الشيخ حكمت نعسان آغا

 

( 1920- 1992)

سيرة ذاتية 

كتب الدكتور رياض نعسان آغا في كتابه ( سارح في الزمان ) معرِّفاُ بوالده الشيخ حكمت نعسان آغا يقول :

(لم يكن بيتنا يعرف التعصب... كان الأصدقاء في إدلب يلقبون والدي بالشيخ "العصري" لأنه كان شخصية مختلفة عن شخصية رجل الدين التقليدية المبالغة التي تصطنع الحياة بدلاً من أن تعيشها ببساطتها ...

ولئن كنت مضطراً إلى الحديث عن أبي ـ رحمه الله ـ لأنه المدرسة الأرحب التي تخرجت منها، فإنني أغالب حرجاً وخوفاً من أن يظن القارئ أنني أسعى إلى مديح والدي وإطرائه...

ولن أزعم أنني سأكون موضوعياً في الحديث عن أبي... فأنا أعترف بأنني أنظر إليه بعين المحب، وبعين الرضا الكليلة عن كل عيب...

وحسبي أن الكثرة من الناس الذين قد يقرؤون ما أكتب (في سورية بخاصة) يعرفون والدي معرفة عميقة تعفيني من مغالبة الحرج... لأنه كان شخصية عامة... ولأنه كان أستاذاً لأكثر من خمسة أجيال... فقد عمل في التعليم في مطلع الأربعينيات، وفي منتصف الستينيات، عيِّن مدرساً دينياً عاماً في محافظة إدلب، وهذا ما أتاح له أن يتصل بالأجيال اتصالاً وثيقاً، فضلاً عن عمله بالإذاعة السورية منذ أوائل الخمسينيات...

كان والدي عذْب الصوت، وكان لهذه الموهبة أثر ضخم ليس في تكوينه وحياته وحدهما وإنما في تكوين الأسرة كلها، كان في مطلع شبابه نجم الأماسي في ملتقيات مجتمعه المثقف المحافظ ... يحب الناس أن يسمعوا صداحه الجميل وشدوه الحنون...

كان هو وخاله ـ ناجي عباس ـ ذو الصوت العذب الرخيم أيضاً، نجمَين في فضاء إدلب... يغنيان ويعزف لهما على العود صديقهما الفنان محمد قاسم آغا... ولولا انصراف والدي وخاله إلى الدين لكانا مطربَيْن وملحنَيْن كبيريْن في الوطن العربي...

ويبدو لي أن الاثنين واجها مشكلة دينية في مطلع شبابهما... فكلاهما أبوه شيخ... وابن بيئةٍ دينية محافظة، وجَّهته إلى دراسة الدين والانصراف إليه... وكلاهما كان يدرك أنه صاحب موهبة فنية عالية هي إيقاع قلبه وترنيم نفسه... وهو لا يقدر أن ينصرف إليها... لأن الغناء سيزْري به في بيئته، وما هو بقادر على أن يقمع موسيقاه الموّارة في أعماقه لأنها جذوة فؤاده ولحن وجوده...

واختار والدي وخاله حلاً وسطاً يرضى عنه الدين، وتبقى معه الموهبة... وهو تلاوة القرآن الكريم ... 

وفي أول الخمسينيات بدأ والدي يتلو القرآن بصوته العذب في الإذاعة السورية، وسار خاله إلى بيروت، وانطلق صوته الرخيم في الإذاعة اللبنانية... ولئن كان والدي قد انصرف إلى دراسة الفقه وآداب اللغة العربية، فقد انصرف خاله إلى تكوين فرقة للإنشاد الديني بقيت على مدى ربع قرن أشهر فرقة في لبنان...

كان ميل أبي إلى عذوبة الصوت ورقّة الألحان، يواكب ميله إلى المرح وحب الناس، ممَّا جعل بيتنا فسحة سمر يلتقي فيها الأصدقاء لقاء سمحاً يتبادلون الأحاديث التي رسخت في ذاكرتي، وكثير منها ما كان مطارحات في النحو وعلوم اللغة...

كان والدي حُجَّة في النحو بين صحبه من المشايخ والمدرسين، وكانوا إذا اختلفوا على إعراب كلمة في آية أو حديث أو بيت شعر، جعلوا والدي ( المُحكّم ) الذي يأخذون بقوله، وغالباً ما يجعل المختلفون فيما بينهم رهاناً... "بهدف التسلية البريئة" هو "صينية كنافة" أو "صينية شعيبيات" يدفع ثمنها الخسران... 

لقد كان هذا الجو الضاحك المتنافس في النحو والصرف والفقه هو مدرستي الأولى التي كانت تمتد إلى مدرستي الثانية التي كان يملكها ويديرها الشيخ نافع شامية رحمه الله، ويعلم فيها العربية والدي، وكان اسمها مدرسة "الفتح" ومنها تخرج العشرات من أبناء جيلي ). 

