محمد سعيد الطنطاوي 3 - مدرسة تربوية متميزة
علمه
 
وننتقل أخيراً إلى علمه حفظه الله :
أولاً: اختصاصه:

لا يُصَدِّق من يرى الشيخ من بعيد أنه يعرف كلمة عن العلم الحديث، والعلوم الكونية، ولكنه كان من الاختصاصيين النادرين في مادة العلوم الكيمياء والفيزياء، وكان هذا الاختصاص هو الطريق الذي يدخل منه إلى كل أستاذ جامعي يدرس المواد العلمية والرياضيات والعلوم الطبيعية.

فكل من يسمعه يتحدث باختصاصه يأنس له، ثم يبدأ الحوار معه ليتحول الحوار إلى صداقة واحترام وتقدير.

ويشهد الله أني قلما حضرت نقاشاً في أي مادة من هذه المواد العلمية مع دكاترة الجامعة إلا انتهى بصمت المحاور، لا لأن الشيخ سعيد أعمق وأغزر علماً منه، بل لأن الشيخ يعتمد على ذاكرته الحادة، وذكائه الخارق في حفظ المعلومات واستذكارها عنده.

لقد كنت أرافقه دائماً إلى صلاة الظهر في أحد مساجد مكة، ويعود ليمر على قسم الفيزياء والكيمياء، فينتقل من أستاذ إلى أستاذ، يدخل من حوار إلى حوار لينفذ بعد ذلك إلى التوجيه التربوي الذي يريده من هذا الحديث.

فإذا ذُكر الأساتذة العلميون النادرون كان واحداً منهم بلا شك.

كما كان يستغل هذا الاختصاص في الدعوة، فعندما يزوره طلاب من الكليات العلمية، وهم لا يعرفون اختصاصه يدخلون وفي قلبهم وجيب من الأحاديث الدينية التي يطرحها معهم، فله هيبته بلا شك، لكن عندما يعرف اختصاص الطالب يبدأ بالحوار معه في اختصاصه، مهما كانت المادة العلمية نادرة، حتى في الطب والصيدلة، فيدخل في الحديث في تركيب الأدوية، وسرعان ما ينفتح قلب الطالب لهذا الحديث، ويحسُّ أنه ليس غريباً عن الشيخ، وليس بعيداً عنه، بل هو أمام أحد أساتذته المتواضعين، وكان حضور النكتة عنده، حيث يخلط الحديث العلمي بالحديث الشخصي، ويشعر الطالب أنه بحاجة إلى أن يتردد عليه، وينهل من علمه ومن تربيته.

قد يكون العلم الحديث والعلوم الطبيعية والرياضية والعلمية هدفاً حين يتحدث من خلالها عن عظمة الخالق، في خلق الإنسان، أو الحيوان أو الطبيعة أو النبات، لكنها في أغلب الأحيان وسيلة لاحتلال قلب زائره ومحدثه، لينتقل به حيث يريد بعد ذلك.
ثانياً: اختصاصه العلمي:

نخطئ بحق الشيخ كثيراً يوم نعتبر أن اختصاصه هو شهادته الجامعية: البكالوريوس في الكيمياء والفيزياء، ودبلوم التربية العام، لأن الشيخ اختصاصي في كل العلوم، لكن من الأمانة أن نقول: إنه المرجع الأعلى للأمة في علوم التاريخ والسيرة، والأدب والأنساب، والجغرافية، وهو من المراجع المهمة بعد ذلك في الفقه والتفسير والحديث، وبقية علوم الشريعة، وما من اختصاصي في هذه العلوم تربّى لدى الشيخ إلا بقي تلميذاً عنده.

وأبسط ما أقوله عن نفسي: إنه شيخي في الأدب والشعر، وشيخي في التاريخ والسيرة، وشيخي في الأنساب وهذا هو الذي حصلت به شهاداتي العلمية والأدبية، وشيخي في التربية قبل جميع هذه الاختصاصات، ولن تتضح هذه الادعاءات إلا بالأدلة.
الشيخ والشعر:

قال لي في حديثه اليوم بعد أن سألته : سيدي الشيخ في ذهني رقم عن علمك بالشعر وأنت طالب في المرحلة المتوسطة أخشى أن أكون واهماً فيه:

لقد سمعتك تقول: إنك دخلت امتحان الشهادة الإعدادية، وأنت تحفظ أربعة عشر ألف بيت من الشعر!؟

قال: الكلام صحيح وغير صحيح، صحيح بأني أحفظ تقريباً هذه الكمية، والكلام غير صحيح فلم أجلس لأُحصي بالأرقام ما أحفظ، قلت له: ومن أين جاءتك هذه الثروة الشعرية، وأنت ابن السادسة عشرة من عمرك؟ قال: لقد كنت أحفظ دون إرادتي أحياناً، حيث يعلق الشعر بذاكرتي، وأحياناً برغبة قليلة جداً، أحفظ .

