عبد القادر الهلالي الدرعزاني

1296-1386هـ

1879-1966م

الشيخ عبد القادر بن الشيخ أحمد أبي بكر بن الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم الهلالي الدرعزاني.

شيخ الطريقة (القادرية الخلوتية) في الزاوية الهلالية، فقيه، فلكي منطقي، رياضي، فارس.

ولد في حي الجلوم، من مدينة حلب، سنة: ست وتسعين ومئتين وألف، في أسرة توارثت التقى والصلاح والذكر، فوالده الشيخ أحمد أبو بكر شيخ الزاوية الهلالية (1)، عني به منذ ولادته، ونشّأه النشأة الإسلامية الصالحة حيث دفع به طفلاً صغيراً إلى الشيخ ياسين العقاد (2) الذي عني بتحفيظه القرآن الكريم، وتعليمه مبادئ القراءة والكتابة والعلوم الشرعية، وما أن شبّ حتى لازم شيخه الشيخ أحمد المكتبي، وراح يحضر دروسه في الفقه والحديث وعلوم اللغة العربية، نحوها وصرفها وبلاغتها، برفقة زميله الشيخ محمد نجيب سراج الدين، والشيخ محمد سعيد الإدلبي في المدرسة (الدليواتية)، و(الشعبانية)، ثم انصرف إلى دراسة العلوم العقلية والمنطقية على شيخه الشيخ حسين بن عبد الله الزردشتي الكردي، وقرأ العلوم الرياضية والفلكية على شيخه الشيخ عبد السميع الكردي، في المدرسة (الأحمدية)، حيث قرأ عليه (الياسمينة) في الجبر، وبلغ في الرياضيات شأناً تقاصر عنه كلّ أقرانه. 

وأصبح ملجأ الطلاب في حل المسائل الرياضية الصعبة المعقدة التي كانت تطرح عليهم في المدارس العلمية العصرية (3).

كما أتقن اللغة التركية والفارسية، وألم باللغة الفرنسية والألمانية

وأجاد ركوب الخيل، واشترك في كثير من السباقات التي كانت تقام في ذلك الوقت، كما أجاد الرماية والسباحة، ومهر في كثير من الفنون والصناعات الدقيقة، كإصلاح السلاح والساعات، وغيرها من الآلات الدقيقة المعقدة.

وهو إلى ذلك لاعب شطرنج ماهر، لا يشق له غبار (4)، يباري خصومه وهو معصوب العينين.

ولعل سائلاً يسأل أين شيخ الطريقة وأنت تتحدث عن عالم رياضي فلكي، فارس، سباح، لاعب شطرنج؟... فنقول: نعم إنه هو الشيخ عبد القادر: يافع لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، يلمح فيه والده مخايل الفطنة والذكاء، فيدعو مفتي المدينة، ونقيب الأشراف فيها، وعدداً كبيراً من علماء المدينة وشيوخها، ويوصي بالمشيخة له أمامهم، ويشهدهم على ذلك، شرط أن يتقدم حين بلوغه بامتحان أمام المفتي والعلماء في العلوم الشرعية، مع ابن أخيه الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد سعيد الهلالي، فإن فاز على ابن عمه، أو تساويا في المعرفة، كانت المشيخة له، وإن فاز عليه ابن عمه أخذها.

وشاء الله أن يتوفى والده بعد عام من هذه الوصية، وعُدَّ الشيخ عبد القادر شيخاً (للزاوية الهلالية) تحت وصاية الشيخ عبد الرحمن الحجار (ابن شنون) (5) ، وعند ذهاب الشيخ عبد الرحمن إلى الرقة مفتياً، أوكل الوصاية على الشيخ عبد القادر إلى الشيخ عبد القادر الحبال.

