الفارس الذي ترجل محمد واضح الندوي

يمر المرء في حياته بمواقف يكتسب فيها خبرات جديدة، ويتعرف على شخصيات متميزة تنطبع في أعماق الذاكرة، وتبقى فيها أمداً طويلاً. ومن حكمة الله سبحانه ورأفته بالإنسان أن جعل مستجدات الحياة العادية ووقائعها المتوالية سترا لمخزون ذاكرته، وراحة لذهنه من تراكمات لو استمرت لفاقت الجبال في ثقلها عليه، فتغيب تلك المواقف عن ذهنه حتى ليظن أنه نسيها، وعندما يرد عليه حدث يتصل بموقف أو شخصية اختزنتها ذاكرته يرتفع الستر عنها، وتبرز في ذهنه قوية متجددة، وكأن الزمن لم يمر عليها، وكأنها لم تكن في سبات قط، وربما توقظ فيه رؤية أعمق لها، وكشفاً لمزيد من تميزها، ولطالما عشت هذه الحالة، وأحسبني سأستمر في معايشتها ما أبقى الله سبحانه وتعالى لي خزانة الذاكرة وصحة الذهن.

أكتب هذه الحقيقة التي توصلت إليها، وقد استيقظ من مخزون ذاكرتي شريط طويل حبيب إلى نفسي، فيه مواقف وشخصيات لقيتها لأول مرة قبل أربعة عقود من الزمن، وتكررت خلالها لقاءاتنا مرات معدودة على امتداد تلك العقود، كان الموقف يومها مضطرباً بمواجهة غير متكافئة بين متسلطين على المنابر الثقافية، يملؤون الساحة بضجيج الدعوات إلى العلمانية والاشتراكية والليبرالية وغيرها مما أُريد به أن يكون ايديولوجيات بديلة للإسلام، ويُقصون كل ما فيه روح إيمانية بتهمة الرجعية والتخلف والظلامية وغير ذلك من المصطلحات التي ولدتها العدائية لهذا الدين الحنيف، ولكل ما يرتبط به من أنشطة دعوية وثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية.

وكانت ردة الفعل الطبيعية ممن تتوهج فيهم الروح الإيمانية أن ينهضوا لمواجهة هذه العدائية، وتقديم النماذج الصحيحة في جميع أنشطة الحياة برؤية إسلامية صافية، وكان من رواد النهضة سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله، الذي أسس بكتاباته ونشاطاته ومن تربى على يديه في ندوة العلماء، ومن أخذ بأفكاره ومنهجيته على البعد، أسس مدرسة فكرية كاملة في الدعوة والثقافة والأدب، وكان الرائد في الدعوة إلى أول مؤتمر عالمي للأدب الإسلامي عام (1401هـ / 1981م) وكان من فضل الله عليَّ أن أشارك فيه، وأشهد من المواقف والشخصيات ما سكن في أعماق ذاكرتي، لما رأيته في تلك الشخصيات والمواقف من صدق وإخلاص ونبل وتفان في المناشط التي ينهضون بها، في التربية والتعليم والتوجيه الإيماني البعيد عن التطرف والغلو، وفي البذل والعطاء، لبناء الشخصية الإسلامية السليمة والقوية للفرد والمجتمع.

رأيت في رجالهم وفي مناشطهم واحة خصيبة وسط صحراء من العقائد الأخرى المتباينة، تتضاءل إزاءها ما نظنه في أنفسنا من مناشط، حتى إن أحد الذين شاركوا في المؤتمر – وهو من بلاد الحرمين – سأل الشيخ أبا الحسن أن يرسل أحد أبنائه ليحظى بالتربية الإيمانية والفكرية والعملية التي رأيناها فيمن رعاهم ورباهم سماحته، وكان من نتاج ذلك المؤتمر التوصية بإنشاء رابطة للأدب الإسلامي وأدبائه، وشاء الله سبحانه وتعالى أن يتحقق الحلم وتتحول التوصية إلى واقع وتولد رابطة الأدب الإسلامي، وأن يرأسها سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي، ويشارك في إدارة مكتبها الرئيسي عدد ممن تربوا على يديه، أبرزهم فضيلة الشيخ محمد الرابع الندوي وفضيلة الشيخ محمد واضح الندوي وفضيلة الدكتور محمد إجتباء الندوي.

