علم التراجم ومكانته في حياتنا

يعاتبني بعض الإخوة لعملي الدؤوب في مجال التاريخ وتراجم العلماء متسائلاً:

وما ذا نستفيد من العودة الى الوراء؟

ولماذا تنبش قبور رجال قضوا مع عصرهم وزمانهم؟

وهل تريد أن تخدرنا بتواريخك وأعلامك وتنسينا واقعنا المؤلم؟ 

وبعض الإخوة يعتب علي إن أنا ترجمت لرجال لهم أخطاؤهم ولهم مواقفهم التي لا تتفق مع منهجه وطريقته في الحياة.

فبكل الحب والتقدير لإخواني أقدم هذا البحث عن علم التراجم وأهميته في حياتنا 

تراجم العلماء ومكانتها في حياتنا

حظي التاريخ الإسلامي على امتداد العصور بالعناية والاهتمام، وتناوله المؤرخون كلا حسب وجهته ونظرته، يفسر حوادثه بالطريقة التي تخدم اتجاهه، ويلوي وقائعه لتساير أغراضه وهواه، لذا كاد بعض العلماء يستبعده من قائمة العلوم الموضوعية، وذلك لما يعتريه من تسلط الأهواء والأغراض المختلفة عليه.

وإذا كان هذا الرأي يحمل في طياته شيئاً من الحقيقة، فذلك ينطبق على التاريخ السياسي، الذي يتناول الدول والممالك والملوك والأمراء، أما علم التراجم، ومعرفة الرجال عند المسلمين، فهو يختلف عن هذا التاريخ، ذلك أنه نشأ جزءاً من علم مصطلح الحديث الشريف، هذا العلم الذي اختصت به الإمة الإسلامية بهدف رعاية دينها وصون أحاديث نبيها صلى الله عليه وسلم من العبث والكذب، وهو قائم في جانب من جوانبه على معرفة الرجال وتوثيقهم، وقد قيض الله لهذه لأمة رجالاً يضعون خوف الله بين عيونهم، وهم يترجمون لرجال الحديث بكل أمانة وموضوعية، لأنهم يرون هذا الحديث ديناً، فهم يتحرون عمن يأخذون عنهم دينهم، ولهذا فقد حظي هذا العلم بسقط كبير من المصداقية والموضوعية.

أما علم تراجم الرجال، فهو علم يتناول سير حياة الأعلام من الناس عبر العصور المختلفة، وهو علم دقيق يبحث في أحوال الشخصيات والأفراد من الناس، الذين تركوا آثاراً في المجتمع، ويتناول هذا العلم طبقات الناس كافة من الأنبياء والخلفاء والملوك والأمراء والقادة والعلماء ـ في شتى المجالات ـ والفقهاء والأدباء والشعراء والفلاسفة وغيرهم، ويهتم بذكر حياتهم الشخصية، ومواقفهم وأثرهم في الحياة وتأثيرهم فيها. 

ويعدّ علم التراجم عموماً فرعاً من فروع علم التاريخ، الذي يحتاج إليه العالم وطالب العلم على السواء، إذ به يعرف المتأخرون أحوال من تقدمهم من الرجال والعلماء، وبه يُعرف وفاء المتأخرين لمن تقدمهم من أهل العلم والفضل.

لذا فقد اعتنى المسلمون بعلم التراجم عناية عظيمة، وبدأت عنايتهم بهذا العلم بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بزمن يسير، حيث حرص العلماء على حماية المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام، وهو الحديث النبوي الشريف، وصيانته من الكذب والتزوير والغش والتلفيق والدسّ، فنشأ هذا العلم قاعدة في تلقّي الأخبار عن الناس، وبالأخص فيما يتعلق بالحديث النبوي الشريف أولا، ومن ثم الآثار المروية عن الصحابة والتابعين وباقي طبقات العلماء خصوصا والناس عموما.