وهكذا لزم الشيخ الزاوية، لا يخرج منها إلا لحضور دروسه في المدرسة (الأحمدية) أو (الدليواتية) أو (الشعبانية)، ولمّا أنس من نفسه القدرة على الدراسة والفهم، اعتزل الناس في غرفته في الزاوية مدة ثلاثين عاماً، حابساً نفسه على كتبه، يطالعها، ويحضر مجلس الذكر يوم الجمعة ثم ينصرف إلى خلوته مع كتبه، حتى أتقن معظم العلوم والفنون، ثم خرج للحياة والناس، شيخاً، عالماً، ورعاً، أخذ الطريقة عن شيوخها (6) ودرس العلوم وأتقنها، ثم انصرف إلى العبادة والذكر، وذاع صيته، وانتشر أمره وكثر طلابه ومريدوه، وأصبح يحضر مجلسه كبار علماء عصره أمثال الشيخ محمد نجيب خياطة، وأخيه الدكتور الشيخ عمر، والشيخ عبد الله سلطان، والشيخ محمد زين العابدين الجذبة، والشيخ عبد الله سراج الدين والشيخ محمد الشامي، والشيخ ناجي أبو صالح، وغيرهم من علماء عصره، وقد رأيت أكثر هؤلاء الشيوخ، يحضرون مجلس الذكر في (الزاوية الهلالية) جالسين بخشوع، والشيخ عبد القادر واقف في المحراب يدير حلقة الذكر.

دائم الذكر، لا يخلو يومه من تلاوة القرآن الكريم، والنظر في أحد كتب العلم، أو قراءة أوراده.

كثير الصمت والتفكير، فإذا تكلم سدّد وأحكم، وكان كلامه فصلاً 

لا لغواً فيه ولا هزلاً، ومن أقواله التي كان يكثر ترديدها (من أراد الله به خيراً عرفه عجز عقله) (7)، وكان من دعائه (اللهم عرفنا عجز العقل بالعقل لا بالجذب) (8).

كتب الكثير من المؤلفات والأبحاث والحواشي على الكتب التي طالعها في الفقه والمنطق والرياضيات، لكنها تلفت قبل أن ترى النور نتيجة المطر الغزير الذي أصاب غرفة الشيخ في أحد الأعوام، وأودى بسقفها

فتلف كل ما فيها من كتب وكراريس وأثاث.

صبور، يتلقى قضاء الله وقدره بالرضا والاطمئنان، لا يعبأ بالدنيا أقبلت أم أدبرت، ولا يجزع لحوادثها ومصائبها (9).

معتدل القامة، مهيب الطلعة، عظيم الرأس، يزين رأسه عرف السادة (القادرية الخلوتية) الأبيض، وقد لفت عليه عمامة عظيمة، تزيده هيبة ووقاراً، يعتقد الناس فيه ويقصدونه للدعاء لهم، أو ليرقي مرضاهم، وربما لمسوا يده للتبرك به.

توفي قبل غروب شمس يوم الخميس الواقع في السادس من ذي الحجة، سنة: ست وثمانين وثلاثمئة وألف للهجرة، الموافق للخامس والعشرين من شهر شباط، عام: ستة وستين وتسعمئة وألف للميلاد، وحزنت عليه مدينة حلب، وحضر جنازته عدد كبير من علمائها وشيوخها، ودفن من اليوم الثاني في (الزاوية الهلالية) قبل صلاة الجمعة، رحمه الله.

الزاوية الهلالية

تأخذك الروعة، ويسيطر عليك الجلال، وأنت تتجه إلى (الزاوية الهلالية) عصر يوم الجمعة، سالكاً إليها دروب حي (الجلوم) وأزقته المتعرجة الضيقة الهادئة، وما أن تدخل زقاقها، حتى يشنف سمعك ذكر الله يملأ فضاء المكان، ويتغلغل في أعماقك، فتذوب نفسك هيبة وخشوعاً، تقف أمام بابها لتقرأ فوق قنطرته هذين البيتين:

ربّ هب لي مكانة قادرية= وتقبل ما شدته للبرية

روضة العلم والطريقة أرخ= فهي حقاً تكية اليوسفية

ثم تدلف إلى صحن الزاوية، لتقف خاشعاً أمام أضرحة شيوخها أتباع

الطريقة (القادرية الخلوتية)، المنتشرة في أرجاء الصحن، فلا يسعك 

إلا الوقوف لدقائق قليلة، تستغفر لهم، وتدعو لأرواحهم الطاهرة، ثم تيمم نحو اليمين قليلاً، لتكون لك وقفة خاصة أمام ضريح شيخنا الشيخ عبد القادر بن أبي بكر الهلالي.

