فلسطين في دموع محمد صيام

إنه واحد من الشعراء الرساليين الضاربين فى الأرض يبتغون نصرًا من الله وفضلاً ورضوانًا... كان يمضي - وما زال - يحمل هموم دينه وأمته ووطنه، بل وطن كل المسلمين: فلسطين الدامية السليبة.. أرض الأنبياء، ومسرى محمد (صلى الله عليه وسلم)..

وفي الكويت والسودان والسعودية واليمن وغيرها كان يرفع صوته بالكلمة الوضيئة الهادفة منطلقًا من إيمان قوى لا يهتز أمام ظلم، ولا يلين أمام تهديد.

ومن عجائب الصدف أن التقائي بفن الشاعر كان من قرابة ثلاثين عامًا فى قصيدة مطولة مسجلة على «شريط كاسيت» يحكي فيها حكاية إلقاء رجال الأمن القبض عليه، وضحكت طويلاً وهو يصور كيف ضبطوه متلبسًا بجريمة «إحراز مفتاح»، إنها خفة الظل التي اشتهر بها محمد صيام.

والمقام لا يتسع لتقويم كل ما جادت به قريحة شاعرنا الرسالي محمد صيام.. ولا حتى كل فلسطينياته، وقد يتسع المقام لذلك -إن شاء الله- إن امتد بي العمر.. فلتكن وقفتي هذه المرة أمام أحدث دواوينه صدورًا، وهو ديوان «الاغتيال منهج الاحتلال».

والاغتيال ليس مجرد منهج للاحتلال، ولكنه دينه، وديْدنُه، وطبيعته ونخاعه؛ لأنه مرتبط ارتباطًا عضويًا بطبيعة المحتلين الغاصبين، وهي الجبن والغدر والعجز عن مواجهة الرجال.

أبدأ الولوج إلى عالم شاعرنا صيام في هذا الديوان، وأقبّل بعينيّ أبياته الخمسة فى (التقديم) فأجدني أمام حقيقة علمية أزلية لم يقصد إليها الشاعر قصدًا، وإن كانت أبياته قد أشارت إليها عفويًا، ومؤداها أن الحيوانات الكاسرة المفترسة - في صراعها وقتالها - محكومة بضوابط وقيود تتلخص فيما يأتي:

1 - سلمية المعايشة في حياة «الجنس الواحد»، فلا صراع ولا قتال بين أفراد الفيلة مثلاً، أو بين أفراد الأسود، أو بين أفراد الذئاب، مهما كثرت أعدادها في الغابات.

2 - محدودية القتال سلوكًا: فلو أن ذئبًا خطف قطعة لحم من فريسة الأسد، فإن الأسد يشفي غضبه بجرحه أو قتله، وينتهي الأمر، ولا نجد «طائفة الأسود» تهاجم جماعة الذئاب، ولا يقرّ لها قرار إلا بإفنائها.

3 - محدودية القتال وقتًا، فهي لا تعرف القتال الدائم المستمر، بل ينتهي الصدام بانتهاء سببه، وقد لا يستغرق إلا دقائق محدودة.

4 - التخلي عن «روح العدوان» عند حلول الخطر العام الجائح، ومثال ذلك: عندما يشب حريق في الغابة، نرى الأسود والنمور والغزلان وحمر الوحش.. متجاورة، فلا قتل، ولا فتك، ولا غدر، ولا إيذاء، فكلها تسيرها «وحدة الهدف»، وهي النجاة من النار.

ولكننا نرى الإنسان - وخصوصًا إنسان العصر الحديث، وبني صهيون بصفة خاصة.. نراهم في طبائعهم، ونهجهم، ومسالكهم.. أضرى من الوحوش الكاسرة، بل إننا نظلم هذه الوحوش، إذا شبهنا هؤلاء بها.