لقد قرأت سيرة عنترة بن شداد، من ثماني مجلدات، وأنا في منتصف المرحلة الابتدائية ، وثلثها من الشعر، وقرأتها أكثر من مرة، وأحفظ الكثير من الأشعار منها دون أن أدرك معناها.

وقرأت ثلاث مجلدات كبار عنوانها: المثالث والمثاني في روايات الأغاني، وهي اختيارات من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.

وتركت المدرسة في الصف الثاني المتوسط، ورحت أقرأ كل ما يقع في يدي من قصص وروايات مترجمة وعربية ومجلات، وروايات تاريخ الإسلام، وبعد سنة من الضياع قررت أن أتقدّم إلى امتحان الشهادة الإعدادية ـ نظام حر ـ فاستعرت كتاب الأدب للصف الثالث الإعدادي، وكان في 600 صفحة تقريباً لم أفتح إلا فهرسه الأخير الذي استعرض أسماء الشعراء والكتاب ونماذج من شعرهم من لدن امرئ القيس إلى الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي والأندلسي وعصر الانحطاط، واليقظة: والثلاثي: شوقي وحافظ وخليل مطران الأخطل الصغير، وأحضرت دفتراً فاشتري ديوان كل شاعر أقرأ وأختار من شعره وأحفظه منذ امرئ القيس إلى شوقي. لقد كنت غارقاً في الشعر في كل خلية من خلايا جسمي فلا تعجب إذا قلت لك: إني دخلت الامتحان بهذا الرقم من الأبيات.

لم أكن في الصف الخامس الابتدائي أكتب موضوعاً للإنشاء إلا شعراً، وأحياناً أكتب الموضوع الواحد لزملائي بقصائد مختلفة، وحين كان الموضوع في التعبير للصف الثالث الإعدادي عن الوفاء، استعرضت التاريخ الإسلامي في ذهني، فاخترت ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج، ولم أقدمها قصة إنما كتبتها مسرحية كاملة، في فصول، وكان علَّامة اللغة العربية الشيخ سعيد الأفغاني ممن يصحح في امتحان الكفاءة، فجاء وزارنا حيث كان صديق أخي الشيخ علي، وتحدث عن أغرب ما رأى عن طالب كتب مسرحية، واختلف المصحِّحون بين من يريدون أن يضعوا له الصفر أو يضعوا له العلامة التامة، ثم أعطوه علامة النجاح حتى لا يرسب لأنه يستحيل أن يكتبها طالب.

ومما قاله في حديث آخر:

سمعت أن أدب العرب وأخبارهم موجود في أربعة كتب: عيون الأخبار لابن قتيبة ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والبيان والتبيُّن للجاحظ ، والأمالي لأبي علي القالي، فقرأت عيون الأخبار والأمالي، وحفظت الكثير منهما، وحين كنت أحفظ بيتين لابن الأطنابة:

متى تجمع القلب الذكي وصارماً وأنفاً حمياً تَجْتنبك المظالم

عرفت بعد ذلك أنَّ لها قصة وقصيدة تفوق ثلاثين بيتاً، وكيف أتى عند الكاهنة، ودعته إلى أن يترك إبله وماله، فرفض فبحثتُ عن القصيدة وحفظتها.

كنت أجلس في المجلس الواحد ثلاث ساعات وأكثر، لا أنطق إلا شعراً، وقلما أسمع كلمة إلا آتي بشاهد شعري عليها.

ولو جلستَ معه جلسة ولو لدقائق لابدَّ أن تسمع أبياتاً من عيون الشعر العربي.

والأكثر أهمية من الحفظ أنه كان يعرف اسم الشاعر، والكتاب الذي وردت فيه القصيدة، والمناسبة الشعرية، وتاريخ الشاعر.

