاء والابتسار ، وأن هناك جمالاً وراء الجمال القريب الذي تتصف به كثير من الأبيات والمقطعات المشهورة في الأدب العربي ، وهو الجمال الذي يُدرَك حين نرى هذا البيت في مكانه من بناء متكامل . 

لا أزال أذكر مرة حين ألقى الأستاذ على مسامعنا قصيدة طويلة هي : “ موشح العذراء ” لخير الدين الزركلي ، وقدم لها بمقدمة ضافية رسمت لها في أذهاننا الغضة يومذاك الإطار الذي يبرز مناسبتها ، ويفك رموزها التاريخية والنفسية . ثم انبرى ينشد . لم يكن منشداً بليغاً فقط ، لقد كان بالإضافة إلى ذلك ممثلاً يتحكم بالعواطف ، وخطيباً يملك قلوب وألباب سامعيه ، ومؤرخاً يعيد بناء الحوادث التي وقعت حية نابضة ، ومصلحاً اجتماعياً يبعث الأمل ويحدد الوجهة لمن لا يدرون ماذا يفعلون . وباختصار : كانت تجربة بالنسبة لي غير مسبوقة جعلتني أخاطب نفسي : لم لا أكون مثله ؟ هل هذا مستحيل ؟

كم هي القصائد الجميلة والأبيات الفريدة في أدبنا العربي ، يمر بـها كثير من القراء ، وكأنـها كلام عادي لا يعني شيئاً ، وتبقى حبيسة الكتب والورق يعلوها الغبـار ويحيطها الإهمال ، حتى يقيَّض لها منشد مجيد كالأستاذ سعيد ينفض عنها الغبار وينفخ فيها الحياة ؟! .

بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا فأقول : إن سبباً رئيسياً لتعلق الناس بالشعر والأدب هو حسن تقديمه وعرضه . وإن سبباً رئيسياً كذلك لإهمال اللغة العربية وتراجعها وإعراض الناس عن أدبـها وشعرها هو سوء التقديم وفجاجة العرض .

لا يزال عالقاً في ذهني أبيات من موشح “ صقر قريش ” لأحمد شوقي الذي ألقاه علينا الأستاذ وأبدع أيضاً ، وحرك في نفوسنا ما لم يتحرك من قبل ، وهي قوله :

يا شبابَ الشرقِ عنوانَ الشبابْ=حسبُكم في الكرم المحضِ اللُّبابْ

في كتـاب الفخــر للداخــل بــابْ ثمراتِ الحَسَبِ الزاكي النميرْ

سيرةٌ تبقى بقاءَ ابْنَيْ سميرْ

لم يلِجْـــهُ مــن بــني الملــــكِ أمـــــي

في الشموسِ الزُّهْرِ بالشام انتمى

قعـــد الشـــرق عليهــــم مأتمــــا ونمى الأقمارَ بالأندلسِ

وانثتـــى الغـــربُ بهـــم في عُــــرُسِ

صحب الداخلُ من إخوته

وإذا بالشطِّ من شِقْوَته

غلـــب المــــوجُ عـلـــى قوتـــــه حدثاً خاضَ الغمارَ ابنَ ثمانْ

صائحاً صاح به: نلتَ الأمان

فكــأن المــوجَ مـــن جنـــد الزمـــان

فانثنى منخدعاً مستسلما

خضــبَ الجنـدُ بــه الأرضَ دمـــا شاةٌ اغترت بعهدِ الأطلس

وقلــوب الجنــد كالصخــر القَسِــــي

 إنها “ دراما ” دامية تلهب الأعصاب ، وتستثير الكوامن كانت تنسحب أجزاؤها من بين شفتي الأستاذ وأسنانه ، وهو يضغط على هذا الجزء ، ويطلق ذاك ، اختزنتها ذاكرتي ، وأشير إليها هنا مجرد إشارة ، ولا أستطيع - وأنَّى لي؟! – نقْلَها كما هي ، وكما أحس بـها ؟.

لقد كان الشعر بالنسبة للأستاذ أداة أخرى من الأدوات التي يستخدمها للهدف الذي نصب نفسه له ، ولذلك فإن مختاراته ومحفوظاته بعيدة عن العبث الذي يسمونه “ نظرية الفن للفن ” . إن الأستاذ شخص جاد بكل معنى الجدية ، وملتزم أشد أنواع الالتزام ، تدور شخصيته حول الإسلام حيث دار ، وما يختار من شعر يحفظه ؛ كله يتفق ، أو يجب أن يتفق مع هذا الهدف العظيم .