وهذه الحقيقة العلمية - في محورها الأساس - عبر عنها الدكتور محمد الشيخ محمود صيام في أبياته الآتية:

طـبْعُ  الوحوش جرائم تنهدّ منهن الجبالْ

ودم  وأشـلاءٌ وعـضّ باليمين  وبالشمال

أما وحوش الناس فهي أشد في هذا المجال

فالقتلُ  والتدمير أو سفك الدماء  والاغتيال

هذا لعمر الله - وا أسفاه - منهجُ الاحتلالْ

*******

ويهدي صيام ديوانه:

لأولـئك الشهداء من أبطالنا الصِّيد العظامْ

مـمـن قضوا بسلاح أبناء الخنازير اللئام

فمضوا إلى جنات عدْن في رضا ربِّ الأنام

مـسـتبشرين منعمين وخالدين على الدوام

كـالـسـابـقين الأولين وكالنبيين الكرام

وهو إهداء يبين عن موضوع الديوان، فقد جاء كله - على وجه التقريب - سجلاً حافلاً بشخصيات المجاهدين الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فجادوا بنفوسهم فى سبيل الله، دفاعًا عن الأرض والعرض، والأقصى، لا تأخذهم لمحة جبن، ولا لحظة تردد.. فأعادوا بنهجهم الرحماني قول من قال:

ولستُ أبالي حين أقتلُ مسلمًا

على أيِّ جنبٍ كان في الله مَصْرعي

********

ونمضي في ديوان الشاعر العظيم لنكحل عيوننا بأسماء الشهداء تعطر صفحاته، ومنهم: الشيخ أحمد ياسين - الدكتور عبد العزيز الرنتيسي - عماد عقل - يحيى عياش - محيي الدين الشريف - عادل عوض الله - عماد عوض الله - محمود أبو هنود - الشيخ جمال منصور - الدكتور جمال سليم - الدكتور إبراهيم المقادمة - صلاح شحادة - المهندس إسماعيل أبو شنب.

والشاعر في هذا الديوان - بما قدمه - يؤكد ويرسّخ - عمليًا - الحقيقة النقدية التاريخية المشهورة، وهي أن «الشعر ديوان العرب»، فلولا الشعر لضاع نصف تاريخ العرب وخصوصًا قبل «عصر التدوين» أيام أن كان العرب يعتمدون على «حافظتهم».

وكان «أبو تمام» يوصف بأنه «خطيبُ عسْكر»، كما كان يوصف بأنه «بكّاءة نوَّاحة»، نراه خطيب عسكر فى بائيته المشهورة التي مطلعها:

السيفُ أصدق أنباءً من الكتب

فى حدّه الحدُّ بين الجد واللعب

وكان بكّاءة نوّاحة، ومراثيه خلدت كثيرين من الشخصيات التاريخية، وخصوصًا بني حميد الطوسي، وما زالت الأجيال تردد بكائيته في محمد بن حميد الطوسي، ومطلعها:

كذا فليجل الخطبُ ولْيفدح الأمرُ

فليس لعينٍ لم يفضْ ماؤُها عذْرُ

توفيتْ الآمالُ بعدَ محمدٍ

وأصبح في شُغْلٍ عن السَّفَرِ السَّفْرُ

ولكننا سنرى أن دموع محمد صيام تختلف في طبيعتها، وبواعثها عن دموع أبي تمام، وغيره من الباكين الراثين.

ولم ينس محمد صيام - في مقام الشهادة - أن يتحدث عن «البراءة الشهيدة» في أطفال فلسطين الذبيحة مثل الطفلة «إيمان حجّو».

إيمانُ حجو لا تزال تذكِّر الدنيا

بإجرامِ الصهاينة الأصيلْ

وهناك آلافٌ سوى إيمان من

أطفالِ أمتنا جريح أو قتيلْ

وليس من الضروري أن يكون الجهاد في «ميدان قتال»، فكل جهات الأرض ساحة جهاد للمسلم بالكلمة والدعوة إلى الحق، وتربية الشباب، وشحن النفوس لمواجهة الأعداء، وهي من منظومة القيم التي يؤمن بها الشاعر، ويدعو إليها، فلا عجب أن تسع دموعه الشيخ الشهيد محمد صلاح خطيب المسجد الحسيني بصنعاء الذي اغتالته يد الغدر المتصهينة في 25 من يوليو 1998م.

وسمة بارزة أراها في «دموعيات» الشاعر، وهي القدرة الفائقة على تضمين الأعلام في شعره دون تكلف، فنراها في سبيكة واحدة، واتساق وتلاحم منتظم، بلا قلق فى التجاور، ولا تنافر، ومن الشواهد على هذه السمة:

محيي الشريف إضاءةٌ

فضحتْ دهاليزَ الظلامْ

أما «عماد» و«عادل»

وسواهما الصيدُ الكرام..