أذكر أني استشهدت في أحد كتبي بالبيت الشعري المشهور

كُتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

وكان عندنا في الجامعة موسوعة شعرية، قام عليها عدد من الأدباء والباحثين جمعت أكثر من سبعين ألف بيت من الشعر، فأتيت إلى أحد الزملاء ورجوته أن يعلمني عن القائل لهذا البيت حتى أعيد الشعر إلى مصدره، وتوقعنا معاً أن يكون هذا البيت لأحد الشعراء الجاهليين.

ومضى يومان وهو يبحث لي في الموسوعة دون جدوى، فقلت له : سوف أذهب إلى موسوعتي، إلى الشيخ سعيد الطنطاوي، وفعلاً زرت الشيخ في بيته، فقلت له:

سيدي الشيخ : هذا البيت:

كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول.


أليس من الشعر الجاهلي؟ قال: لا . قلت: لمن هو إذن؟ قال: أتسمع بعبد الله ابن الزبير؟ قلت: نعم. قال: بأخيه مصعب؟ قلت: نعم، قال: بالمختار بن عبيد الثقفي، الذي قتله مصعب؟ قلت: نعم. قال: كان للمختار زوجتان، إحداهما تبرأت من أفكاره وادعاءاته بالوحي إليه، وأخرى بقيت على الإيمان به، فقُتلت. فقال الشاعر في رثائها أبياتاً منها هذا البيت. قلت له: وأين أجد ذلك؟

قال: لا تكن ثقيل الدم، انظر في أيِّ كتاب تاريخ الطبري ، البداية والنهاية، وابحث عن هذه الحقبة من التاريخ، فستجد هذه الأبيات.

وفعلاً مضيت إلى بيتي، وبحثت عن المختار ومقتله، ووجدت اسم الشاعر، والقصيدة والبيت. وليس هناك شعر دون شعر، عند علامتنا الشيخ، بل كل أنواع الشعر الوطني والسياسي والقومي والتاريخي والحديث والأندلسي والجاهلي والغزلي ، والماجن والزهد، كل ذلك موجود في تلافيف دماغه.

وكأنما نُقل ديوان الشعر العربي إلى عقله وقلبه.

وصَوْغُ الشعر سهل عليه، وأحياناً يُجيبك على كل رأي بشعر يتمثله، ويصوغه ، فعنده الملَكَة والموهبة الشعرية، لكنه لم يحرص على أن يكون الشاعر الذي يشار إليه بالبنان، وما يقوله متمثلاً أقرب إلى النظم منه إلى الشعر.

ولديه قدرة فنية عجيبة، وموهبة ذوَّاقة، بحيث يُميِّز بها الشعر، صحيحه من سقيمه، ومن كثرة مطالعته له أصبح قادراً على معرفة انتماء الشعر ونقاط ضعفه ومواطن إجادته.

وما أعتقد في عصرنا الحاضر أن هناك رجلاً يحوي في عقله هذا الكم من الشعر، والنوع منه مثله.

لكونه احتواه منذ طفولته، واحتفظ به في شبابه وكهولته، فبقي في عقله حتى جاوز الثمانين، وإن كان يشكو اليوم من بعض النسيان بحكم السن، لكن قلت له : بشعرك المنسي ليت عندنا زكاة شعرك.

ولا أعني أنه أعظم الأدباء، لكني أعني أنه أعظم الموسوعيين، فكثيرون يوجد الشعر في مؤلفاتهم التي قد تتجاوز العشرين والثلاثين، لكنها ليست في عقولهم وصدورهم وقلوبهم كما هي عند شيخنا العظيم.

لقد قمت بدراسة الشعر في عهد النبوة، وعشت معه سنتين متواصلتين، ونلت به شهادة الدكتوراة في الأدب العربي، لكني واثق أني لا أحفظُ من تلك الآلاف المؤلفة من هذا الشعر ما يتجاوز مائة بيت.

ويصح أن نقول عنه اليوم بما يستوعب في عقله وقلبه: راوية شعر العرب في القرن العشرين.
الشيخ والتاريخ:

تلك الثقافات التي تحدثنا عنها في الأدب والشعر، هي كلها جزء من التاريخ فكتاب «الأغاني» فيه سجل تاريخ العرب وتاريخ ثقافاتهم، وفيه السيرة النبوية، وسيرة الراشدين والأمويين، والعباسيين، بغضِّ النظر عن مستوى الصحة في كتب الأدب، فهي رواية أدبية لا تعتبر حُجَّةً في التاريخ.