ولقد أدرك أسلافنا العلماء أهمية علم التراجم وسير الأفراد، وذكروا الكثير من فوائدها: وأقف على كلام واحد جميل ومفيد في هذا الموضوع للشيخ محمد عبد الحي اللكنوي (1)في مقدمة كتابه (الفوائد البهية في تراجم الحنفية) حيث يقول: (وأجلها فن تراجم الكبار، وأخبار الأخيار، ففيه غير ما مضى فوائد جمة، ومنافع مهمة منها: الاطلاع على مناقبهم وأوصافهم ونباهتهم وجلالتهم، ليحصل التأدب بآدابهم، والتخلق بأخلاقهم، فيحشر في زمرتهم، ويدخل فيهم، وإن لم يكن منهم، ومنها: الاطلاع على مراتبهم ومدارجهم، فيؤمن به من تنزيل أعلى الرتبة إلى الأدنى، وتعريج أدنى الرتبة إلى الأعلى، واختيار قول أدناهم على أعلاهم عند تعارض أقوالهم وإفاداتهم، ومنها: الاطلاع على مواليدهم، وأعصارهم ووفياتهم وأزمانهم، فيحصل الأمن من جعل القديم حديثا، والحديث قديما، والمتقدم متأخراً والمتأخر متقدماً، ومنها: الاطلاع على آثارهم وحكاياتهم وتصنيفاتهم، فيتحرك عرق الشوق إلى الاهتداء بهديهم، والاقتداء بسيرهم).

فإذا كان هذا حرص آبائنا ومن سبقنا من أهل العلم على العناية بعلم التراجم ومعرفة أحوال الرجال، فما أحوجنا ونحن في زمن كثر فيه انشغال الناس بوسائل الاتصال السريعة وانتشار (الأنترنت والفيسبوك) وغيرها من الوسائل التي ألهت الجيل عما قدمه أسلافنا العلماء من العلوم والمعارف العظيمة، ما أحوجنا ونحن في زمن اندرست فيه السنن، وماجت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، وضعفت فيه الهمم، واندثرت فيهم القيم، وتسممت فيه الأخلاق، وقست القلوب، وانشغل الناس فيه بزخارف الدنيا، وجهلوا أسباب الرفعة من العلم النافع والعمل الصالح ..

ما أحوجنا في زمن انقلبت فيه الموازين، وضاعت الحكمة، وزهد فيه الناس في معرفة العلماء العاملين، والقرب منهم ومزاحمتهم، إن لم يكن بالحضور والمشاهدة فبقراءة تراجمهم، ومعرفة حياتهم وتاريخهم، ودراسة أخلاقهم وأعمالهم وأقوالهم ووصاياهم وتدبر مواقفهم، علّنا نقتبس من كل ذلك نوراً نمشي به في الناس، ونهتدي به في ظلمات العصر وغيابات الفتن، ونصلح به ما فسد من أخلاقنا، ونغسل به الران الذي غلف قلوبنا بسواد الظلمات، ونصحح به ما غلط من أفهامنا وما انحرف من فكرنا.

ولقد كان العلماء منذ فجر الدعوة الإسلامية هم الحاملون لواء الشريعة والمتمسكون بالسنة، وهم النماذج الحية التي تمثلت الإسلام عقيدة وسلوكاً يدعون الناس إلى الإسلام بمنهجهم العملي في التمسك بمبادئه، وسيرهم على هدى صاحب الدعوة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ووجودهم بين الناس تذكير لهم بمبادئ هذا الدين وحقائقه.

لذلك فقد كان فقدهم وغيابهم عن ساحات المجتمع غياباً للقيم والمثل العليا، في صفوف الأمة، فيلتبس عليها الطريق، وتتخبط في غياهب الجهل والتخلف.

وكأنّ النبي عليه الصلاة والسلام، كان مدركاً هذه الحقيقة، خائفاً على الأمة من هذا المصير، الذي تنقلب إليه بفقد علمائها، وندرة دعاتها عندما قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فَسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلّوا)(2).

ولئن غاب أولئك الذين كانوا نماذج حيّة للإسلام، يدعون الناس إليه بأخلاقهم وأعمالهم، فمن واجبنا أن نسعى إلى إحياء ذكرهم، وتسجيل صفاتهم وأخلاقهم وعلومهم وآدابهم وآرائهم ومؤلفاتهم ونهج حياتهم، علنا نجد في ذلك قبساً من نور يضئ لنا الطريق، ويقدم لنا نماذج سلوكية عن الإسلام، عاشت في هذا العصر، متحديّة زيفه وأباطيله وانحرافاته وضلالاته، معبرة عن حقيقة الإسلام وخلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان.