وتوالت لقاءاتنا معهم عبر اجتماعات الهيئة العامة للرابطة ومجلس الأمناء والندوات والمؤتمرات التي عقدت في لكنهؤ وفي المدينة المنورة وفي استانبول، وفي عمان، وفي القاهرة، وفي الدار البيضاء، وكانت معرفتنا بهذه الثلة الكريمة تزداد ويزداد معها إعجابنا بما تحمله شخصياتها من قيم إيمانية عالية ونشاط حثيث. كما كانت مجلة البعث الإسلامي التي تصلنا من ندوة العلماء في لكنهؤ تحمل إلينا بحوثاً ومقالات متميزة تزيدنا إعجابا وإكبارا لهذه النخبة المتميزة.

وعندما نُعي إلينا فضيلة الشيخ محمد واضح الندوي أحد نجوم تلك النخبة استيقظ من ذاكرتي شريط طويل من تلك اللقاءات، وبرزت صورة هذا النجم قوية ساطعة، وأخذت أتأمل بمزيج من الإعجاب والأسى ما كان يتجسد فيه من صفات وقيم، وما كان يحمله من فكر ناضج ورؤية عميقة لواقع العالم الإسلامي في أزماته، وفي صدامه القاسي مع المدنية الغربية ومخرجاتها، وفي تطلعاته المتفائلة إلى النهوض والارتقاء بالأمة الإسلامية والعودة بها إلى مواقع الريادة والقيادة، بل وفي فهمه العميق لحقيقة الإسلام وقدراته الفائقة على بناء الحضارة المتفوقة، وفي المعوقات التي يجتهد الشرق والغرب بإقامتها ليحول دون انطلاق قدراته.

وتذكرت كم كنت أستمتع بقراءة ما يكتبه من تحليلات، وما يصل إليه من نتائج صائبة، وعادت إلي صورته في لقاءاتنا وهو في صمته العميق وإصغائه الشديد لما يعرضه المتحدثون على المنابر، وتعقيباته القليلة المركزة، فأحسست أن وراء الإصغاء ذهناً متوقداً يجمع ويتخير ويصنف مثلما تجمع النحلة الرحيق لتخرجه عسلاً فيه شفاء للناس، وأن وراء هذا الصمت سيلا من الأفكار سينظمها عقله، ويبوح بها قلمه على صفحات البعث الإسلامي والرائد وما ينشره في أوعية المعلومات الأخرى.

إن ما رأيته في الشيخ محمد واضح الندوي في لقاءاتي المعدودة به، وما قرأته من كتاباته التي وصلت إليها – وهي كما علمت قليل من كثير – جعلني أوقن أن هذه الشخصية الكريمة هي علم من أعلام فكرنا الإسلامي في عصرنا الحاضر، ومن الذين فتح الله عليهم أبواباً في فهم الواقع السياسي والثقافي والدعوي والحضاري، وأن هذا الكم الثقافي الكبير الذي يملكه أخرج كماً موازياً من المشاركات المبدعة في الثقافة الإسلامية، والفكر السياسي الواعي، وفي الرؤية الدقيقة لأوجاع المسلمين الداخلية ومشكلاتهم مع الآخر، وأخرج تصورات للسبل التي ينبغي أن يسلكها الجيل الحاضر والجيل القادم للخلاص من الأوجاع وحل المشكلات، والنجاة من الشراك التي ينصبها المصابون بفوبيا الإسلام". وأنه قد رزق في كتاباته العربية التي قرأتها سلاسة الأسلوب وحسن العرض ونقاءه من العثرات اللغوية والجمالية.

وإني لعلى يقين بأن من رزق هذه المواهب في لغة ليست لغته الأم يملك ولا شك إبداعاً أكثر براعةً وتألقاً لغته الأم، وفي اللغة الإنكليزية التي درسها وحذقها، وإني لأعده بجدارة في واحداً من المجيدين البارعين في أدب المقالة على اختلاف موضوعاتها. 

إنه في الخلاصة أحد فرسان مدرسة ندوة العلماء الفكرية والأدبية والدعوية الذين تربوا على يدي سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي العظيمة.

رحم الله هذا الفارس الذي ترجل، الداعية المفكر الأديب الشيخ محمد واضح الندوي، وأثابه بكل ما جاد به فكره وقلمه ونشاطه أعظم المثوبة، وأسكنه فسيح جنانه، وعوض الإسلام والمسلمين أمثاله، وحفظ إخوانه في مسيرة الدعوة والفكر والثقافة والأدب الإسلامي في ندوة العلماء، وأمد في أعمارهم، وأثابهم على كل ما يقدمونه أجر المحسنين.