وله مطالعاته التاريخية الخاصَّة التي ابتدأت منذ وعيه على الدنيا، حيث درس السيرة النبوية، وتاريخ الطبري، وعيون الأخبار، وفتوح الشام للواقدي، ودرس متأخراً البداية والنهاية لابن كثير، وأعني بقولي متأخراً أي في عهد شبابه لا طفولته، ومراهقته، لكن سعة ثقافته لا أعرف عنها الكثير. فهو يقرأ كل يوم، وحتى عندما كلَّ بصره وأصبح يلقى صعوبة كبيرة في القراءة، لم يتمكن أن يتخلى عن هذه الهواية، أو قل: هذه الرسالة، وفوجئت أنه يحفظني بعض أبيات من الشعر، اطلع عليها منذ أسبوعين، وبقي يُردِّدها حتى أصبحت جزءاً من محفوظاته، وكثيراً ما كان يردد عليَّ هذا البيت من الشعر ويحفظني إياه.
نديمي قطتي وحبيب قلبي دفاتر لي ومعشوقي السراج

فلم يعشق في حياته ـ بعد حبِّ الله ورسوله ـ إلا العلم الذي ولد معه، وقد يدفن معه، وهذا ما يحزُّ في نفسي. لقد قلت له: يا سيدي الشيخ يصح بك مقولة أمير المؤمنين علي t بأبي ذر الغفاري: وعاء مُلىء علماً ثم أوكئ عليه.

فالذين استفادوا من علمك قلَّة، لكن إن لم تدوِّن هذا العلم فسيُدفن هذا العلم معك.

ولا أستطيع أن أُلح كثيراً على هذا المعنى، فهو يحملني القسط الأكبر من هذه المسؤولية، وخاب أمله فيَّ في أن أكون راويته وحامل علمه، واعترف أني فشلت في ذلك، فأنا أشبه بالابن العاق له من الابن البار.

لقد قال لي ذات مرة: أنا وأنت كالأعمى والمقعد، فأنت الأعمى الذي يحملني من خلال قدرتك على التأليف، وأنا المقعد الذي أدلك على الطريق من خلال وضع العلم بين يديك لتنشره.

وعودة إلى علمه في التاريخ
التاريخ الإسلامي في عقله زماناً ومكاناً وشخصيات:

ولست مبالغاً ـ بإذن الله ـ فيما أدَّعي فما أذكر أني سألته في حياتي كلها سؤالاً عن حدث في التاريخ الإسلام إلا حدثني عن رجالاته تاريخ ولادتهم وتاريخ وفياتهم، أو تاريخ وفياتهم على الأقل، حيث لم يذكر التاريخ زمن ولادتهم.

وعن الأعمال التي قام بها هؤلاء الرجال ومدى تأثُّرهم بمن سبقهم رضي الله عنهمع المحافظة على تواريخ الوفاة والميلاد إن وجدت)، ومدى تأثيرهم فيمن بعدهم، والمكان الذي وقع فيه الحدث في أي بقعة من العالم الإسلامي أو العالم كله.

وحين تكون البقعة مجهولة، وكثيراً ما تكون كذلك، يقربها لأقرب موقع أو مدينة معروفة، يحدد جهة بُعْدها عنها، وهل هذا البعد عن هذه البقعة، باتجاه الشمال أو الجنوب أو الجنوب الغربي أو الشمال الشرقي.

في رأسه خريطة العالم، وفي رأسه تاريخ العالم، وفي رأسه رجالات العالم خلال كل العصور، وما عليك حين تسأله إلا تنتظر عليه ثواني ليستعرض الخارطة والتاريخ والزمان والمكان، ويأتيك بالجواب سواء الذي نسأله عنه من المشاهير عالماً أو ماجناً أو شاعراً أو مجرماً، أو محدثاً أو بحاراً، فهو الذي تحتشد في عقله كل مواصفات هؤلاء الرجال، ولا أذكر مرة واحدة خانه الجواب، أو ذكرت حدثاً كان جديداً عليه.

كنت مسؤولاً في الجامعة عن الرسائل الجامعية رضي الله عنهالدكتوراه والماجستير)، في تحضير أسمائها أو موضوعاتها للطلبة عن طريق الاتّصال بمركز الملك فيصل بالرياض، وكل معلوماتي منه، ومرت معي رسالة عن دولة في اليمن لعلها الدولة الرسولية فيما أذكر، ودخل عليّ حيث تشرفت بالعمل بجواره سنين عدة، وذكرت له موضوع الرسالة فحدّثني عن تاريخ الدولة، ومكانها في العمق والحقبة التي وُجدت فيها، والرجال الذين حكموها مع التواريخ المتتابعة.