أشلاء جسمك يا أبا هنود

أمْ ريحُ مسكٍ أم أطايبُ عودِ؟

فتحي الشقاقي في جنا

ن الخلد بين الخالدين

وهذه السمة تدل على قدرة شعرية وتمكن لغوي من ناحية، كما تدل على صدق معايشة الشاعر لعالم هؤلاء الشهداء من ناحية أخرى.

ومن ناحية الكم نظم الشاعر سبع قصائد في شيخ المجاهدين أحمد ياسين، وقصيدتين فى الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسى، وثلاث قصائد في الشهيد يحيى عياش، وقصيدتين في الشهيد صلاح شحادة.

ومن الشهداء من خصه الشاعر بقصيدة واحدة وهم: الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، والشهيد المهندس إسماعيل أبو شنب، والشهيد الشيخ محمد صلاح، والشهيد محمود أبو هنود، والشهيد الدكتور إبراهيم المقادمة، وجمع الشاعر في قصيدة واحدة بين الأخوين: عماد وعادل عوض الله.

ولم يخلُ الديوان من «المرثية الجمعية» التي تتناول عددًا من الشهداء كقصيدة «كوكب الشهداء»، وفيها جمع بين أربعة من الشهداء وهم: عماد عقل، وخالد الزير، وكمال كحيل، ومهند الطاهر.

وهو فب هذه القصيدة يحكب تفصيل حلم جميل، إذ رأى نفسه فب رياض الجنة، حيث النعيم والحور العين، وهناك يلتقب بآلاف الشهداء:

ثم اقتربتُ فصرتُ أجلسُ بينهم وبلا حدود

فإذا «كحيلُ» العبقريّ يطل من بين الحشود

و«عمادُ عقلٍ» جالسٌ كالليث يزأر فى الوجود

و«مهندٌ» و«الزيرُ» والجمع الغفيرُ من الأسودْ

***

وفي تضاعيف القصائد الدمعية يمجد الشاعر الشهادة، ويبرز جلالها، وأثرها في بناء الأمم، ونهضة الشعوب، وله قصيدة مستقلة في «الشهادة» (ص32) تعد من أبرع وأجمل ما نظم. يقول في مطلعها:

هي الشهادة لا تعطَى لإنسان

إلا لمعتصم بالله رباني

من الذين إذا ما استُنهضوا نهضوا

مثل الضراغم من شيب وشبانِ

هؤلاء هم الذين يستحقون أن يرزقهم الله نعمة الشهادة؛ لأنهم مهيؤون لها، جديرون بها، بما يملكون من ثراء روحى وصلاح وتقوى، وصدق فى العزيمة والعمل.

أما الذين هوىً في النفس يدفعهمْ

إلى التثاقل من صُمٍّ وعُميانِ

ممن إذا استُنْهضوا خارت عزائمهم

طلاب فانية، عُبّاد شيطان

فهم على الأرض أموات وإن ظهروا

بمظهر الحيِّ من قاصٍ ومن دانِ

وهو بهذه المفارقة بَيْن الجديرين بالشهادة، والذين لا يستحقونها، يلح على حكم رباني خالد في قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران: 169)، كما أنه يجدد قول الشاعر العربي:

والناس صنفان: موتى في حياتهمُ

وآخرون ببطن الأرض أحياءُ

***

ودمعيات الشاعر منها قصائد قصار لا تتجاوز عشرة أبيات كقصيدة «عبرٌ ياسينية» (ص11)، وقصيدة «عجائب ياسينية» (ص21)، ومنها دمعيات متوسطة الطول، ومنها مطولات بلغ بعضها ثمانين بيتًا مثل قصيدة «عشاق الشهادة: يحيى عياش» (ص37 - ص48)، ومثل قصيدة «الدكتور فتحي الشقاقي» (ص 51 – 58).

ومطولات صيام يغلب عليها الطابع القصصي الحكائي، بطريقة عفوية لا افتعال فيها، حتى تبدو الدمعية المطولة وكأنها «ترجمة نفسية روحية» للمرثي.

