محمد نجيب سراج الدين

 

1274 ـ 1373هـ

1857 ـ 1954م

 

 

 

الشيخ محمد نجيب بن الحاج محمد، بن الحاج يوسف سراج الدين الحسيني.

علامة، محدث، مفسر، فقيه حنفي أصولاً وفروعاً، عالم بالتوحيد والمنطق.

ولد في حلب، سنة: أربع وسبعين ومئتين وألف للهجرة، في أسرة عرفت بالتقى والصلاح وحب العلم والعلماء، فقد كان والده ملازماً للعلامة الكبير الشيخ أحمد الترمانيني (1) ، في أحضان هذه الأسرة المباركة، نشا الشيخ وترعرع على حب العلم، وقد وجهه والده منذ صغره إلى طلب العلم، فجاور في المدرسة (القرناصية)، ليتلقى فيها مبادئ العلوم الشرعية والعربية، فحفظ فيها المتون القصيرة في الفقه والعربية، ودرس مبادئ التفسير والتلاوة والتجويد، ثم انتقل إلى المدرسة (الإسماعيلية)، ليدرس علوم اللغة العربية والفقه والتفسير والأصول بشكل أوسع، وليتعمق في دراسة النحو والبلاغة والحديث ومصطلحه والمنطق والتوحيد على يد شيوخها الأجلاء، وانصرف همه في هذه المرحلة إلى مطالعة الكتب العلمية المتخصصة في هذه العلوم، فدرسها دراسة وعي وإتقان.

انتقل بعدها إلى المدرسة (الشعبانية)، إذ كانت الدراسة فيها على مستوى رفيع، يفوق أعلى الجامعات في عصرنا، فقرأ الفقه الحنفي على فقيه حلب ومحدثها العلامة: الشيخ محمد بن عثمان الزرقا، وأخذ علوم اللغة العربية، نحوها وصرفها وبلاغتها وآدابها على شيخه العلامة الشيخ بشير الغزي، كما أخذ عنه علم التوحيد والمنطق الذي أحبه الشيخ المترجم له وتعمق في دراسته، برعاية شيخه الغزي، وقرأ الشيخ في هذه المرحلة معظم كتب التفسير، التي كانت في عصره، وتفسير(القرطبي) خاصة على أساتذته في هذه المدرسة، وأستاذه الشيخ محمد بشير الغزي خاصة.

أما علم الحديث الشريف، فقد أحبه المترجم له حباً لا مزيد عليه فانصرف إليه، يحفظ صحاحه، ويدرس مصطلحه، ومتنه وسنده دراسة جعلته إماماً في هذا العلم، وأصبح بحق محدث حلب الأول في عصره، وقد قيض الله له من الشيوخ الأجلاء الذين أخذ عنهم هذا العلم ما لم يقيّض لغيره من العلماء.

فقد قرأ كتب الصحاح والمسانيد والمجاميع على شيوخه المحدثين ومن أشهرهم: شيخه العلامة المحدث المفتي الشيخ بكري الزبري، والعلامة المحدث الشيخ محمد كامل المؤقت، كما التقى محدث دمشق وعالمها العلامة الشيخ بدر الدين الحسني، وقامت بينهما علاقة ودّ وصداقة وحصل منه على الإجازة العامة في الحديث الشريف، كما حصل على إجازات شيوخه المتقدمين، بالإضافة إلى إجازة حصل عليها من شيخه العلامة المحدث الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني الحسني الفاسي.

لم يترك الشيخ المترجم له هذا العلم الجمَّ الذي حصَّله مكنوناً في صدره، بل عمل على نشره، وبثّه بين طلاب العلم خاصة، ومريديه من عامة الناس، فقد نذر نفسه للدعوة إلى الله، ونشر العلم، وتهذيب النفوس

فما يوم من أيامه إلا وهو حافل بالدعوة إلى الله، من خلال الدروس والمحاضرات العامة والخاصة.

فبالإضافة إلى دروسه المنتظمة لطلاب العلم في المدرسة (الإسماعيلية) والمدرسة (الشعبانية)، كانت له دروس عامة في الجامع الأموي الكبير، وفي (جامع الحموي) (2) و(جامع بانقوسا) (3)وفي

(جامع سليمان الأيوبي) (4) ، هذا عدا عن خطبة الجمعة، ومجالس الذكر واللقاءات الخاصة بطلابه ومريديه.

ففي يوم الجمعة، كان الشيخ يخطب الجمعة في جامع (سليمان الأيوبي)، ثم ينتقل إلى (جامع الحموي)، ليقرأ درساً في الفقه الحنفي، يعود بعده إلى بيته ليستريح قليلاً استعداداً لدرسه في التوحيد والعقيدة الإسلامية في (جامع بانقوسا)، وكانت دروسه تسير بشكل منتظم لا يكاد يختل نظامها إلا في القليل النادر عند المرض أو السفر، وكان (جامع الحموي) مدرسته الخاصة، فما من يوم إلا وله فيه درس أو محاضرة أو لقاء مع إخوانه من طلبة العلم.