والأطرف من ذلك أن أحد الإخوة العلماء زاره، وطلب أن يتناول الفطور عنده، فعرض الشيخ عليه مفردات الفطور، وذكر إن كان يرغب بقلي البيض، وكان العالم يحفظ بيتاً من الشعر يستعمل كلمة البيض الذي في الخصيتين ـ والكلفة بينهما مرفوعة ـ فاندفع وذكر البيت بهذا المعنى، وظن أنه أفحم الشيخ سعيداً بهذا البيت الذي لا يليق بالشيوخ والعلماء.

سأله الشيخ ببرود : ثم ماذا؟ ما البيت الذي قبله؟ وما البيت الذي بعده؟ ومن قال هذه الأبيات الثلاثة؟ ولمن قالها ؟ وما هي المناسبة؟ أسئلة تتالت، فغر العالم فاه، وكاد يصعق.

والأبيات تكاد تكون ماجنة، وأعطاه تاريخ هذه الأبيات كاملة، والمناسبة والردود عليها من القاضي الآخر، ومن أجل هذا فلا يجرؤ أحد أن يتعالم عنده، لأنه سيناله التراجع وتنزل به الهزيمة، ومن أجل هذا كذلك، فأساتذة التاريخ جميعاً حين يزورونه يأتون طلبة علم يسألونه عما استعصى عليهم أو عجزوا عن تحصيله أو عجزوا عن فهمه.

أذكر أني زرته ذات يوم في بيته، وكان العالم والمؤرخ الكبير اللواء محمود شيت خطاب في زيارته.

وخطَّاب موسوعة عظمى في التاريخ، وله سلسلة : قادة الفتوح في الإسلام، التي تجاوزت بضعة عشر مجلداً، وكانا يتناقشان في تاريخ الموصل: هل هي سوريَّة أم تركية أم عراقية؟ واحتدم الجدل أكثر من ساعة، وأنا أستمع جاهلاً بكل ما يتذاكران به، وبعد هذا الحوار الطويل قال اللواء رحمه الله تعالى :إلى هنا وانتهى علمي، وتابع الشيخ سعيد الحديث بعده قرابة نصف ساعة، حيث أثبت سورية الموصل أو تركيتها لا أدري.
وهذه بعض ذكرياتي العلمية بين يديه:

أزعم أني كتبت ما لم يسبقني أحد إليه عن رجالات الفتنة العظام الذين شُوِّه تاريخهم، وأخص بالذكر كتاب معاوية بن أبي سفيان في سلسلة «أعلام المسلمين» عام 1980م، وجهدت سنين طوالاً لأستخلص الروايات المقبولة، أو الصحيحة من الروايات المنحولة أو الموضوعة، وكتبت في مقدمة الكتاب هذه الفقرة:

«ولعل الفضل الأكبر في تدقيق هذا الكتابرضي الله عنه معاوية) لشيخنا وأستاذنا العلامة محمد سعيد الطنطاوي... وأرفعه نداءً له باسم الشباب الإسلامي على صفحات هذا الكتاب، أن يتناول قلمه ويمدَّ الشباب المتعطِّش بتراجم مركّزة مستوفاة دقيقة عن شخصيات التاريخ الإسلامي، فهي أمانة في عنقه...»

وقدمت الكتاب إليه فكان تقويمه له: هذا كتاب جيد في الفتنة، ولكنه ليس كافياً في تحليل شخصية معاوية العبقرية العظيمة، دفعتني هذه الجملة إلى إضافة أربعة فصول لاحقة في الطبعة الثانية هي: معاوية وأهل البيت، قيادات بني أمية تجتمع، ومعاوية وموقفه من الخصوم، ومعاوية والرعية، وعرضت عليه الكتاب بعد هذه الإضافات فلم تحقق رجاءه، وانتقد فيها ضعف اللغة، وضعف الروايات، قلت له: لا أدقق كثيراً في صحة الرواية حين ذكر الفضائل، إنما أُدقق عند ذكر النقائص فأكد لي أن بعض الحواريات في هذه الفصول تشمل بعض النقائص، ولكنه أجاز الكتاب.

أما كتاب عمرو بن العاص t الذي استحوذ من وقتي سنين طوالاً كذلك، وأخرجته في ستمائة صفحة، كنت أعتقد أنه سيسرُّ به، وكان ما أردت، لكن كتابة جُمل ينقصها التدقيق الشرعي، رأى أنها غيَّرت الموضوع ولم يُجز الكتاب حتى يطبع ثانية وتُصحَّح تلك الجمل.