أما الزاوية، فقاعة مربعة، اصطفت على جوانبها أبوب الخلوات الخشبية في طبقتين، علوية وسفلية، فإذا فتحت أحد هذه الأبواب، فأنت أمام غرفة صغيرة، لا يتجاوز طولها المترين، أما عرضها فأقل من المتر الواحد، وقد أعدت هذه الخلوات لإقامة المريدين المختلين فيها(الخلوة الأربعينية) في فصل الشتاء، وقد قامت هذه الخلوات على أطرافها الجنوبي والشرقي والغربي، وترك طرفها الشمالي لمدخل الزاوية ولنوافذها على جانبيه، ووضع على يسار الداخل من الباب الرئيسي

(قلة فخارية) كبيرة لا يحيط بها الرجل الجسيم.

ويتصدر الزاوية محراب خشبي صغير، يقف فيه شيخ الزاوية أثناء الذكر، وفي زاويتي الجدار القبلي، رفعت راية السادة (القادرية الخلوتية) وهي قطعة مربعة من القماش الأسود، أخذت من كسوة الكعبة المعظمة.

وقامت فوق هذه القاعة قبةً عظيمة بحجمها، تدلت من وسطها سلسلة حديدية، علق في نهايتها قنديل نحاسي قديم، بديع المنظر، محكم الصناعة

وعلى أطراف القنديل تدلى عدد كبير من الأمراس والحبال، علقت في نهاياتها السرج الزيتية القديمة، والخرزات الخشبية الكبيرة الجميلة الملونة.

يصطف الذاكرون أمام جدران الزاوية الأربعة وخلفهم أبواب الخلوات، يتخللهم العرفاء يضبطون إيقاع الذكر، ويقف الشيخ أمام المحراب، بينما يجلس المنشدون أمامه، ويقف عريفهم في وسطهم يردد المدائح النبوية والموشحات والابتهالات الدينية، وهم يرددون معه.

وقد تخرج في هذه الزاوية أكثر منشدي حلب ومطربيها، وقد أدركت الكثيرين منهم أمثال الحاج محمد الناشد، والحاج مصطفى الطراب، ويحضر هذه المجالس اليوم عدد كبير من منشدي حلب، وعريف الذكر اليوم أخونا ورفيقنا في طلب العلم الشيخ محمد مسعود بن شيخنا الشيخ محمد نجيب خياطة، وهو من أمهر المنشدين وملحني الموشحات في حلب، وكم كانت فرحتي عظيمة عندما كان والدي ـ رحمه الله ـ يصطحبني معه إلى مجلس الذكر، قبل وفاة شيخه الشيخ عبد القادر، وما زلت إلى اليوم أجد في هذا المجلس عزاء لروحي وتفريجاً لهمي وكربي.

كانت هذه الزاوية مسجداً صغيراً سكنه الشيخ محمد هلال الرام حمداني، إلى أن مات ودفن فيه، ثم خلفه الشيخ أبو بكر الهلالي، ثم خلفه ابنه الشيخ محمد هلال، وكان رجلاً صالحاً مباركاً، فأجرى أحد ولاة حلب في العهد العثماني الماء من قناة حلب إليها حباً بالشيخ، وبعد مدة اشترى أحد مريدي الشيخ داراً ملاصقة للمسجد، وأضافها إليه، فوسع بها صحنه وقبليته، وهذا المريد هو يوسف أغا بن مصطفى الموصلي عربي كاتبي، الذي توفي سنة: 1213هـ، ودفن في الزاوية، ووقف عليها الأوقاف وأضحت من أعظم زوايا السادة القادرية في حلب.

وهي الآن مسجد وزاوية تقام فيها الصلوات والجمعة والذكر عصر كل يوم جمعة.