ولادته ونشأته وشيوخه: 

ولد الشيخ حكمت نعسان آغا في إدلب عام 1920 ، وكانت بيئة إدلب الدينية غنية بحضور علمائها الكبار، ولعل أبرزهم في مطلع القرن العشرين الشيخ برهان الدين العياشي ( مفتي إدلب )، والشيخ الشاعر حسيب الواحدي ، وسيبرز اسم لامع بين مشايخ إدلب ليكون واحداً من أبرز علماء المسلمين في عصره هو الشيخ طاهر الملا الكيالي الذي عيِّن مفتياً لإدلب، ولكنه سرعان ما صار أحد المحاضرين في الجامع الأزهر، و طاف في عدد من البلدان مدرِّساً، وعرف في اسطنبول ومصر وسواهما من بلاد المسلمين .

والده الشيخ خالد نعسان آغا: 

ولقد كان والد الشيخ حكمت الشيخ خالد بن الشيخ مصطفى نعسان آغا أحد تلامذة الشيخ طاهر ومرافقيه، مما جعل ابنه حكمت ينضمُّ سريعاً إلى هذه الكوكبة المتميزة من العلماء الذين باتوا ظاهرة تتحدث عنها سورية كلها ، حتى سميت إدلب ( الأزهر الصغير ) لكثرة عدد علمائها وتفوقهم العلمي والأدبي .

ولقد كان الشيخ خالد نعسان آغا قد انصرف من مطلع شبابه إلى علوم الدين ، شأن كثير من أبناء الأسر الإدلبية الذين توارثوا هذه المكانة التي كانت سمة عصرهم.

محمد نعسان آغا زاده الكبير:

والشيخ خالد بن مصطفى من أحفاد محمد نعسان آغا زاده الكبير الذي برز اسمه في حلب أواخر القرن العاشر الهجري، وكان أحد ولاتها ومن أكبر أثريائها، وقد أقطعه السلطان العثماني قرى عديدة في أرياف جسر الشغور توارثها أبناؤه حتى أواسط القرن العشرين وقد سكنوا في إدلب، وذكر - كامل الغزي في نهر الذهب في تاريخ حلب – قوله : (ولم يزل الساجور منقطعا عن حلب إلى سنة 1040 فاجتهد هذه السنة بجرّه مرة ثانية رجل من أغنياء الحلبيين يقال له: نعسان آغا ووقف عليه وقفا جيدا من خانات ودكاكين وأفران ودور وغير ذلك مما يقوم بوظيفة عمله إذا توهن، فقال بعضهم يمدحه:

لما أتى حلب الساجور قلت له: ... كيف اهتديت وما ساقتك أعوان؟

فقال: كانوا نياما عن مساعدتي ... حتى تيقّظ طرفا وهو نعسان )

وقد درس الشيخ حكمت في مطلع شبابه مع رهط من أبناء إدلب في المدرسة الخسروية في حلب، وتابع حلقة الشيخ طاهر الملا الكيالي، وأخذ عنه الفقه الشافعي بطلب من والده الشيخ خالد الحنفي المذهب، ليتكامل دور البيت في الإفتاء .

موهبته المبكرة: 

ولقد برزت موهبة الشيخ حكمت في سنٍّ مبكرة في فن تلاوة القرآن مع ظهور إذاعة دمشق، وبعدها إذاعة حلب ، فكان من أوائل القرَّاء السوريين ، وكان شديد الإعجاب بمدرسة القارئ المصري الشهير الشيخ محمد رفعت ، حتى إن الصحافة السورية أطلقت في الخمسينيات على الشيخ حكمت لقب ( رفعت الشرق ) لكونه يبدع في نهج وأسلوب هذه المدرسة في تلاوته، وكان من المعجبين بأدائه صديقه الشيخ مصطفى إسماعيل ، وقد التقيا مرات في بيروت .

الحالة الدينية في إدلب: 

يقول ابنه د. رياض في كتابه ( سارح في الزمان ) في وصفه للحالة الدينية في إدلب: (كان الجامع الحمصي منتدى سياسياً، يلتقي فيه الناس ظهر كل جمعة يستمعون إلى خطيبه الشيخ نافع شامية الذي استطاع بخطبه العصماء أن يجمع حوله عدداً ضخماً من المريدين والأنصار، كان لهم على مدى العقود الأربعة التالية دور كبير في الحياة الثقافية والسياسية...

وعلى الرغم من أن والدي الشيخ حكمت كان يخطب الجمعة في مسجد "الصليبة" ثم في "المسجد العمري"، وكان جامعه يكتظ بالشغوفين إلى سماع خُطَبِهِ المجلجلة وفصاحته النادرة، وأحاديثه المشوقة، وربما اجتذبهم صوته العذب الحنون حين يتلو القرآن وهو يؤمّهم في الصلاة، إلاّ أنه لم يكن داعياً إلى حزب سياسي، فقد دعاه أصحابه إلى الانضمام معهم إلى جماعة الإخوان المسلمين في أوائل الخمسينيات، فاعتذر منهم عن الخوض في معارك السياسة، وآثر أن ينصرف إلى تعليم اللغة العربية وعلوم الدين بعيداً عن الانتماءات الحزبية... وقد كلفه موقفه هذا خصومة امتدت أكثر من ربع قرن، وجدلاً دينياً ومذهبياً وسياسياً صرف فيه معظم نشاطه العقلي والجسدي.