وحين هممت أن أكتب عن سعيد بن العاصt ترجمة موجزة، وهو من صغار الصحابة، استخرجت ترجمته من تاريخ ابن عساكر، وإذا الترجمة مليئة بالأخطاء،وبالمقابل فكثير من المعاني لا تُفقه، فحملت الترجمة، وجلست تلميذاً بين يديه قرابة ساعتين ونصف أقرأ الجمل بأخطائها، والتي تبلغ أحياناً نصف صفحة، وعلى الصعوبة الكبيرة في قراءته لضعف بصره في هذه الأيام يصحح الأخطاء، ويعرف التحريف من أين جاء، أو الزيادات إن وُجدت من ذاكرته دون العودة إلى مخطوط ابن عساكر عنده، وخرجت فرحاً من عنده بما أنجزت.

كنت قبل يومين عنده، وتحدثنا عن صغار الصحابة، وحدثته عما أنجزته في الكتابة عن عبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص، وأودُّ الكتابة عن حبيب بن مسلمة، والنعمان بن بشير.

قال معرضاً وملمحاً وملوحاً بي: الوليد بن عقبة هو الأهم في الكتابة، والذي شوهت تاريخه مجموعة المؤامرات التي قادها ابن سبأ، وجعله شارباً للخمر، فاسقاً. وهو من أنظف وأنصع الشخصيات، وكان محقاً في النيل مني بشكل غير مباشر. فقد قرأت كل شيء عظيم عنه، لكني توقفت عن الكتابة عنه لما اشتهر عنه بأن الآية نزلت فيه : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] {الحجرات:6}

قال لي : هل يمكن لمن صحَّ فسقه، وحسب معرفتك بشخص خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخصية عمر t أن يُولِّياه؟ ألم يكن والياً لأبي بكر وعمر؟ وهل دقَّقت في عمره، ومدى صحَّة هذه الرواية عنه.

وشعرت فعلاً بخضوعي وتأثري بدعايات أهل المؤامرة، وعزمت على الكتابة عنه.

إنه شيخي العلمي وشيخي التربوي.

ولم يُجزني إلا في السيرة النبوية، أما في التاريخ الإسلامي فلا أزال في موقع الامتحان عنده، وأرجو أن يجيزني وأنجح علماً بأني كتبت أعقد كتابات في التاريخ الإسلامي، وكانت أساساً ومرجعاً للكتابات الحديثة، عن شخصيات الفتنة ، كما ذكر المؤلفون المعاصرون في هذا المجال.
فقه السند والمتن:

والذي يسمع هذا العرض عن أعظم مؤرِّخي العصر العلامة سعيد يخطر بذهنه أنه مجرَّد جامع للحوادث وراوٍ لها، وهذا منتهى الخطأ.

فدرايته في نقد المتن، لا يبلغ شأوه بها أحد، ففقه النص، ومقارنته بالنصوص الأخرى، ومعرفة التناقضات في داخله لا يدركها إلا المهَرَة الصَّاغة الكبار، فقد يدرك تمحيص السند القلة القليلة من العلماء أما دراسة المتن فهي لقلة القلَّة، التي تُعدُّ على أصابع اليد والشيخ حفظه الله على رأسهم بلا منازع.

وأتحدَّث عن اختصاصي الذي أجازني فيه في السيرة النبوية، لأني كلما استعجم عليَّ نصٌّ أعود إليه فأسأله عنه فيزيل إشكالاته، ومع أني حزت جائزة السيرة النبوية من سلطان بروناي، فأنا أعلن أني لا أزال تلميذاً في مدرسة الشيخ.

قلت له ذات يوم: سيدي الشيخ في رواية البخاري عن سعيد بن زيد: أن عمر رضي الله عنه كان يُوثقه على الإسلام ويمنعه منه، وفي الروايات الصحيحة الأخرى عن إسلام عمر رضي الله عنه: أنه فوجئ بإخباره بإسلام سعيد بن زيد صهره وأخته وهو ماضٍ لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى بعدها لخنته سعيد وبطش به.

فكيف يُحلُّ هذا التناقض؟!.