وحتى يتبين للقارئ معالم هذا النهج نعرض - في إيجاز - مضامين مطولة الشاعر عن فتحي الشقاقي:

فهو يستهلها ببيان طبيعة العلاقة التي كانت تربط بينه وبين الشهيد، فهما يجمعهما وحدة العمل للحق والأمة، ووحدة الهدف، وهو تحقيق الحرية والنصر في عالم مجنون «لا خلق لديه ولا ضمير».

ومضى بنا درب الحياة الشيبُ منا والشبابْ

وكأنما تلك الجموع لدى الوغى آسادُ غاب

فـهنا «الجهاديون» فتيانٌ مرازبةٌ غضاب

وهـنـا الحماسيون كالبركان يلقون الذئاب

وسـلاح كـل مـنهمُ ظفر مدببة.. وناب

ويذكر الشاعر يوم نُعي إليه وإلى أصحابه «فتحي الشقاقي» بعد أن اغتاله الغادرون في «مالطة»، ومع حزنهم على فراقه، تمنوا أن ينالوا ما نال، فهو في جنة الخلد:

أما الذين استهدفوه من الطغاة المجرمينْ

فالله أركسهمْ وردّهمُ لأسفل سافلين

وتُفجر ذكرى استشهاد فتحي الشقاقي عددًا من الحقائق الجليلة والشخوص النبيلة الذين بذلوا دماءهم في سبيل الله والوطن، وفي المقابل النقيض:

الآخرون من المهازيل الصغار الأدعياءْ

مـا عندهم بــذل لأمتهم وليس لهم وفاء

ويذكر في ذكراه الانتفاضة القوية التي وقفت في وجه الحلول التصفوية المصحوبة بالتطبيع والذل وفقد الهوية، وكان أصحابها:

مثل السوائم همُّها رعْيٌ وأطعمة شهيةْ

هؤلاء الذين باعوا دماء الشهداء:

كي يجلسوا فوق الكراسي راكعين وخانعين

والخصم يصفعهم صباحًا أو مساءً خائفين

وفي ظلال هذه الذكرى يشير الشاعر إلى الرحلة التي قام بها مع الشهيد إلى «الحواضر والعواصم» لشرح أبعاد القضية الفلسطينية للعرب، والعمل لمناصرة الشعب الفلسطيني.

«ويذكر صمود الأبطال الذين أبعدهم الصهاينة إلى مرج الزهور» سنة 1992م، فلم يهونوا ولم يستسلموا:

وتحملوا فيها تصانيفَ الأذية والشرورْ

ولقربها من أرضنا كانت ألذَّ من القصورْ

وتتوالى الذكريات في ذكرى الشقاقي الشهيد العظيم، يعرضها الشاعر في اتساق عفوى متوالٍ، فيذكر عياش الفتى الحر العنيد:

وصموده حتى كأن القلب قُدَّ من الحديدْ

ويذكر البطل الحماسي: «خالد مشعل» الذي حاول عملاء الموساد عبثًا أن يغتالوه، ويثني على حراس البطل الذين قبضوا على المجرمين الآثمين الذين حاولوا اغتياله.

وفي هذه الذكرى يحمل الشاعر على الزعماء والقادة الخانعين، والسلطة الهشة المنصاعة المستسلمة، وكانت النتيجة المنكودة - كما صورها الشاعر:

وبلادُنا كـادتْ تضيع وحقّنا القدسي ضاعْ

لا ضفة بقيت ولا القدس الشريف ولا القطاع

وبحماسة إيمانية صادقة يهتف شاعرنا بالأمة:

يا قومنا فمتى نفيق من التثاؤب والرقاد؟!

حتى نرد سهام أعداء البلاد إلى الأعادي

فالصوتُ بُحَّ من النداء ولا حياة لمن تنادي

إن ما قدمتُ يمثل «جزءًا» من الرحلة الفنية مع هذه المطولة وما دار في فلكها.. ويمثل شوطًا في عالم «الدمعيات الصيامية»، وكل أولئك يطالبنا بصلة واستكمال.

***

ونمضي مع الشاعر الدكتور محمد صيام في ديوانه «الاغتيال منهج الاحتلال»، فنرى أن «دموعياته» لا تقف عند الشهداء فحسب، بل تتسع للوطن الأم فلسطين، ويرى أنها تمثل «أندلس العصر»، فبين فلسطين والأندلس وجوه متشابهة، منها أن أصحابها من العرب هم المسؤولون الأساسيون عن ضياعها، وأن من أهم أسباب الضياع: تفرق الكلمة، وتفتت الوحدة، وانشغال الأمراء بأنفسهم، والتمكين لحكمهم على حساب قيم الحق والرجولة والشرف، وضعف الحس الديني، وتفكك العزائم.

وفي بكائيته لفلسطين يعيش الشاعر نفسًا وروحًا - مأساة الأندلس في نونية أبي البقاء الرَّنْدي، ويقدم معارضة لها، يضمنها كثيرًا من أبيات أبي البقاء، وشطوره، وفيها يقول:

(لـكـل شيء إذا ما تم نقصانُ) أمـا مصيبتنا: الأحزان طوفانُ

والـناسُ لا فرح يبقى ولا ترح   (مـن سره زمن ساءته أزمان)

أمـا فـلـسطينُ فالأتراح دائمةٌ   (قـتلى وأسرى فما يهتز إنسان)

وفـي جـنـينَ أحاديث مروعة   (وما لها من طوال الدهر نسيان)

(تلك المصيبة أنستْ ما تقدمها) فـديـر ياسين تحكيها وبيسان

(لـمثل هذا يذوب القلب من ألم   إن كان في القلب إسلام وإيمان)

وفي القصيدة يشير الشاعر إلى مدن فلسطينية مناضلة ممتحنة صابرة مثل: الخليل، وبيت لحم، ونابلس، ولكن «جنين» تنال أوْفى نصيب من قصيدته، فقد ضربت بنضالها وصبرها وثباتها أروع الأمثلة على مدار التاريخ كله.

ويدور في الفلك نفسه ربطُه بين مأساة فلسطين ومأساة العراق ونكبته بالاستعمار الأمريكي، ويصدِّر قصيدته (بين العراق وفلسطين) بالسؤال التالي: «فلسطين بعد الأندلس، والعراق بعد فلسطين، فماذا بعد العراق؟».

ومن أبيات هذه القصيدة:

في رحاب الأقصى وحول جنين

راجماتُ الموت الزؤام تُداهمْ

والجراحاتُ - عندنا - كل يوم

في فلسطينَ.. والخطوبُ توائمْ

والعراق الأبيُّ كم قد رماه

- من عرابيدهم - شقيٌّ وآثمْ

وتساوى العدوان في البطش والظلْـ

ــــــم، وقامت في الساحتين المآتم

فهنا الاجتياح كالموت حاسمْ

وهناك القصف الجنوني قاصمْ

وكالعادة يصب الشاعر جام غضبه على الزعامات العربية الخانعة المستكينة المستسلمة، فهم:

يتلقوْن باحتجاج وشجْب

كل عادٍ من المغيرين ظالمْ

ونراهم فوق الشعوب صقورًا

وإذا زمجر الغزاة حمائم

***

وإذا كان الشاعر يربط بين نكبة فلسطين من ناحية، ومأساة كل من الأندلس والعراق من ناحية أخرى، فإنه يربط بين المدن الفلسطينية بداعية التشابه التوأمى بين هذه المدن: مأساةً، ونضالاً، وصبرًا، ومصابرة. وهذا ما نراه فى ربط الشاعر ما بين جنين، ودير ياسين فى قصيدتيه «جنين الصامدة»، و«دير ياسين - فاتحة المجازر»، فهو يصدِّر قصيدته الأخيرة بالعبارة النثرية الآتية:

«إن ما فعله الصهاينة الوحوش فى جنين - رغم فظاعته المتناهية - إنما هو صورة مصغرة عما فعلوه فى «دير ياسين» فى 9 - 10 من أبريل 1948م».

يستهل الشاعر قصيدته عن «جنين» بقوله:

أنا من «جنين».. وهل هناك اليوم أشرف من جنينْ؟

صمدتْ أمام المعتدين، فلا تكلُّ ولا تلينْ

ولسوف  تبقى درةً فينا على مرِّ السنين

أنا من مخيمها الذي صدّ الغزاة المجرمين

لما أتوْا مثل الوحوش على حماه هاجمين

 

ثم تحل في أبريل ذكرى مذبحة «دير ياسين» التي تكررت في جنين الصامدة:

واليوم «أبريل» يهلّ، و«دير ياسين» تنادي

ودم الضحايا فاح -مثل المسك- في كل البلاد

ويهودُ حقدهمُ الدفينُ ومنذ آلاف السنينْ

قد حولوه أسنةً تفرى بطون الآمنين

***

ودمعيات -أو بكائيات- المدن عند محمد صيام بالرغم من مأساوية الواقع ودمويته؛ يهيمن عليها ثلاث قيم نفسية عليا هي:

1 - الاعتزاز بالماضي العربي والإسلامي المجيد.

2 - الاعتزاز الآني بالأرض.

3 - غلبة الأمل، واستــشراف مستقبل ظافر منتصر، على الرغم من عمق الجراح، وكثرة المعوقات، وظلم ذوي القربى.

فالشاعر يختم قصيدته «جنين الصامدة» بقوله:

واعلم - هداك الله - أنا أمةٌ.. لا تستكينْ

وإذا انتفضنا نستطيب الموت لا العيش المهين

وغدًا -بإذن الله- سوف نُرى الخلائق أجمعينْ

مَنْ هؤلاء المسلمون، ومَنْ شبابُ المسلمين؟

ويختم قصيدته "بين العراق وفلسطين" بالأبيات التالية:

وسيبقى الشعبُ الأبيّ أبيًا

ولمسرَى النبيّ في القدسِ خادمْ

وسيبقى شعب العراق عزيزًا

وعلى الصدِّ للمغيرين عازم

وسيبقى العراق حرًا قويًا

والذي ظن قهره فهو واهم

*************

كان هذا هو الشاعر الإسلامي الرسالي الدكتور محمد صيام، وإذا أردنا أن نصنفه فى حكم مكثف - أو مقطَّر - جامع قلنا: إنه «شاعر السجيّة المنطلقة» أو «الشاعر الشعبي الإسلامي»، ولا خلاف، إنما هو الترادف التام، بقصد التوضيح والتبيين، فصيام ينظم كأن الشعر يجري على لسانه إبداعًا مترسلاً لا يعوقه عائق، وأقصد «بالشعبية» هنا أن شعره يتلبس بوجدان المتلقي وعقله في ديمومة لا تحتاج إلى توقف لاستيعاب معنى متوارٍ، أو لفهم معروض منـطلق، وبتعبير آخر: هو شاعر جماهيري يصل إلى نفس السامع بإنشاده الصوتي مباشرة، دون اللجوء إلى قراءته، ولا كذلك شاعر مثل محمود حسن إسماعيل، وشاعر مثل عصام الغزالي، فالقارئ - حتى يعايش تجربة كل منهما - يحتاج إلى قراءتهما، ربما أكثر من مرة، وهذا لا يعيبهما، فشعرهما -وخصوصًا محمود حسن إسماعيل- مضمخ بالتعبير الفني الغامض.

وشعبية صيام -بالمفهوم الذى ذكرناه آنفًا- ترجع إلى سهولة أدائه التعبيري، وقرب خياله غالبًا، فهو لا يميل إلى الصور التركيبية المتداخلة، وترجع كذلك لهيمنة الجو القرآني على شعره، وترديده كثيرًا من القيم الإسلامية. ومن سماته كذلك إيثاره فى أغلب شعره البحور المجزوءة.. وخصوصًا «مجزوء الكامل» ذا النبر الآسر الأخاذ، وكذلك إيثاره ما يمكن أن نسميه «القافية القرآنية»، فهو يكثر من توظيف «النون» حرف رويّ، وقبلها حرف المدّ، مما تنتهي به كثيراً جدًا من الفواصل القرآنية {ن. والقلم وما يسطرون}، {والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين}... إلخ، وعند صيام (انظر قصيدة سلام الوحوش، ص6، وقصيدة «مديح أم رثاء؟» ص17، وقصيدة «فتحى الشقاقى»، ص51، وقصيدة «حوادث الاغتيال» ص63. إلخ.

والدراسة الأسلوبية والعروضية عند شاعرنا الدكتور صيام.. تحتاج إلى دراسة مستقلة، قد يتسع لها المقام مستقبلاً - إن شاء الله.