علاقته مع الشيخ نافع شامية وموقفه من مدرسة الألباني: 

ورغم أن العلاقة بين والدي وبين الشيخ نافع شامية "رحمهما الله" كانت تضطرب بسبب الخلافات الدينيَّة والمذهبيَّة التي فرَّقتهما منذ منتصف الستينيات إلاّ أن والدي كان يشيد دائماً بفضل الشيخ نافع وأستاذيته، وسَعَة علمه ومعرفته... 

وكان والدي يقول: منذ أن جاء الشيخ ناصر الدين الألباني إلى إدلب تبدَّل حال الناس... فقد صار العامَّة يتجرؤون على الشافعي وعلى أبي حنيفة، ويكذّبون البخاري ومسلم... وصار الأُمِّي في الطريق مفتياً... إذا رآك تقوم للترحيب بقادم... يقول لك: تبوأ مقعدك من النار لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من أراد أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار"!!... حتى بائعو الخضروات في سوق الساحة كانوا يتشاجرون لأن بعضهم يرى أن هذا الحديث النبوي موضوع، وذاك يراه حسناً وثالث يراه صحيحاً... ولم يعد أهل الذكر "يُسْألون" وبات توزيع المقاعد في النار أمراً شائعاً في إدلب... فمن يمسك "سبحة" في يده أدخلوه النار، ومن صلَّى التراويح عشرين ركعة بدل ثمانية أدخلوه النار... ومن حضر مولداً نبوياً أدخلوه النار، وسوى ذلك من الأحكام التي لا تقبل نقضاً لأن شعارها "كل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"...

خطابته في الجامع العمري: 

وكان الشيخ حكمت المعلم يخطب في الجامع العمري، وقد خلفه والدي في هذا الجامع حيث أمضى أكثر من عشرين عاماً على منبره، وكان الشيخ "المعلم" خطيباً بارعاً، متكلماً فصيحاً، و ما تزال نبرة صوته ترنُّ في أذني... وكان يناقش كل جمعة الأحوال السياسية العامة من منظور إسلامي رحب الأفق...

وكان الشيخ سليم الخطيب رحمه الله يخطب في الجامع الأقرعي، وكان واسع العلم والمعرفة، وداعيةً بعيداً عن الأهواء، ولم يكن يدعو إلى فكر سياسي معيَّن...

وكان الناس في إدلب يقضون أمسيات الجمعة في حوار حادّ حول ما تناوله الخطباء في مساجدهم ) .

تدريسه في مساجد إدلب: 

بعد أن ترك الشيخ حكمت عمله في التعليم المدرسي، تمَّ تعيينه مدرساً دينياً لمحافظة إدلب، وبات يطوف في أنحاء المحافظة ويلقي دروسه في مساجدها ، ويلتف الناس حوله لما عرفوا من فصاحته ومن طرافة أحاديثه.

وفاته وتشييعه:

وقد أضر به داء السكري في أواخر حياته، فلزم بيته يستقبل فيه صحبه وسائليه ، حتى وافته المنية في الرابع والعشرين من شهر شباط عام 1992 .

ولقد شيَّعت إدلب الشيخ حكمت في موكب حزين امتدّ بضع كيلومترات، فقد كان رحمه الله صديقاً حميماً لكل من عرفه من أهل إدلب وأريافها، فضلاً عن صداقاته الواسعة داخل سورية وخارجها.. فقد كان أستاذاً لأجيال متعاقبة حفظت له على مدى خمسين عاماً ونيف تفانيه في خدمة العلم والثقافة، وجهاده الأكبر في خدمة الإسلام واللغة العربية، وسعيه بين الناس لحلِّ مشكلاتهم وخلافاتهم، وانفتاحه الفكري على عصره، واتِّساعه المدهش للآخرين في غير تعصب أو تزمُّت، فقد كان أصدقاؤه المقرّبون يمثلون كل الاتجاهات والمذاهب.. بينهم المسيحيون وكان يخصهم بمودة فائقة، وبينهم كل اتجاهات المذاهب الإسلامية، لا ينظر في علاقاته بهم من منظار مذهبي أو طائفي، وكان يرى في هذا الاختلاف دفع الله الناس بعضهم ببعض.

لقد عاش رحمه الله اثنتين وسبعين سنة، قابضاً على دينه، ولم يفتنه هواه في صباه، ولم تكن له حياة خاصَّة غير التي يعرفها الناس، فقد عاش الحياة صراحة لا لبس فيها ولا غموض، ولا التواء ولا جحود، مخلصاً لقضيته، مجاهراً بها، داعية إلى الله، ومنافحاً عن القيم.. وندعو الله أن يسكنه فسيح جناته وأن يجمعنا به في مستقر رحمته.