كيف كان عمر رضي الله عنه، يوثق ختنه سعيداً على الإسلام، وكيف لم يعرف بإسلامه إلا لحظة إخبار الصحابي له به، ونظر فاحصاً في النصَّين وقال: لابدَّ أن تكون ماهراً في اللغة حتى تفقه نصوص السيرة فكلمة «موثقي على الإسلام» ليست بالضرورة تعني موثقي لأني أسلمت، بل يمكن أن تعني أن موثقي لما يرى من توجهي للإسلام، من دون أن أعلن ذلك.وخوفاً من إسلامي كان يقيدني.

وعلى هذا فالوثاق خوفاً من أن يدخل سعيد في الإسلام، وكشف الإسلام كان حين فُوجئ عمر به، وأمثال هذه الإشكالات العلمية العويصة كانت أكثر من أن تحصى.

وكل بيت شعر في السيرة النبوية لم أدرك معناه أو أعرف ترجمة الرجال فيه كنت أهرول إليه فأسأله عنه ويجيبني عليه.

لقد كانت كبار الشخصيات الرسمية والعلمية في المملكة العربية السعودية خاصَّة وفي العالم الإسلامي عامة تدرك رسوخه في العلم فتزوره إجلالاً له، أو لتتذاكر معه، أو لتسأله، فمثلاً الدكتور عبد الله التركي، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ووزير الأوقاف السابق، زاره مرتين في بيته المتواضع، وألحَّ عليه للاستفادة منه فاعتذر لأنه غدا طاعناً في السن.

والدكتور راشد الراجح مدير جامعة أم القرى ورئيس النادي الأدبي بمكة ونائب رئيس مؤتمر الحوار الوطني، زاره في بيته مراراً، وكنت شاهداً لذلك، والشيخ عبد الله، أعلم علماء المنطقة الغربية رحمه الله تعالى سمعت منه ثناءه على علم الشيخ، وكيف كانا يتناولان مسائل الفقه الإسلامي بعد الفجر في طرقات مكة.

وقلَّما توجد شخصية علمية دينية لا تعرفه وتعرف فضله وعلمه.
الشيخ وبقية العلوم الشرعيَّة:

ومن أهمها: الفقه والحديث والتفسير والأصول ، له اضطلاع وتبحُّر في هذه العلوم، وكبار أساتذة هذا الفن يزورونه ليتذاكروا معه، أو يسألوه، مثل الشيخ محمد أديب الصالح، والشيخ محمد علي الصابوني، والدكتور أحمد حسن فرحات أستاذ مادة التفسير لثلاثين عاماً في الجامعات العربية، والدكتور مصطفى مسلم،والدكتور أبو الفتح البيانوني، والعلامة المحقق المحدث الشيخ محمد عوامة.

وكذلك العلامة المحدث الشيخ شعيب الأرناؤوط وزميله في صغره، والشيخ ناصر الألباني رحمه الله تعالى والحوارات الطويلة معه والتي كانت تمتد لساعات، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ، والشيخ ناصر بن حمد الراشد، الذي توفي وهو رئيس القضاء الأعلى في المملكة، وجهابذة الشيوخ السوريين المقيمين في سورية، أمثال الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، وأخيه الدكتور محمد الزحيلي، والذي كان تلميذه، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ومن لا أستطيع إحصاءهم هم تلاميذه أو إخوانه و كلهم يعلمون رسوخ علمه في هذه الاختصاصات.
الشيخ وعلم الأنساب:

وقد أبدع في هذا المجال، وأخذ هذا العلم من اهتمامه فكأنما نسب قريش، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم مُسطَّر في قلبه، وليس فقط بطريقة تأليفه، إنما يقوم بتوزيعه حسب تراجم الصحابة.

وقد سألته ذات يوم عن السلميين من الصحابة فتجاهل السؤال، ثم كتب لي في اليوم الثاني هذه الرسالة: بعضُ الصحابة السلميُّون.

سألتني أعزَّك الله لما التقينا قبل ظهر اليوم 24/3/1411 عمَّن أعرف من الصحابة من بني سُليم، ولما كنت وقتئذ لا أذكر إلا قليلاً منهم، ولما كنت في ذلك الأمر لم تأت البيوت من أبوابها لهذا وذاك لم تخرج مني حينئذ بجواب.

ثم رجعت إلى نفسي لما رجعت إلى بيتي، فأدركت أن الوضع لم يكن مستقيماً، وأنك إذ كنت أخطأت فإني لم أُحسن، وذكرت الحديث :« أدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم»، فاسترحت إلى أن أستجيب لطلبك وأعرض فيما يلي ما وصلت إليه من أسماء الأصحاب من بني سليم...»