المصادر والمراجع

1- ترجمة خطية أملاها علي نجل المترجم له الشيخ جمال حفظه الله.

2- حديث شفهي مع والدي الحاج عمر ـ رحمه الله ـ وكان من تلاميذ الشيخ عبد القادر ومريديه.

3- كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب للشيخ كامل الغزي.

4- مقابلة شفهية مع نجل المترجم له الشيخ جمال الهلالي.

5- مذكرات المؤلف وذكرياته عن الشيخ والزاوية.

=======-

(1) توفي والده الشيخ أحمد أبو بكر سنة: 1309، وكان عمر المترجم له ثلاثة عشر عاماً.

(2) جدّ الشيخ محمد جميل العقاد الواردة ترجمته ص 303.

(3) حدثني الشيخ جمال نجل المترجم له وخليفته في مشيخة الزاوية الهلالية: أن الأستاذ عبد اللطيف بوادقجي ورفيقه الأستاذ عبد الفتاح المحبك، كانا يدرسان في إحدى المدارس الأجنبية (اللايبيك)، وكان أكثر مدرسي هذه المدرسة من العلماء الفرنسيين، وخاصة مدرسي المواد العلمية، كالرياضيات وغيرها، وحدث أن طرح عليهما المدرس مسألة معقدة في الرياضيات ليمتحنهما، لمّا رأى فيهما من الذكاء والنجابة وأعطاهما فرصة لحلها، ولمّا عجزا قصدا الشيخ عبد القادر، وقرآ المسألة عليه مستعظمين لها، فضحك الشيخ، وراح يحلها لهم دون ورقة وقلم، بل لقد أشار لهما إلى خطأ في نص المسألة ثم صوبه لهما.

(4) ذكر لي الشيخ جمال الهلالي نجل المترجم له: أن قائد الجيوش الألمانية في الحرب العالمية الأولى قدم حلب، وسمع بالشيخ عبد القادر وإتقانه للعبة الشطرنج فدعاه لمنازلته، فنازله الشيخ وغلبه، ثم قامت بين الرجلين علاقة صداقة يتبادلان الزيارات واللعب بالشطرنج.

(5) انظر ترجمته ص: 67.

(6) حدثني الشيخ جمال الهلالي – نجل المترجم له – أنه منذ عام: 1279هـ لم تصدر إجازة عن الزاوية الهلالية بالخلافة في التسليك والإرشاد لأحد غير الخليفة الرسمي الذي يوصي له الشيخ – وغالباً ما يكون أحد أولاده – وذلك لانعدام الكفاءة في رأي شيوخها، وقد بقيت في نسله للبركة فقط.

(7) عن ترجمه خطية أملاها عليّ نجل المترجم له الشيخ: جمال الهلالي، شيخ الزاوية الهلالية.

(8) المصدر السابق.

(9) كان للشيخ عبد القادر قطعة أرض كبيرة ممتده من التلة السوداء قرب باب قنسرين إلى جنوبي الكلاسة حتى حدود حي المغاير، استولى عليها بعض الناس، وبنوا عليها دوراً كثيراً، كما أخذت الدولة ما تبقى منها، فلم يجزع الشيخ لذلك، واحتسب الأجر عند الله، عن المصدر السابق.

 

الشيخ. جمال الدين الهلالي بن عبد القادر
- ولد في مدينة حلب 1935 وتلقى التعليم الديني والرسمي في مدينة حلب حتى الثانوية ( الفرع العلمي ).
- بدأ بدراسة الطب في جامعات " هايدلبرغ وبرلين الغربية " في ألمانيا 1959م.
- توقف عن متابعة الدراسة بسبب وفاة والده, واضطراره للعودة إلى حلب 1966 .
- عاد لدراسة الطب 1968 في جامعة روما في إيطاليا. وتخرج عام 1973 .
- عاد إلى حلب ولم تمكنه التزاماته بالزاوية الهلالية أن يمارس الطب .
- أصبح شيخ الزاوية الهلالية وإمامها وخطيبها. ولا يزال يشغل هذا الموقع حتى اليوم .