ففي يوم الجمعة كان للشيخ فيه درس في الفقه الحنفي بعد صلاة الجمعة، ويفتتح يوم السبت بعد صلاة الفجر بدرس الحديث في

الجامع نفسه، يقرأ فيه صحيح الإمام البخاري، وصباح يوم الأحد يقرأ فيه درساً في التفسير، وفي يوم الاثنين كان جلّ طلاب العلم، وجمع غفير من عامة الناس يأخذون أهبتهم منذ الصباح، لحضور درس الشيخ في الجامع الأموي الكبير، ويغص المسجد على سعته بالمصلين، وطلاب العلم ليستمعوا إلى درس الشيخ في العقائد والتوحيد، والرقائق والوعظ والإرشاد، وبعد عصر يوم الثلاثاء، كان للشيخ درس في المواعظ والتربية والأخلاق في (جامع بانقوسا)، وله بعد صلاة الفجر من يوم الأربعاء درس في الحديث النبوي الشريف، يقرأ فيه على طلابه من كتاب: (مشكاة المصابيح) في (جامع الحموي)، وصباح يوم الخميس، كان له درس في السيرة النبوية في (جامع الحموي) أيضاً، هكذا كانت حياة الشيخ وأيامه كلها مصروفة إلى الدعوة إلى الله، ونشر العلم، والوعظ والإرشاد.

وإذا كان المترجم له لم يترك مؤلفات أو آثاراً مطبوعة (زهداً منه في الشهرة على ما نعتقد مع عدم التفرغ) فلقد ترك الكثير من المجاميع والتحقيقات والتعليقات والحواشي على كل الكتب التي قرأها، في الحديث والفقه والتفسير والتوحيد والمنطق والعربية، وما أكثرها، إذ كانت مكتبته عامرة تزخر بأمّات الكتب وروائعها، وقد ورثها عنه تلميذه الأول ولده شيخنا العلامة الشيخ عبد الله سراج الدين، وأفاد منها فائدة عظيمة، وهو يشير في كل كتبه التي ألفها إلى فضل والده عليه في هذا المجال.

 

 

ـ جامع الحموي ـ

صورة عن إجازة الشيخ محمد نجيب سراج الدين لولده 

الشيخ عبد الله سراج الدين بخط الشيخ أحمد السردار 

كما ترك الشيخ الكثير من طلاب العلم، الذين غدوا علماء العصر ودعاته، وهم أكثر من أن يحصيهم العدّ، ولعل ولده شيخنا الشيخ عبد الله أفضل نموذج لهم.

كان الشيخ منقطعاً للعلم طلباً وتعليماً، وهو لهذا يألف العزلة، والبعد عن الناس، ويترفع عن سفاسف الأمور، ويكره التزلف والانحياز لأيّ كان من أرباب النفوذ، حراً في رأيه، جريئاً في قول الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، وهو إلى هذا لين الجانب، متواضع لطلابه وللضعفاء والمساكين، وربما طلب منهم الدعاء، مشهورُ التقى والصلاح والورع، دائم العبادة والتنسك وقراءة القرآن الكريم، محبّ للنبي صلى الله عليه وسلم، مكثر للصلاة عليه في مجالسه وفي خلواته، متمسك بسنته، زاهد في الدنيا مبتعد عن المناصب، ومراكز الشهرة، ورع في أحكامه وفتاويه.

طيب القلب، سخي النفس واليد، محبوب من الخاصة والعامة، وقد روي عنه الكثير من الكرامات.

منور الوجه، أبيض اللون، ممتلئ الجسم، جميل المظهر والثياب، كث اللحية، ربعة بين الرجال، مهيب الطلعة، واضح القسمات.

وقد ظل الشيخ على هذه الصفات الحميدة رغم تقدمه في العمر

إذ قارب المئة عام، وفي يوم الخميس الواقع في السادس والعشرين من شهر شعبان، سنة: ثلاث وسبعين وثلاثمئة وألف، عرجت روحه الطاهرة إلى بارئها، بعد أن عانى من المرض وآلام (الروماتيزم) لفترة طويلة، وعمّ الحزن عليه مدينة حلب، وخرج لتشييعه عدد كبير من علماء حلب وطلبة العلم فيها، وجمهور كبير من عامة الناس، ثم دفن بين حزن العلماء ودعائهم، ودموع المشيعين وبكائهم، في مقبرة (الشيخ سعود)، وقد رثاه عدد من طلابه من العلماء الشعراء، ومنهم: تلميذه الشاعر الأستاذ محمد خير الدين أسبير(6) في قصيده سماها (رثاء وثناء) يقول فيها:

مولاي من سحب العلا أغدق على= شهم به تسترشد العلماء

فهو(النجيب سراج هذا الدين) من= بسنا هداه تنجب النجباء

علم بتوحيد الإله تفقهت= من بحر عرفان به الفقهاء

هو كوكب الإرشاد مفرد عصره= فله على فلك الرشاد لواء

إلقاؤه حكم بأبلغ حكمة= وحديثه انبهرت به البلغاء

وبدائع الألفاظ في أجيادنا= عقد على طول المدى لألاء

ريق الرسول رياض فضل تزدهي= بفؤاده والدعوة الحسناء

فمن الشريعة صدره كنزاً حوى= ومن الحقيقة قلبه الدماء(6) 