ثم ذكر لي في خمس صفحات أسماء سبعه وتسعين صحابياً من بني سليم، لا يكتفي بذكر أسمائهم، إنما يذكر تعريفاً موجَزاً بأهم ما اشتهر به هذا الصحابي علماً بأنَّ الصحابة في كتب التراجم يُكتبون حسب سابقتهم في الإسلام أو حسب ترتيبهم الهجائي، وليس هناك تراجم حسب القبائل.

ولحفظه تاريخ الجاهلية كله، يستطيع بيسر أن يربط بين قرابة هذه القبائل من بعضها، والنسب الذي تنتهي إليه، ولم يكتف بثقافته عن القبائل في الماضي، وأماكن وجودهم، وهذا متوفر في الكتب، إنما يتابع الأنساب في الوقت الحاضر للقبائل في اليمن والسعودية والخليج، حيث الانتساب القبلي هو الأساس، وحين يلتقي مع شاب يمني أو سعودي فيعرِّفه على نفسه، فيبدأ باستعادة علمه ومعلوماته عن مكان وجود القبيلة، وهل اسمه محدث، أم أنها من الأساس الذي كان من قبل، والأسماء المعاصرة للقبائل لأيِّ القبائل القديمة تنتمي، وخلال دقائق يقف محدث الشيخ مبهوتاً لا يعرف إلا المعلومات الضئيلة عن قبيلته ومكان إقامتها ليحدثه الشيخ بإسهاب عن الفروع والأسفار والمواقع الأخرى للقبيلة.

وقد ورثني عشر معشار هذه المعلومات، وشاركته في حُب هذه الأنساب من خلال مواقفها من الإسلام. وقد أقمت الجزأين الأخيرين من كتابي عن «المنهج التربوي للسيرة النبوية» باسم التربية السياسية، حاولت من خلالها ومن خلال سنة الوفود أن أستعرض وفود جزيرة العرب التي قاربت مائة وفد، وقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وربطتُ ماضيها بحاضرها، ودورها الريادي في الإسلام، ولعل الكتاب الوحيد من كتب شيخنا الذي أعتبره جاهزاً للطباعة هو: «شجرة نسب سَدَنة البيت الحرام الشيبيين».
كلمة أخيرة:
إذا ذكرنا السياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية، والتي قامت على أساسها النهضة التعليمية في المملكة، فنذكر الشيخ سعيداً الطنطاوي واضع أسس هذه السياسة.
وإذا ذكرنا منهج التعليم الثانوي الذي اعتمدته المملكة منذ ثلث قرن تقريباً فالعمود الفقري فيه هو الشيخ سعيد الطنطاوي، وذلك في معظم فروعه.
ففي التاريخ مثلاً تقدم أساتذة الجامعات المختصُّون بمنهج لمادة التاريخ في المرحلة الثانوية وتقدَّم الشيخ سعيد اختصاصي الكيمياء والفيزياء بمنهج مغاير لمادة التاريخ في المرحلة الثانوية، وبقي المنهجان يتصارعان ويُعرضان على اللجنة العليا حتى فاز المنهج الذي قدَّمه الشيخ.
وإذا ذكرنا الكثير من علماء المملكة اليوم ومفكريها فكثير منهم تتلمذ على يد الشيخ حفظه الله.
وإذا ذكرنا الكثير من رجالات الشام وعلمائها، فكثير منهم تتلمذ على يد الشيخ.
لقد كان مدرسة علمية متميزة.
لكنه كان قبل ذلك مدرسة تربوية متميزة، وأعود فأكرر ما قلت في المقدمة:
وحسبي ما قدمت من معلومات في عُجَالة من الوقت، وانشغال في العمل معظمه من الذاكرة لعلي أستطيع أن أوفيه حقه في كتاب مستقل وسفر متميّز.
جزى الله علامتنا وشيخنا خير الجزاء على ما قدَّم ويُقدِّم لهذه الأمة، وحفظه الله بيننا بقية السلف الصالح، وواحداً من العلماء الربَّانيين لهذه الأمة الذين تقوم بهم النهضات، ويتم من خلالهم التغيير .
وأستغفر الله تعالى مما أكون قد سهوت أو أخطأت أو قصرت في حق شيخنا العظيم.
[إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] {هود:88}
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين
23/ربيع الأول/1425 الموافق 12/5/2004

نشرت 2013 وأعيد تنسيقها ونشرها 25/9/2019