الشيخ محمد المبارك - العالم والداعية والمفكر

سيرة الأستاذ الكبير الشيخ محمد المبارك أبو هاشم

بقلم العلامة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء :

هو النجل الأكبر لاستاذ الجيل الشيخ عبد القادر المبارك. كان والده الشيخ عبد القادر أستاذ الأدب العربي ، واللغوي المرجع في دمشق لكل سؤال يتعلق باللغة العربية ، وعضواً في المجمع العلمي في دمشق .

1- أول معرفتي بالأستاذ محمد المبارك كان في مدرسة عنبر الثانوية الرسمية في دمشق في العشرينات من هذا القرن العشرين . ففي سنة /1929 جئت أنا من حلق إلى دمشق للالتحاق بمدرسة عنبر (الثانوية) في الصف الثاني عشر( صف الفلسفة والرياضيات) . وكان هو الصف الوحيد فيها للسنة الثانية عشر لسائر المحافظات الأخرى في البلاد السورية .

كان محمد المبارك إذ ذاك طالباً في السنة العاشرة من الدراسة الثانوية، وكان متميزاً مرموقاً بين رفاقه .

2- لما أكمل دراسته الثانوية وتخرج منها فتحت مسابقة في وزارة المعارف لا يفاد طلاب إلى فرنسا ليدخلوا الجامعة في باريس ، ويعودوا أساتذة في الثانويات السورية. فاغتنم محمد المبارك هذه الفرصة، ودخل المسابقة في فرع الأدب العربي، ونجح فيها بتفوق فأوفدته الدولة على حسابها في جملة من أوفدت إلى باريس العاصمة الفرنسية ليدخل كلية الآداب ( قسم الأدب العربي) في جامعة السوربون بباريس في منتصف الثلاثينيات ، وعاد مجازاً إلى دمشق، في الأدب العربي وفي علم الاجتماع. وتم تعيينه بعد عودته استاذاً للأدب العربي في المدرسة الثانوية بمدينة حلب .

كان من أبرز أساتذته في باريس : الأستاذان المستشرقان المشهوران ؛ مارسيه ، وماسينيون، وخلال وجوده في هذه المرحلة من حياته في حلب تزوج زوجته الحلبية من آل البيانوني ، وهي أم أولاده أحسن الله عزاءها . وقد ظل في حلب في وظيفته هذه مدة طويلة تعرف خلالها إلى إخوانه العاملين في الحقل الإسلامي ، كالأستاذ معروف الدواليبي ، وعمر بهاء الأميري ، والمحامي عبد القادر السبسي، وغيرهم .

ثم نقل إلى دمشق وتابع فيها مهمته. وتعرف على بقية إخوانه الذين يتلاءمون معه ويتعاونون فكرياً وعملياً في الحقل الإسلامي ، كالأستاذ نهاد القاسم ، واولأستاذ عبدالوهاب الأزرق، والأستاذ مصطفى السباعي المرشد العام للإخوان المسلمين في سورية ، والأستاذ عصام العطار .

ثم لما أجريت أول انتخابات نيابية بعد استقلال سورية وخلاصها من الانتداب والاحتلال الفرنسي خاض الانتخابات النيابية، ونجح فيها هو والأستاذ مصطفى السباعي، فكانا مع بعض النواب الآخرين دعامة الجبهة الإسلامية في مجلس النواب الذي اعتبر مجلساً تأسيسياً لوضع الدستور السوري .

وفي هذه المرحلة اشتدت المعركة بين الجبهة الإسلامية التي كان أبرز قياديها في المجلس التأسيسي هو والأستاذ مصطفى السباعي حول الموضوع الخطير الذي أثير في المجلس وهو النص في أوائل مشروع الدستور على أن : دين الدولة السورية هو الإسلام، وبين خصوم هذا النص وهم المسيحيون والعلمانيون والشيوعيون . وقد حمي الوطيس بن الفريقين . ثم انتهت المعركة بالنص في المادة الثالثة من المشروع على أن الإسلام مصدر رئيسي للتشريع في سورية . هذه كانت أهم المواقف الصعبة التي واجهها الأستاذان المبارك والسباعي في مجلس النواب ، ومن يساندهم خارج المجلس .

3- وبعد انتهاء هذه الدورة التشريعية للمجلس ومدتها أربع سنوات ألفت وزارة مؤقتة لأجل انتخابات المجلس النيابي، فأدخل الأستاذ / محمد المبارك في هذه الوزارة المؤقتة ، وأعطي وزارة الأشغال العامة ، فشهدت منه خير وزير منحها كل اهتمامه، وقام على إدارتها خير قيام .

ثم في سنة /1954 لما أجريت الانتخابات النيابية لأجل دور تشريعي جديد دخلها الأستاذ محمد المبارك عن دمشق ، ودخلتها أنا عن حلب ، ونجحنا كلانا فيها ، فألفنا مع بضعة نواب آخرين في مجلس النواب الجبهة الإسلامية .

وقد نجح في هذه الدورة خالد بكداش عن الشيوعيين وعدد وفير من البعثيين، فكانت الجبهة الإسلامية مع من تحالفت معه من الآخرين جداراً استنادياً في وجه خصوم الإسلام من العلمانيين والبعثيين والشيوعيين في المجلس النيابي .

وقد عانينا في هذه المرحلة أنا واولأستاذ المبارك ولاقينا الأهوال من هذه الفئات الثلاث ومؤامراتهم ، وكنت وإياه نتعاون ونتناوب المواقف الصعبة في المجلس. ثم انتهى هذا الدور التشريعي عام / 1958 ، بالوحدة بين مصر وسورية التي دامت ثلاث سنوات ثم فشلت وانفرطت، فقد عقدها العسكريون ونقضها العسكريون أنفسهم!! .