وبهالة العلماء بدر ساطع= وبأفق نهج العاملين ذُكاء

وحصافةً يحوي ورأياً صائباً= وفصاحة قد زانهن ذَكاء

سيما محاسن خُلقه في خلقه= شيم(النجيب) بوجهه سيماء

وكلامه صرف المزاج وقربه= لطف به تستأنس الجلساء

شهم لقد بلغ العلا فعلى الملا= طول المدى تتفاخر الشهباء

وبصرف خمر الحب أضحى فانياً= والحب فهو الغاية القعساء

مذ غاب عنا شخصه فخبا له= في الذكريات نوافح وصفاء

وبروحه ريحانة لنفوسنا= ورياض أنس في الولاء بهاء

فعليه رضوان الإله وبره= ما لاح من هدي الرسول سناء

ولذيذ مدح العاملين بمهجتي= من عنفوان شبابي الصهباء

لهفي على قوم قضوا لكنما= هم في صفاء سريرتي أحياء

لا بد في دار الفنا من فرقة= والبشر في دار البقاء لقاء

وثناء أهل الفضل بعد مماتهم= حيٌّ ولو همُ في الثرى أشلاء

مولاي فاحشرنا مع الأحباب في= يوم تلوذ بأحمد الشفعاء

واجعل فراديس الجنان مقرنا= فضلاً فمنك الجود والآلاء

وقد زرت قبره في مقبرة (الشيخ سعود)، فوجدته قبراً متواضعاً، كتب على أحد ألواحه: 

بوفاته أرخ وقل: لقد= ناداه مولاه للرفيق الأرفع

  • رحمه الله -

المصادر والمراجع

1. إعانة الطلبة المجدين في تراجم أعلام المحدثين من الشيوخ الحلبيين، مخطوط للأستاذ أحمد سردار، أطلعني عليه في إحدى زياراتي له في المكتبة الوقفية صيف عام 1995م.

2. حول ترجمة الإمام العلامة المرحوم محمد نجيب سراج الدين

تأليف ابنه الشيخ عبد الله ـ رحمه الله -.

3. ديوان: (نسمات الصفاء في ذكريات الأخلاء) للشيخ محمد خير الدين أسبير.

4. صفحات من حياة الإمام شيخ الإسلام الشيخ عبد الله سراج الدين الحسيني، تأليف الدكتور نور الدين عتر.

5. لقاءات ومشافهات متعددة مع عدد من شيوخنا وإخواننا من طلبة العلم، منهم: الشيخ محمد زين العابدين الجذبة، والشيخ أحمد قلاش والشيخ أحمد سردار، والشيخ عبد الرحمن الغش، والشيخ عدنان غشيم، وغيرهم.

========

(1) أحمد بن عبد الكريم 1208-1293هـ ،عالم محدث فقيه عابد، تولى إفتاء الشافعية بحلب، كان بينه وبين والد المترجم له علاقة ودّ فاقت علاقة الأستاذ بتلميذه لما رأى فيه من التقى والصلاح، وقد شاركه في بعض الأعمال التجارية، وزوج ابنته من ابنه السيد يوسف، وهو أكبر سناً من أخيه المترجم له الشيخ محمد نجيب، وقد ولد المترجم له بعد بشارة من الشيخ الترمانيني لوالده الحاج محمد، الذي رأى في منامه أن الشيخ الترمانيني ألبسه عمامته المباركة، فقص هذه الرؤيا على شيخه الترمانيني، فقال له: سيولد لك غلاموهذا الغلام يلبسها إن شاء الله، فولد الشيخ محمد نجيب، بعد هذه البشارة، وتحققت الرؤيا والحمد لله.(أ.هـ من حديث الشيخ أحمد سردار ومجموع له في ترجمة الشيخ). وانظر تاريخ الإفتاء في حلب الشهباء ص 224 للمؤلف. 

(2) جامع (الحموي): جامع قديم أنشأنه محمد بن داود النوري، سنة: 968هـ، وهو جامع حسن يقع في مدخل حيّ (البياضة) إلى الشمال من سبيل الحسبي، يشرف على القلعة من جهته الغربية، وانظر نهر الذهب 2/301.

(3) جامع (بانقوسا): جامع قديم شهير يقع إلى الشرق من ساحة باب الحديد، ويبدو أنه أنشئ قبل عام: 788هـ وأجريت عليه الكثير من الترميمات عبر العصور، وهو جامع كبير عامر بالصلوات والدروس العلمية وقراءة القرآن والأذكار... وانظر نهر الذهب 2/260. 

(4) جامع (سليمان الأيوبي): جامع قديم جميل عامر بالصلوات، يقع في محلة (الضوضو)، بناه الحاج سليمان الأيوبي، سنة: 738هـ، له بابان غربي يتجه إلى محلة (جب قرمان) وفوقه مئذنة جميلة، وشمالي ينفذ إلى محلة (صجلي خان)، وانظر نهر الذهب 2/271.

(5) انظر ترجمته ص 322.

(6) الدأماء: البحر