من الميزات التي تميز بها الأستاذ عن غيره من الأساتذة في تلك الفترة نظرته إلى الامتحانات ، فلم يكن الامتحان عنده مناسبة يستعرض فيها الطالب ما يحفظ ، ولكنه أداة للاطمئنان أنه فهم واستوعب ، وميز بين المتشابهات . كانت أسئلته كثيرة وقصيرة ومتنوعة تغطي المنهج كله تقريباً . أذكر أنها كانت لا تقل عن خمسين سؤالاً ، ولكن لا تخف ، ولا يأخذك الرعب والذهول ، فقد كانت طريقته طريفة وفريدة ، كان لا يكتب الأسئلة على السبورة ، بل يطلب من الطلاب أن يضعوا ورقة الإجابة البيضاء أمامهم ، ويكتبوا أسماءهم ، ويستعدوا لسماع السؤال الأول يمليه الأستاذ عليهم ، ليكتب الطالب جوابه مباشرة دون تأخير . ثم ينتقل إلى السؤال الثاني فالثالث فالخمسين . لا مجال للالتفات يمنة ويسرة وفرك الأيدي وطقطقة الأصابع ، لانتظار كلمة تخطف من هذا ، وهمسة تصدر من ذاك ، بل هي جملة ، أو كلمة ، أو اسم ، لا أكثر ، عرف ذلك من عرف ، وجهله من جهل . وعندما يفرغ الأستاذ من إملاء السؤال الخمسين يعطينا أقل من دقيقة للجواب ثم دقيقتين أو ثلاث للمراجعة العامة السريعة ثم يقول: ضعوا الأقلام.. والويل لمن يرى بعد هذا الأمر وهو لا زال حاملاً قلمه! إنه لن تؤخذ منه ورقة الإجابة ، وسيأخذ علامة الصفر في هذا الامتحان ، حتى لو اعتذر باعتذارات البشر جميعاً ، أو أحضر كل جهاز المدرسة شفعاء ، أو أقسم الأيمان المغلظة أنـها آخر غلطة منه ، فالأستاذ لن يتراجع عن قراره أبداً ، وهو نسيج وحده ، ولا تمشي عنده عبارات مثل : آخر مرة يا أستاذ ، وازرعها بلحيتي ، وأنا كفيل ، والله يحفظكم سيدي سامحوه ، وسامحه يا أستاذ الله يكرمك . هكذا هو ، قد اختط لنفسه سياسة لا يحيد عنها قيد شعرة قد تبدو غريبة شيئاً ما ، لأنها تخالف الميوعة المألوفة التي يشب عليها الناس في بلادنا ، ويعوِّدهم عليها مربون ورثوا هذه الميوعة وحافظوا عليها كأنها تراث ثمين تجب المحافظة عليه وتوريثه جيلاً بعد جيل . ولكن هذه السياسة مريحة لكل من الطالب والأستاذ كما أثبتت التجربة ، وآثارها التربوية لا تقدر بثمن .

مما أذكره عن طريقة الأستاذ في الامتحانات أن جميع طلبة المدرسة تقريباً كانوا يجمعون في قاعة كبيرة ، وتجرى امتحانات آخر العام لهم هناك ، وكان جميع أساتذة المدرسة يجتمعون أيضاً ليشاركوا في التنظيم والمراقبة . وفي يوم كان الامتحان في مادة الأستاذ سعيد ، فوزعت أوراق الأسئلة ، وكانت كالعادة خمسين سؤالاً ، وكان أحد أساتذتي قريباً مني يراقب ، فانصرف عن المراقبة ، ووقف خلفي من اليسار يقرأ ورقة الأسئلة الكثيرة ، ولا شك أنه كان مبهوراً بـهذه الطريقة التي ربما كان يراها لأول مرة .

ومما يتميز به أيضاً مخالفته للمألوف إذا لم يكن له أصل . ونعني بالأصل دليلاً من الشرع ، أو بديهية عقلية غير قابلة للمناقشة . وما عدا ذلك فخاضع للتساؤل . فالتقليد ومسايرة الدهماء من أعدى أعدائه ، ومن أول ما يتصدى له بالتحذير منه والاستهانة به وإهماله . وقد كان حريصاً على زرع فكرة استقلال الشخصية والتفكير العلمي القائم على الدليل عند تلاميذه ، وعلى أن لا يكونوا إمَّعات ينساقون دون وعي مع تيارات الباطل . أذكر مرة أنه رأى أحدنا وقد علق شعاراً صغيراً على ياقة معطفه ، فاقترب منه بهدوء وسأله : ما هذا ؟ فأجاب الطالب : ما ترى! فنـزعها ورماها في سلة المهملات خلف الباب وقال : كيف يقبل أحدكم أن يلتقط أي شيء من الأرض أو من القمامة ، ويعلقه في ثيابه مفتخراً به دون تفكير لمجرد أن الناس تفعل ذلك ؟! 

أشرت إلى أن الأستاذ كان يتخذ من الوسائل والأساليب ما يجعلنا قريبين منه ، ومن هذه الأساليب أنه يحرص من أول يوم يدخل فيه علينا أن يتعرف على كل منا ، ولا يكتفي بأن ينهض أحدنا ذاكراً اسمه بل يقيد الاسم عنده في دفتر جيب ، وقد تعجبنا حين قيد أسماءنا في دفتره أول مرة وجاء في الحصة التالية وقد حفظ الأسماء : انهض يا فلان ، واجلس يا فلان ، ولا يكتفي بقوله كغيره : أنت هناك ، لا ، الذي على يمينك ، نعم ، الذي بجانب النافذة! هل هي حدة الذاكرة ، هل هي شدة الاهتمام والحرص على أن يكون الطالب ليس مجرد رقم أو فرد هُلامي غير محدد الذات والملامح ؟ إنهما الأمران معاً . ومن اهتمامه بنا أنه كان يكني كل واحد منا عملاً بالسنة ، ويختار لنا من الكنى ما يعكس المثالية التي يتطلع إليها . وكلها تدور حول أسماء الصحابة الكرام أو قادة الإسلام العظام ، فهذا أبو البراء ، وذاك أبو 

عبادة ، وذلك أبو أنس وهكذا ، وقد كانت كنيتي عنده : أبا هشام .

المصدر: مجلة الرائد العدد : 243 الموافق في ربيع الأول 1424 هجري 5/2003 ميلادي

======

(1) المتنبي .