4- مزايا الأستاذ محمد مبارك :

كان رحمه الله جم المواهب الفكرية ، واسع الثقافة العصرية إلى جانب ثقافته العميقة ، وحسن التحليل للقضايا المعقدة ، سريع البديهة ، خطيباً كاتباً باحثاً متعمقاً، حسن التمييز بين الأولويات الإسلامية ، قوي الحجة في المناقشة والمناظرة ، بعيداً عن الشبهات والمواقف المريبة ، صادق الوطنية في عهد الاستعمار الفرنسي للبلاد ، متواضعاً يحب البساطة في حياته ويكره التكلف .

إنه بين إخوانه الذين كان يتعاون معهم على الواجبات الإسلامية والعلمية يعد ثروة لهم يغني عن كثيرين ، ولا يقوم مقامه كثيرون .

كان أول من فكر من علماء العصر الإسلاميين بوجوب تدريس مادة في الجامعات العربية على المستوى الجامعي لكل الكليات باسم : نظام الإسلام يعرض فيها الإسلام بمفهومه العام ونظرته الشاملة لله تعالى والكون والإنسان ، وينظم حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً في هذه الحياة الدنيا على أساس أنها طريق إلى الآخرة ليوم الحساب، وتوزع المعلومات في كتاب نظام الإسلام على هذه الأركان الثلاثة : الله ، والكون ، والإنسان :

- ففي البحث عن الله تعالى يلخص للطلاب خلاصة من علم التوحيد عن وجود الله وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر بأسلوب جديد .

- وفي البحث عن الكون يعرض ما في الكون من آيات ناطقة عن الله ونظام معجز محير للعلماء كلما تبحروا فيه ، وإنه كله إلى زوال ويبقى وجه الله ذو الجلال والإكرام .

- وفي البحث عن الإنسان تبين نظرة الإسلام إلى هذا الإنسان المتميز عن سائر المخلوقات ، وما يجب أن يكون عليه البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية والاقتصادية، وتعرض هنا خلاصة عن النظام القانوني الذي جاء به الإسلام لتنظيم حياة الإنسان وسلوكه من جميع جوانبها الحقوقية والجنائية والأسرية أفراداً ومجتمعات وفقاً لقوله تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبـير).

وقد بدأ رحمه الله بوضع كتاب باسم نظام الإسلام تطبيقاً لفكرته ، وتولى تدريس هذه المادة في الجامعة الأردنية .

5- كذلك كان الأستاذ / محمد المبارك رحمه الله أول من فكر بضرورة إعادة النظر في علم الاجتماع الذي يدرس بصورته المستمدة من وراء العلماء والفلاسفة الأجانب الملحدين ، ويدرس في الجامعات العربية بوضعه الحالي المعروف الذي يؤدي إلى الإلحاد.

فيرى الأستاذ المبارك ضرورة لكتابة علم اجتماع إسلامي متفق مع مسلمات الإسلام وثوابته في القرآن والسنة النبوية .

وقد كلف في آخر حياته في الجامعة الأردنية بتدريس علم الاجتماع الإسلامي على صعيد الجامعة للطلاب من جميع الكليات ، وقام بذلك فعلاص في عام واحد أو أكثر ، ولكنه لم يبدأ بوضع كتاب كما فعل في موضوع نظام الإسلامي ، بل توفاه الله قبل أن يبدأ بتنفيذ فكرته .

6- أن الأستاذ محمد المبارك كان يعد بمفرده وفي ذاته فريقاً من العلماء والدعاة ذوي المواهب المتنوعة . وقد خسر العالم الإسلامي بوفاته خسارة كبيرة لا أظن أنها تعوض في مائة عام .

تولى عمادة كلية الشريعة في جامعة دمشق بعد وفاة عميدها الأول الأستاذ الدكتور/ مصطفى حسني السباعي رحمه الله ، فأدارها خير إدارة ، وخلف الدكتور السباعي خير خلافه .

وقد ترك لنا من مؤلفاته العديدة وكتاباته ما يدل على مدى ما كان يتمتع به رحمه الله من فكر متميز ، وبصيرة إسلامية نيرة ، وأفق واسع .

حدثني عن أستاذه المستشرق ماسينيون أنه ذكر لمجموعة من طلابه ، وفيهم الأستاذ محمد المبارك كانوا في زيارته في بيته بباريس ، قال لهم : نحن المستشرقين بذلنا جهوداً كبيرة خلال ثلاثة أجيال في تتبع مخطوطات القرآن الكريم من أقدم ما هو محفوظ في دور الآثار والمكتبات العالمية ، حتى الأوراق المفردة المقطوعة من مصاحف قديمة فقدت ، وقارنا كل ذلك بالمصاحب المطبوعة، لكي نعثر على أي اختلاف بين المصاحف من مصحف عثمان إلى مختلف العصور حتى المصاحف في عصرنا ، ولو كان اختلافاً في آية أو جملة أو كلمة ، فلم نجد أي اختلاف ، ما جعلنا نعتقد مستيقنين أن القرآن الذي نطق به محمد باق إلى اليوم كما نطق به لم يتبدل فيه شيء !! .

أقول : وصدق الله العظيم إذ يقول : ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[.
أسأل الله سبحانه أن يجيز أخانا المبارك الذي سبقنا إلى لقاء ربه ، عن جهاده في سبيل الله ، خير ما يجيز به عباده الصالحين في جنات النعيم المقيم ، فإننا إذا أردنا أن نعد المجاهدين في سبيل الإسلام في العصر الحاضر يبرز الأستاذ محمد المبارك رحمه الله في طليعتهم .