وقد حظيت مدينة حلب على مرّ العصور برجال عرفوا قدرها وقدروا رجالها، فدونوا في مؤلفاتهم القيمة، تاريخها المفعم بالحوادث والأحداث، وأرخوا لمن عاش فيها، أو نزلها من الرجال والأعلام وكان آخرهم رجلين عظيمين، تصديا للتأريخ لهذه المدينة الخالدة، وهما:

الشيخ محمد كامل الغزي المتوفى سنة: 1351هـ، وكتابه: نهر الذهب في تاريخ حلب. والشيخ محمد راغب الطباخ المتوفى سنة: 1370هـ، وكتابه: إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء.

غير أني ما رأيت أحداً أفراد الفقهاء وعلماء الشريعة والمفتين فيها بالترجمة والتأريخ، وفي القرون الأخيرة خاصة.

ولقد كان للعلماء ـ وعلماء حلب خاصة ـ في حياتي منزلة عالية رفيعة مذ وعيت الحياة، فأحببتهم واقتفيت آثارهم، وتتبعت أحوالهم وأخبارهم ومؤلفاتهم، ومناهجهم في الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس، لهذا عقدت العزم على سدّ هذا الفراغ، والترجمة لعلماء حلب وفقهائها في القرن الرابع عشر، فنهضت إلى ذلك، وقطعت شوطاً بعيداً، فقد منّ الله علي ويسر لي إصدار الجزء الأول من كتابي (علماء من حلب في القرن الرابع عشر)، وانتهيت بحمد الله من كتابة الجزء الثاني من الكتاب، وارجو الله أن ييسر لي طباعته وإخراجه في أقرب وقت، وقد ترجمت في الجزأين لأكثر من مئتين وخمسين علماً من علماء حلب، وأعمل الآن في تحرير الجزء الثالث من الكتاب، وترجمت في كتابي (الإعلام بمن تولى الإفتاء في حلب من الأعلام) لأكثر من مئة وأربعين عالماً تولوا منصب الإفتاء في هذه المدينة عبر القرون. 

ولا بد من الإشارة إلى أن هؤلاء الرجال بشر غير معصومين، يجوز عليهم ما يجوز على جميع البشر من الأخطاء والهنات والمآخذ، غير أني تعمدت إغفالها، إلا ما كان ضرورة، وفي مجال الفتوى فقط، وذلك استجابة لوصاية الرسول صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم)(3) وتحسيناً للظن بهم، وإبقاءاً على مكانتهم العلمية، وأخيراً: مخافة أن يتخذ بعض الجهلة من أخطائهم مبرراً للتمادي في الغي والضلال. 

وقد نجد ترجمة لرجل يخالفنا في المنهج والاتجاه الفكري أو في الطريقة التي ننتهجها في الدعوة، وقد تكون له مواقف لا تتفق ورؤيتنا في الحياة و نرى فيها خروجاً عن الطريق القويم الذي نريده 

ولكن هذا لا ينفي أنّ الرجل كان موجوداً ـ أردنا ذلك أم لن نرد ـ في الحقبة التاريخية التي نتحدث عنها، ونحن نؤرخ ونكتب للتاريخ، فما عسانا نقول للتاريخ إن تجاهلنا رجلا معروفاً في زمنه وكانت له صولة وجولة فيه، لكننا نختلف معه في المنهج. 

ولهذا لم أغفل ترجمة مثل هؤلاء الرجال متحرياً الدقة والموضوعية، مبتعداً عن العواطف ما استطعت إلى ذلك سبلاً، وقد حاولت جهدي الاعتماد على الوثاق الرسمية، والسجلات والمصادر والمراجع، أجمع منها المعلومات عن المترجم له، وأحاول الجمع بينها وإثبات ما هو أقرب إلى الصحة والموضوعية، مستغنياً عن الروايات والقصص التي تتحدث عن الكرامة وخوارق العادات، والمبالغات التي درج بعض المؤرخين على ذكرها.

والله من وراء القصد

بورصة التركية في السابع من رجب الفرد، سنة: 1440 للهجرة

وكتبه محمد عدنان كاتبي

====-

(1) محمد عبد الحي بن محمد عبد الحليم الأنصاري اللكنوي الهندي، أبو الحسنات: عالم بالفقه والحديث والتراجم، من كتبه في التراجم غير (الفوائد البهية في تراجم الحنفية) و(فرحة المدرسين بأسماء المؤلفات والمؤلفين) و (طرب الأماثل بتراجم الأفاضل)، وكانت وفاته سنة 1304 هـ، رحمه الله.

(2) رواه الإمام مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه.

(3) رواه أبو داود والترمذي والطبراني والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنه.