الإمام فخر الدين الرازي

هو أبو عبد الله، محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي الرازي(ت606هـ) طبرستاني المولد، قرشي تميمي بكري النسب، شافعي المذهب، اشتهر بلقب "فخر الدين الرازي" و "سلطان المتكلمين" و "شيخ المعقول والمنقول" وهو إمام مفسر فقيه أصولي، عالم موسوعي امتدت بحوثه ودراساته ومؤلفاته من العلوم الإنسانية اللغوية والعقلية إلى العلوم الطبيعية في : الفيزياء والرياضيات والطب، والفلك.

وقد بلغ الرازي في العلم شأواً بعيداً، فكان إذا ركب مشى في ركابه مئات التلاميذ والفقهاء، حتى لقب بـ "شيخ الإسلام" ، وقد خلف تصانيف كثيرة في كل فن، منها : التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" الذي جمع فيه ما لا يوجد في غيره من التفاسير، و "المحصول" في علم الأصول و "المطالب العالية" و "تأسيس التقديس" في علم الكلام، و "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز" في البلاغة، و "الأربعين في أصول الدين"، و "كتاب الهندسة" وغيرها كثير .

عصر الرازي :

عاش الرازي عصراً عصياً من تاريخ الإسلام، بلغ فيه ضعف الدولة العباسية غايته، وكانت الحروب الصليبية تدور رحاها في الشام، وأخبار التتار في المشرق تهدد مضاجع المسلمين، وتحرك وجدانهم، وتثير مشاعرهم.

وبلغت الخلافات المذهبية والعقائدية في هذا العصر مبلغاً خطيراً، فقد كثرت فيه الفرق والطوائف من كل نحلة وملة؛ منها : الشيعة، والمعتزلة، والمرجئة، والباطنية، والكرامية. وثار بين هؤلاء خلافات وصراعات عنيفة، واستفحل شر الغلاة من الباطنية، فعمدوا إلى الاغتيالات الوحشية ذهب من ضحاياها "نظام الملك" و "قاضي قضاة أصبهان" وغيرهم كثير من الوجهاء والعلماء !

وفي هذا العصر المشحون بالجدل والخلافات والصراعات والفوضى نشأ الرازي، فاضطر للدخول في مناظرات حامية وجدالات عميقة، مع هذه الفرق، وأوذي بسببها، وأجبر على الخروج من خوارزم، والعودة إلى الري (الجنوب الغربي من طهران اليوم) التي كانت ميداناً للعديد من الأحداث التاريخية المعقدة !

وهكذا وجد الرازي نفسه في عصر اجتمعت فيه متناقضات كثيرة، وتحولات كبيرة خطيرة، كان واحداً من ضحاياها بسبب مواقفه الصارمة دفاعاً عن الدين وعن وحدة الأمة وهويتها، ولهذا كان يطرد حيث حل لأنه رحمه الله تعالى كان رجلاً جلداً قوياً في الحق !

الرازي وعلم الأصول :

كان الرازي فقيهاً أصولياً، شافعي المذهب، وقد عرف له الشافعية قدره وطول باعه في الأصول، فوضعوه في مقدمة أهل التحقيق من الأصوليين وخصوه بلقب "الإمام" حتى إذا أطلق لقب الإمام في كتبهم فالمراد به الرازي .

وقد استوعب الرازي في مقتبل عمره أهم الكتب الأصولية لسابقيه فدرس "البرهان" لإمام الحرمين و "العهد" للقاضي عبد الجبار، و "المستصفي" للغزالي و "المعتد" لأبي الحسين البصري، وبهذه العدة العلمية المتميزة استطاع الرازي أن يؤلف في الأصول، دون أن يسير وراء هؤلاء الأعلام سير مقلد؛ وإنما نظر في كل ذلك نظرة الفاحص المدقق، بدليل ما نجد في مؤلفاته من مآخذ وملاحظات على السابقين، وفي هذا شاهد على تبحر الرازي وتفرده وتجديده في العلوم الشرعية التي كتب فيها، لاسيما منها علم الأصول . 

موقفه من الفلسفة :

لم يقبل الرازي الفلسفة اليونانية بعجرها وبجرها، بل خالف الفلاسفة في مسائل كثيرة، لما وجد في مواقفهم من مغالطات عقلية ومخالفات عقدية، وكان في ذلك عالماً منصفاً منهجياً، فلم يكن يرد أقوالهم إلا بعد أن يعرضها في حياد تام، ويشرحها، وبعد ذلك يفندها ببراهين قاطعة تفحم الخصوم .

ولم تكن مواقفه الشديدة في مواجهة الفلاسفة لمجرد الجدل وحب الظهور، وإنما كانت موافقه انتصاراً للدين، وانحيازاً للعقلانية، ولهذا كان أكثر ما ناظر فيه الفلاسفة، المسائل المتعلقة بالعقيدة، وهي المسائل التي اهتموا فيها بهدف التشغيب على الدين !

ردوده على المشائية الإسلامية :

أخذ الرازي على المشائين الإسلاميين - الذين ساروا على نهج الفيلسوف اليوناني "أرسطو" – مآخذ كثيرة، فرد على الفارابي (ت 393 هـ) وعلى ابن سينا (ت 428 هـ) وعلى أبي البركات البغدادي (ت 555 هـ) ونقد فلسفة محمد بن زكريا الرازي (ت 313 هـ) !

وقد رد على هؤلاء في مختلف مسائلهم الفلسفية حتى لم يترك لها متنفساً، محاولاً قلعها من جذورها حتى لا يبقى لها منبت، وقد كان له ذلك فعلاً، فلم يكتب لتلك المسائل الانتشار بعد الرازي إلا بمقدار ما كانت منتشرة من قبل أو أقل !

ردوده على الفكر الشرقي القديم :

اتهم الإمام الرازي بتطرقه إلى الفكر الشرقي القديم وعنايته بالحكماء القدماء في الحضارات الوثنية، وإعجابه ببعض حكمة فلاسفة تلك الحضارات وتأليفه في علومهم مثل علم الفلك وما يتفرع عنه من مباحث التنجيم والسحر !

فكان جوابه أن غرضه من الاهتمام بأولئك لم يكن للتمسك بها والسير على هداها، بل كان مراده من التأليف في فنون الحضارات الشرقية القديمة هو الرد والتمييز بين الحق والباطل، وهذا من المنهج العلمي الذي ألزم نفسه به، لاسيما وقد رأى أن أهل العقائد غير الإسلامية يزعمون تمسكهم بالدليل العقلي، فكانت ردوده عليهم ردوداً حاسمة، فضحت بعدهم عن العقلانية واتباعهم للهوى والشيطان في معظم ما قالوا !

ولا شك بأن اطلاع الرازي على الحضارات غير الإسلامية، وتأليفه في مختلف العلوم والفنون يثبت انفتاحه على تلك الميادين، وإن كانت منحرفة، فقد كان يرى أنها مع انحرافها قد يجد فيها شيئا ًينتفع به معرفياً، وفي التعرف على تلك الميادين يكشف فسادها، ويحمي المسلم من شرورها . 

وبهذه المواقف الشجاعة يعد الرازي في تاريخنا الإسلامي من الأعلام الكبار الذين ضحوا بحياتهم في محاربة أهل العقائد المنحرفة التي حاولت تضليل المسلمين، وفتنتهم عن دينهم !

*****